دفعت حادثة الموت المفزعة التي تعرض لها بائع السمك المغربي في 28 تشرين الأول/ أكتوبر بالآلاف من المغاربة للخروج إلى الشوارع للاحتجاج، إلا أن هذا الشاب محسن فكري لن يكون النسخة الثانية من محمد البوعزيزي مفجر الثورة التونسية.
هل ستذكر كتب التاريخ، خلال العقود المقبلة، عبارة “الربيع العربي” في صيغة المفرد أو الجمع؟ إلى حد الآن كلتا الصيغتين مستعملتين، إذ إن الثورات التي بدأت منذ سنة 2011 أدخلت تغييرات على المجال الجغرافي الممتد من شمال إفريقيا حتى الشرق الأوسط، لكن تبدو كل التحركات الشعبية بداية من ليبيا إلى اليمن ومرورًا بالبحرين، التي أسقطت الأنظمة الحاكمة في هذه الدول متشابهةً في كثير من الأشياء ومختلفةً في أشياء أخرى.
في يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر، أقدم محمد البوعزيزي على الانتحار عبر إضرام النار في جسده أمام مبنى حكومي في مدينة سيدي بوزيد الواقعة في منطقة الوسط التونسي، شاهد هذا البائع المتجول بضاعته تصادر أمام عينيه من قبل السلطات المحلية المعروفة بالفساد، وقد أشعلت ردة فعله اليائسة والمميتة موجةً من الغضب الشعبي في محافظة سيدي بوزيد، امتدت لتشمل آلاف المواطنين الذين خرجوا إلى الشوارع في كل مدن وسط تونس، لأنهم كانوا منذ سنوات يعانون من التهميش الممنهج الذي تمارسه السلطة التي لم تكن تكترث للتوزيع العادل للثروات، وسرعان ما تحولت حبة الرمل هذه إلى عاصفة مثلت الشرارة الأولى للثورة التي أطاحت بالدكتاتور زين العابدين بن علي.
يوتيوب ينشر الغضب
عند التدقيق في الأحداث تبدو الاحتجاجات التي تتزايد خلال الأيام الأخيرة في منطقة الريف بشمال المغرب شبيهة بما حدث في الثورة التونسية، إذ إن سبب غضب الشعب كان هذه المرة أيضًا النهاية المأساوية التي لقيها بائع السمك محسن فكري يوم 28 تشرين الأول/ أكتوبر، هذا الشاب الفقير الذي كان يحاول استعادة بضاعته التي تم رميها في شاحنة القمامة من قبل بلدية الحسيمة، علق جسده داخل آلة ضغط القمامة، وانتشر مقطع فيديو يعرض تلك الحادثة المأساوية على موقع يوتيوب، حيث شاهده مئات الآلاف من الناس خلال وقت قصير.
ويوم الأحد 30 تشرين الأول/ أكتوبر شارك آلاف المغاربة في جنازة هذا الشاب، وفي نفس تلك الليلة اجتاحت موجة من المحتجين مركز مدينة الحسيمة رافعة شعارات ضد الدكتاتورية والظلم مثل “مجرمون قتلة”، و”اوقفوا الحقرة” (احتقار الفقراء)، وأيضًا “استمع أيها المخزن (بلاط الملك) لا تهن سكان الريف”، وفي مساء يوم الثلاثاء من غُرّة تشرين الثاني/ نوفمبر، تجددت الاحتجاجات في مدينة الحسيمة، تحديدًا إمزور وهي مدينة صغيرة تعيش فيها عائلة محسن فكري وتم دفن جثمانه فيها، كما انعقدت تجمعات شعبية أخرى في الدار البيضاء والرباط ومراكش.
وقد أشار أحد مستعملي الإنترنت المغاربة في تغريدة له إلى أن الوقفة الاحتجاجية في الرباط تحولت إلى مسيرة تجمع فيها مئات الأشخاص الذين رددوا شعارات تتهم الدولة بالفساد.
وتمامًا مثل منطقة الوسط التونسي، تعاني منطقة الريف المغربية من الفقر بسبب عقود من التهميش من قبل السلطة المركزية، على الرغم من أن الملك محمد السادس اعتمد سياسة مغايرة لوالده الملك الراحل، حيث أطلق مجموعة من المشاريع الاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة.
نظام الحكم مستقر
يبدو للوهلة الأولى أن إيجاد وجه الشبه بين محسن فكري ومحمد البوعزيزي أمرٌ سهل، حيث أن كلا الرجلين يرمزان إلى وقوف الشعب في مواجهة السلطة الفاسدة، وكلاهما أيضًا ينحدر من المناطق الفقيرة والمهمشة، وكانت وفاتهما بطريقة مأساوية وصادمة سببًا في صدمة وغضب الناس، ولكن المغرب ليس تونس، والحسيمة ليست سيدي بوزيد.
وفي هذا السياق، صرّح مدير معهد العلوم السياسية بالرباط، جون نوال فيري، أن “المقارنة بين النموذجين ليست في محلها، ففي سنة 2011 في تونس كان هناك دكتاتور هرم وضعيف، يقود حزبًا سياسيًا يمثل النخبة الفاسدة، أما في المغرب فإن الملك يحظى بمحبة المغاربة، وقد قبل بتنظيم انتخابات تشريعية جرت مؤخرًا في أجواء ديمقراطية للغاية، ولذلك فإن نظام الحكم في المغرب يعدّ مستقرًا”.
في شباط/ فبراير 2011، خرجت فئات من الشعب المغربي إلى الشوارع، وقد شجّعتها رياح التغيير التي هبت مع بداية الربيع العربي، هذه التحركات قادتها حركة 20 فبراير، وقد ندد المحتجون بغياب العدالة وارتفاع كلفة المعيشة وطالبوا بمزيد من الحريات، وسعت السلطات في البداية للتعامل بليونة مع هذا الحراك ولكن مع نهاية شتاء سنة 2011 بدأت هذه التجمعات الاحتجاجية تقابل بشيء من الحزم والقوة من قبل قوات حفظ النظام، وتطورت الأمور حتى بلغ العنف ذروته في شهر أيار/ مايو حيث أدت حينها إلى وفاة كمال عمّاري الذي عنفته الشرطة حتى الموت في مدينة آسفي.
ولكن المؤسسة الملكية في المغرب عوض أن تسمح لدائرة العنف بالاتساع أو تهدد وجودها، سارعت بالاستجابة لهذه التحركات عبر سن إصلاحات دستورية وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، وهي استجابة ملموسة من الملك الذي نجح في إرضاء الرأي العام، وتمكن حزب العدالة والتنمية الذي يمثل الإسلاميين في المغرب من الفوز في هذه الانتخابات التي تم تنظيمها في شهر تموز/ يوليو سنة 2011، وبذلك عين الملك زعيم حزب العدالة والتنمية عبد الإله بن كيران في منصب رئيس الوزراء، وتجدر الإشارة إلى أن نفس هذا الحزب الإسلامي نجح مؤخرًا في الفوز بالانتخابات التشريعية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2016.
الغضب على الشرطة وليس على الملك
في الحقيقة، لم يتعرض نظام الحكم في المغرب لأي هجوم مباشر من قبل المتظاهرين المغاربة، سواءً في تحركات سنة 2011 أو التحركات الجارية حاليًا في منطقة الريف.
وتفسر منية بناني شرايبي الباحثة بالحركات الاجتماعية في العالم العربي بمعهد الدراسات السياسية والدولية في لوزان هذا الأمر بالقول: “في سنة 2011 وفي إطار حركة 20 فبراير قرر قادة هذا الحراك أن يحددوا لأنفسهم خطوطًا حمراء، حيث إنهم تجنبوا الدخول في مواجهة مباشرة مع الملك، على الرغم من أنهم يدركون رغبة البعض في الانتقال إلى النظام الجمهوري، ورغبة آخرين في التحول نحو نظام ملكي برلماني، كما أنه في كل من تونس ومصر تجاوزت التحركات العفوية في الشارع أي إطار تنظيمي محدد، ولكن ذلك لم يحدث في المغرب”.
واليوم يبدو المشهد في المغرب مشابهًا بشكل كبير لما كان عليه قبل خمس سنوات بالضبط في مملكة محمد السادس، وحول هذا الأمر يقول جون نوال فيري: “بعكس ما حدث في تونس في 2011 فإن النظام المغربي تفاعل بسرعة، حيث إنه حمل وزير الداخلية المسؤولية، ثم أمر بإيقاف ثمانية أشخاص على ارتباط بحادثة وفاة محسن فكري، كما أن المواطنين يشعرون بأن لديهم حرية التظاهر ويخرجون للشوارع دون أن يشعروا بالخوف، ولذلك فإن الغضب الشعبي يتجه شيئا فشيء نحو أجهزة الشرطة وليس نحو الملك، وهي مفارقة يمكن أن نلاحظها جيدًا في المغرب”.
الطبقة المتوسطة بالمغرب تشعر “بالحيف”
في خضم التغيرات الكبيرة التي يشهدها شمال إفريقيا، لم يكن المغرب جزيرةً منعزلة عن هذه التغيرات، حيث إن المتظاهرين في الريف المغربي رفعوا شعارات ضد “الحقرة”، وهو كلمة عاميّة تؤكد على رفض الظلم والتجاوزات التي تقوم بها السلطة فضلاً عن الإهانات التي توجهها للمواطنين، وهذا الشعور لم يكن موجهًا فقط لقوات حفظ الأمن وللسلطات المحلية.
وفي هذا السياق، قال عالم الاجتماع في جامعة الرباط، عبد الصمد الديالمي: “المغرب اليوم تعلم من ماضيه المليء بالاستبداد والفساد، ولهذا يشعر الشعب بأنه “محقور”، لأنه لديه الانطباع بأن القانون يطبق فقط على الأشخاص الذين لا يتمتعون بأي نفوذ مالي أو سياسي، وهم الأشخاص الذين لا يمتلكون شبكة العلاقات والمكانة الاجتماعية، كما يشعر المواطن المغربي العادي بالحيف والمعاملة السيئة، ويقف عاجزًا وحانقًا أمام مختلف أشكال الاستبداد والظلم التي تمارسها السلطة ضده دون احترام للقانون، ولذلك، فإن السبب الأساسي لانتشار ظاهرة الحقرة هو غياب سيادة القانون”.
الحلول البسيطة لا تكفي
كانت مدينة الحسيمة، في سنة 2011، أحد مراكز الحراك والاحتجاجات التي شهدها المغرب، ورغم الجهود الحثيثة التي يقوم بها محمد السادس منذ سنوات عديدة لدفع عجلة الاقتصاد في شمال المملكة، إلا أن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية لا تزال بارزة وتمثل حاضنة مثالية للغضب والاحتجاجات.
وقد صرّحت الصحفيّة ليلا جاسنتوا أن منطقة الريف في المغرب، تشهد اليوم أعلى معدلات الفقر والوفيات عند الولادة والأمية في صفوف النساء، كما أنها تشهد نموًا اقتصاديًا بطيئًا في المملكة، وعلى الرغم من أن الملك الحالي محمد السادس نجح في الاستثمار في هذه المنطقة وأصبح يوليها اهتمامًا كبيرًا ويقضي فيها بعض عطلاته، إلا أن فوائد هذه اللفتة لم تصل إلى حد الآن إلى سكان المنطقة من الفقراء.
وبهدف عدم جعل محسن فكري نسخة جديدة من محمد البوعزيزي في المغرب وتهدئة الغضب الشعبي، يجب على النظام الحاكم ألا يكتفي بالحلول البسيطة التي تخفي المشاكل الحقيقية وتؤدي إلى تواصل النزيف، وهي مشاكل ظهرت جليًا في حادثة الوفاة المفزعة والوحشية التي تعرض لها بائع السمك، ولذلك، يجب على السلطة أن تضع إصبعها على أصل الداء، وهو التفاوت الاجتماعي الذي يدمر حياة المغاربة البسطاء. وإذا لم يحدث ذلك فإن الشعب المغربي قد يصل به الأمر في يوم ما إلى المطالبة برحيل الملك محمد السادس، رغم كل الاختلافات بين المغرب وتونس.
المصدر: سلايت