طور العثمانيون الأتراك، وأغلبهم من أتباع المذهب الحنفي، تقاليد تدين خاصة، بينها اختتام صلوات الجماعة بعدد من الأدعية والتسبيحات. أحد هذه الأدعية كان ‘اللهم احفظ الدين والدولة.’ التوجه إلى الله لحفظ الدين ليس فيه ما هو غريب، بالطبع، ولكن لماذا حفظ الدولة؟ ما قد يخطر على الذهن للوهلة الأولى أن هذا دعاء زرع ضمن تقاليد الجماعة العثمانية من قبل رجال دين مرتبطين بالسلطنة، باعتباره جزءاً من أيديولوجية الدولة ذاتها، وسعيها الطبيعي للسيطرة والتحكم.
ولكن هذا التفسير على الأرجح غير صحيح؛ فقد بني النظام العثماني على تقاليد سابقة للدولة، كما تجلت في العصر العباسي، والعهد السلجوقي منه على وجه الخصوص، حيث لم يكن للدولة الإسلامية أن تتدخل في الفضاء الديني لرعيتها، بما في ذلك المسلمون السنة منهم. لم تكن الدولة مصدر التشريع، ولا استندت أحكام القضاة وآراء المفتين، بالرغم من أن قطاعاً منهم أصبح بالفعل جزءاً من بيروقراطية الدولة، إلى قوانين الدولة وتعليماتها.
الصحيح، ربما، في أصل هذا الدعاء، أنه مثل تجلياً لوعي الجماعة العثمانية المسلمة بأن الدولة صنو الدين في حفظ النظام والسلم والرفاه ووحدة الجماعة.
ولدت الدولة العثمانية في تخوم الإسلام الأناضولية، ولحقبة طويلة، كانت المنطقة الواقعة الآن بين البوسفور وغرب وشمالي غرب إيران، وصولاً إلى شمالي العراق وشمالي شرق سوريا، أكثر بلاد الإسلام فقداناً للاستقرار. هنا اصطدمت جيوش الفتح بأنظمة غير إسلامية سابقة؛ وهنا انتهت مسيرات الجند والأسر الطامحة في مسيراتها المتكررة من الشرق إلى الغرب، ولدت إمارات وسلطنات وأسر حاكمة وسقطت أخرى؛ وهنا ولدت طرق صوفية غامضة التصور، وفرق دينية غنوصية، وعقائد خارجة عن السياق العام، عكست خليطاً غريباً من الإسلام والعقائد الدينية الشرقية القديمة وعادات وتقاليد محلية. الدعاء لله بحفظ الدين والدولة، إذن، هو تعبير عن الرغبة الجمعية في الاستقرار، وعن سعي الجماعة لتجنب الشقاق والفتنة وخوفها المتأصل منهما. مهما كان الأمر، فمن الواضح أن فكرة الدولة تحتل موقعاً بارزاً في الوعي التركي الحديث، الذي هو في النهاية امتداد عضوي للوعي التركي العثماني.
والمدهش، بالرغم من الانتقالات الحادة والاضطرابات التي تعرضت لها الدولة العثمانية المتأخرة والدولة الجمهورية، أن الدولة حافظت على استمراريتها بلا انقطاع ملموس.
استمرت الدولة عبر حقبة التنظيمات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، التي أسست خلال ما لا يزيد عن عقدين مؤسسة الدولة الحديثة؛ واستمرت عبر حروب البلقان الدموية؛ انقلابي الاتحاد والترقي في مطلع القرن العشرين؛ الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة؛ حرب الاستقلال وولادة الجمهورية؛ الانتقال نحو التعددية السياسية في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات؛ وسلسلة من الانقلابات العسكرية. ولا يقل دلالة أن هذه التحولات والاضطرابات السياسية الحادة، والتدافعات المستمرة بين القوى السياسية والاجتماعية، لم تؤد ولو مرة طوال قرون، إلى ثورة الأتراك على دولتهم، بغض النظر عن طبيعة هذه الدولة وتوجهها. هذا الموقع الذي تحتله الدولة في وعي الأتراك هو الذي يجعل الجدل الدائر في تركيا اليوم حول الفساد والسياسة، وحول التدافع بين حزب العدالة والتنمية، ذي الخلفية الإسلامية المحافظة، وجماعة فتح الله غولن، ذات الخلفية الإسلامية المحافظة أيضاً، وحول الدولة السرية في أجهزة الدولة، بالغ الأهمية والدلالة.
أسس حزب العدالة والتنمية، كما هو معروف، في 2001، بقيادة مجموعة من الشبان، الذين اتخذوا قراراً بمغادرة حزب الرفاه الإسلامي، المرتبط بالزعيم التركي التاريخي نجم الدين إربكان، بعد أن وصلوا لقناعة بأن لا أيديولوجية الرفاه وبرنامجه ولا نهج إربكان في القيادة يمكن أن ينجحا في تحطيم الجدران التي تحاصر الحزب. في تشرين ثاني/ نوفمبر 2002، فاز العدالة والتنمية فوزاً ساحقاً في الانتخابات البرلمانية، مما أعطاه الحق في تشكيل الحكومة منفرداً. ولكن خروج قيادات العدالة والتنمية من الرفاه، وإعلانهم الواضح القبول بعلمانية الدولة، والأسس التي تستند إليها الجمهورية، لم يحصنهم من الشكوك، سواء داخل تركيا وخارجها. وفي حين أعلن حزب العدالة والتنمية نفسه حزباً ديمقراطياً، علمانياً، محافظاً، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، كانت أقل الاتهامات الموجهة له أنه ليس سوى حزب إسلامي سياسي، تقوده مجموعة أكثر ذكاءً من أربكان، تعمل على تحويل تركيا إلى جمهورية إسلامية، لا تختلف عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
من جهة أخرى، وبالرغم من أن الحكومة الأولى للعدالة والتنمية ضمت شخصيات من خلفيات حزبية محافظة أخرى، بعضهم لم يكن غريباً عن أجهزة الدولة ومجلس الوزراء، نظرت الدولة التركية، بقضائها وجيشها وبيروقراطيتها، إلى الحكام الجدد بقدر كبير من التوجس.
خلال العقود الثلاثة الأولى من عمر الجمهورية، التي قاد خلالها حزب الشعب الجمهوري البلاد منفرداً، تكونت طبقة حاكمة بكل ما في الكلمة من معنى، سيطرت وتوارثت السيطرة على مؤسسة الدولة، على جيشها وأجهزة أمنها، على اقتصادها وبنوكها، وعلى إعلامها. وكلما وجدت هذه الطبقة أنها مهددة بفعل حزب حاكم جديد أو حراك شعبي سياسي، تحركت للإطاحة بهذا الحزب، أو استيعابه في صفوفها، أو باستدعاء الجيش للانقلاب عليه وقمع الحراك الشعبي. وهذا ما ولد التوجس والخشية من حزب العدالة والتنمية، وجعله مهدداً بقرار حل قضائي مرة، وبمؤامرات انقلابية مرات، وبحملة تشويه إعلامية منظمة طوال الوقت. وليس حتى انتصار العدالة والتنمية الانتخابي المدوي الثاني في 2007 أن استقرت الأمور نسبياً، وأصبح بإمكانه الحكم بدون أن يقلق كثيراً من مؤامرة أخرى في منعطف الطريق المقبل. تحدث الحزب بلغة تختلف عن النخبة التقليدية الحاكمة، الأتراك أصحاب الدم الأزرق، كما يعرفون في تركيا، وأغلق معظم منافذ الفساد، المباشر وغير المباشر، وبدا أنه يؤسس لسياسة خارجية لم تعرفها الحكومات الجمهورية من قبل. الصعوبات التي واجهتها حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة، جعلته أكثر تصميماً على إصلاح مؤسسة الدولة، بهدف تحريرها من الأيديولوجيات الحصرية، ومن نفوذ القوى السرية المؤثرة، لتصبح أكثر مهنية، وديمقراطية وخضوعاً لإرادة الشعب الانتخابية. وقد انعكس هذا التصميم في سلسلة متوالية من القوانين وعشرات التعديلات الدستورية، التي طالت كافة أجهزة الدولة والعلاقة بين الدولة والشعب. ما ساعد إردوغان وحزبه على المضي في هذا الطريق طوال عشر سنوات، لم يكن الدعم الشعبي المتزايد من عام إلى آخر وحسب، ولكن أيضاً نضال الشعب المتراكم على مدى خمسين عاماً من أجل الديمقراطية، الذي جعل من محاولة الانقلاب على حكومة منتخبة هذه المرة خياراً محفوفاً بالمخاطر.
بيد أن خطأ ما كان يتفاقم في جسم الدولة التركية، بدون أن يجد من يعالجه بصورة كاملة. فقد وفر مناخ الحريات غير المسبوق في العقد الماضي فرصة لأن تنشط كافة منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك الجماعات الدينية والصوفية. إحدى هذه الجماعات، المعروفة باسم زعيمها فتح الله غولن، نمت واتسع نشاطها بصورة هائلة، لتتفوق على نظيراتها من الجماعات الدينية ذات الخلفية النورسية. كانت الجماعة بدأت نشاطها بصورة تنظيمية فعالة منذ مطلع الثمانينات، مباشرة بعد انقلاب خريف 1980؛ وقد سمح لها النظام العسكري بالعمل، كما جماعات نورسية أخرى، على أساس أنها جماعة دينية، خيرية، خدمية، لا تعمل بالسياسة. ويرتبط عناصر الجماعة، سيما الكادر الفعال في بنيتها، ارتباطاً صوفياً غامضاً بزعيمها فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة منذ نهاية التسعينات، باعتباره زعيماً ملهماً، وأقرب إلى الشخصية المعصومة منه إلى العالم كما تعرفه التقاليد الإسلامية السنية.
شهدت السنوات العشر الماضية توسعاً في نشاطات الجماعة في حقول عملها التقليدية، كما في مجالات التعليم والتعليم الجامعي، الاستثمارات المالية والبنكية، المستشفيات والصحة، والإعلام بكافة وسائله. وقد ولدت في تركيا أسطورة بولغ فيها إلى حد كبير، ساهمت الجماعة في صناعتها، تتعلق بتمتعها بوزن انتخابي كبير، وبأن دعمها لحكم العدالة والتنمية في السنوات العشر الماضية، يعني إن مصير العدالة والتنمية الانتخابي بات مرتبطاً بقرار الجماعة السياسي. لم تشكل الجماعة حزبها، وليس لديها برنامج سياسي، يمكن أن يحاكمها الشعب على أساسه، ولكن ثمة عددا من المؤشرات على أنها سعت خلال السنوات القليلة الماضية إلى تعهد دور الشريك في قرارات الحكومة السياسية الرئيسية.
وهذا ما أشعل الصدام بين الجماعة وحكومة العدالة والتنمية، بداية من سياسة الحكومة تجاه الدولة العبرية، الخطوات التاريخية لحل المسألة الكردية، العلاقات الحسنة بين تركيا وإيران، والموقف من التطورات في المنطقة العربية. في كل هذه الملفات، تبدو الجماعة وكأنها أكثر حرصاً على تنفيذ أجندات دوائر أجنبية، منها إلى حراسة المصالح التركية التي لا يختلف عليها كثيرون. خلال العامين الماضين، وفي عدد من المناسبات، حاولت الجماعة أن تفرض على إردوغان سياسات معينة، أو أن يعين أفراداً منها في مواقع مؤثرة من جهاز الدولة؛ إضافة إلى عملها الحثيث للتغلغل في دوائر القضاء والبوليس والنيابة.
القول إن إردوغان غض النظر طويلاً عن تسلل الجماعة إلى أجهزة الدولة ليس صحيحاً كلياً. الحقيقة، أن رئيس الحكومة، مرة علناً ومرات بصورة غير علنية، بدأ في اتخاذ إجراءات ملموسة للحد من نفوذ الدولة الموازية التي تحاول الجماعة بناءها في جسم الدولة. ولكن الجماعة ذهبت هذه المرة بعيداً في محاولتها تحدي الإرادة الانتخابية للشعب، وإطاحة رئيس حكومة منتخب. وكان لابد بالتالي أن توضع الحقائق سافرة أمام الشعب، بغض النظر عن التكلفة السياسية للحزب الحاكم: في قلب الدولة، التي تحتل موقعاً بالغ الخصوصية في الوعي التركي، ثمة دولة أخرى موازية، تحاول أن تقرر مصير البلاد بالصورة التي ترتأيها وتخدم مصالحها.