كتب محمد الدهشان وأليسون ماكمانوس
ترجمة وتحرير نون بوست
تقرر، بعد أشهر من التخمينات والتوقعات والتكهنات، تعويم الجنيه المصري في السوق المصرية يوم الخميس. كان سعر الصرف في صباح ذلك اليوم 8.88 جنيه مصري للدولار الواحد، وأغلق البنك الدولي التجاري ذلك اليوم سعر بيع الدولار على 16 جنيه.
بعد إعلان التعويم، وضع البنك المركزي نطاق الأسعار المستهدفة بحوالي 13 جنيه للدولار الواحد مع هامش تحرك يقدر بحوالي 10 بالمائة. وعلى الرغم من هذا أغلقت البنوك، يوم الخميس، على سعر خارج هذا النطاق بالمطلق. لذا سيتواصل تقلب الجنيه مع اقتراب صرف القرض المنتظر من بنك النقد الدولي، الذي تبلغ قيمته 12 مليار دولار.
صاحب التعويم أسبوع مضطرب للجنيه المصري؛ حيث تفيد التقارير الصادرة منذ يوم الاثنين أن أسعار الصرف تفوق 18 جنيه أحيانا، وتهبط دون 11.5 جنيه للدولار، أحيانا أخرى. عرفت حالة الذعر هذه طيلة أشهر من عدم اليقين حول مصير الجنيه المصري.
في تموز/ يوليو، أعلن محافظ البنك المركزي طارق عامر أن الدفاع عن الجنيه في السوق كان خطأ قاد مصر إلى التخفيض الحاد في احتياطها من العملة الأجنبية، وإلى مشاكل اقتصادية كانت متوقعة. فهم الكثيرون من خلال هذه التصريحات أن تخفيضا في العملة سيحدث قريبا. واستغرق الأمر أربعة أشهر للإعلان عن تخفيضات العملة، وهو الأمر الذي لا يمكن تفاديه، ليزيد من تأزم الوضع السيئ بطبيعته.
جاءت تعليقات محافظ البنك المركزي، في الوقت غير المناسب، حيث قللت من ميل الحكومة المصرية (وخاصة البنك المركزي) نحو التوضيح ولجأت إلى تنفيذ سياسات اقتصادية حساسة. وقد جعلت سنوات من سوء الإدارة، خاصة في سنة 2014، الاقتصاد المصري يجثوا على ركبتيه.
نفاذ احتياطي العملة، ونمو غير كاف للناتج المحلي الإجمالي، وزيادة التضخم، ونسبة التدين الوطني، كل هذه الظروف جعلت الإصلاح هو الحل الوحيد: إن كنت ولا بد مارا من خلال جهنم، فواصل طريقك.
كان تخفيض العملة أبرز الإصلاحات، وأول خطوة في هذا المسار. ولكن “الحرارة” سترتفع بشكل لا يمكن تجنبه لأن الخطوة التالية ستتمثل حتما في تخفيض الدعم على الوقود، الأمر الذي سيزيد من حجم التضخم. وقد أعلنت الحكومة زيادة حادة في أسعار الوقود بنسبة 40 بالمائة لمواجهة انخفاض قيمة الجنيه، وسيتم العمل بهذا القرار بداية من منتصف ليلة الخميس.
ومع ارتفاع الأسعار نتيجة تداول الشعب لمعلومات مفادها أن هناك محاولة حكومية للحد من الإعانات الكبيرة، والتي تبلغ نسبتها 14 بالمائة، وتحسبا لأي اضطرابات قد تحصل ليلة ارتفاع الأسعار، سارع المصريون نحو محطات البنزين لشفط آخر نقطة من الوقود قبل العمل بالأسعار الجديدة.
ولكن وبشكل محير بقيت ضوابط العملة كما هي. وقد وعد البنك المركزي بأن ينزع القيود عن تحويلات العملة الأجنبية للأفراد والموردين للمواد الأساسية (على الرغم من أنه طلب إعادة النظر في القيود الصارمة على بطاقات الائتمان للبنوك الفردية) ولكن ستبقى بعض الحدود على إيداعات وسحوبات بعض الموردين.
إن كانت المغالاة في قيمة الجنيه هي أبرز القيود على الاستثمار، فإن المراقبة هي الضربة الثانية للاقتصاد، وسيكون لها نتائج عكسية عن أهداف التعويم. وقد قال أحد المختصين في الاقتصادات الهشة إن “أحد أبرز علامات الخطر بالنسبة لي هو عندما تملي عليّ الحكومة ماذا أفعل ولا أفعل بأموالي”.
في الأثناء ما زالت بعض الرسائل المتناقضة تصدر من هنا وهناك. فإعلانات الحكومة، خاصة تلك التي يرسلها سفراؤها مع المتحاورين الدوليين، والتي بشكل لا يمكن فهمها، تبعث على التفاؤل، وتروج إلى أن الإصلاحات المقترحة جاءت “لتحسين موقعنا التنافسي”.
في حوار صحفي قصير مع موقع بلومبيرغ، شكر عامر المصريين على مثابرتهم على الرغم من الصعوبات التي مروا بها. ولكن منذ وقت قريب كان المتحدث باسم البنك المركزي أكثر تشاؤما وواقعية، وهو الموقف الذي دعمه الكثير من المراقبين والمستثمرين.
ماذا الآن؟
بينما تتواصل التقلبات حتى صرف بنك النقد الدولي للقرض المصري، يقترب هدف الحكومة بالحفاظ على سعر بيع الدولار بحوالي 13 جنيه مصري من التحقق على المدى المتوسط. ولكن لن يتحقق هذا في أي وقت قريب.
على الرغم من الوعود القوية بصرف القرض، إلا أن التجارب الماضية أثبتت إمكانية حدوث تجاوزات – فحالة الذعر التي أصحبت رغبة الحكومة في تحديد سعر بيع الدولار بحوالي 13 جنيه لن تمحى من الذاكرة قريبا. بالإضافة إلى أن العملة ستواصل انخفاض قيمتها قبل الوصول إلى وضع الاستقرار، ويبقى الانتظار لنرى ما إذا ستكون الحكومة مجبرة على التدخل، على الرغم من التزاماتها بالتعويم “الحر”، لحماية السوق. وبالفعل وبعد الإعلان الحكومي يوم الخميس، زاد البنك المركزي من قيمة الفوائد بنسبة 3 بالمائة لامتصاص فائض سيولة الجنيه.
كما أنه من المتوقع أن تقوم الحكومة بالتخفيف من ضوابط العملة والسماح بتحرير التحولات النقدية. عندما تقوم بهذا ستتمكن من تقديم دلائل على قدرتها الالتزام بهذه السياسة، وعدم العودة لضوابط العملة إن تجاوز الطلب على الدولار توقعاتها. ولكن بسبب المقاييس غير المتناسقة، والرسائل المتضاربة، كان لهذا انعكاسات سلبية حول الثقة في المؤسسات المالية المصرية، بعد اتخاذها رهانات احتياطية حول الرقابة على رؤوس الأموال، الأمر الذي سيكون له عواقب وخيمة ومؤشرا واضحا حول ضعف الثقة في قدرة الحكومة على بلوغ السعر المستهدف.
بلا شك فإن التضخم ما زال مركز اهتمام الكثيرين، وخاصة انعكاساته على تعويم الجنيه، وسيشعر المصريون “بقرصته” اللاذعة. كما أنه في غياب أي ملاذ للمستهلك، سيزيد الباعة والتجار في الأسعار؛ فالمصريون قد استعدوا مسبقا لمعارضة زيادة الأسعار بالمزاح والتغاضي رافعين شعار “كله بسبب الدولار”.
على الرغم من أن عديد المواد الاستهلاكية تم استيرادها إلى السوق الموازية خلال الأشهر القليلة الماضية (بل بأسعار أعلى، بعد الزيادة في الأسعار التي قام بها التجار بسبب تشكيكهم في توفر الدولار وبسبب مستويات التحويل النقدي المرتفعة) إلا أن الحكومة لم تقم بما يجب فعله وهو استيراد المواد الأساسية للشعب.
تعد مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، ومورد صافي للمنتجات البترولية. لكن أوقفت المملكة العربية السعودية، خلال الشهر الماضي، شحنها الشهري لما قيمته 500 مليون طن من المنتجات البترولية لمصر. من هنا سارعت الحكومة المصرية لملء الفراغ، فعقدت مذكرة تفاهم في وقت مبكر هذا الشهر من أجل استيراد البترول من العراق، وكذلك عقدت اتفاقا مع شركة النفط الحكومية في أذربيجان.
ولكن الفاتورة أصبحت أثقل، كما أن تقليص قيمة الجنيه سيقود إلى انكماش الواردات وزيادة الصادرات، خاصة وأن مصادر مصر الأولى من العملة الصعبة –السياحة ومعبر قناة السويس-مرتبط ارتباط مباشر بالمؤثرات خارجية مثل؛ الأمن، والسمعة الدولية، والتوجهات العالمية في التجارة وأسعار البترول.
إن ما أدى إلى تفاقم التضخم هو رفع الدعم الذي يبدو ظاهريا آخر الإصلاحات لضمان وصول قرض بنك النقد الدولي المعلق منذ أوائل شهر آب/ أغسطس. وفي هذا السياق، صرّح أحد الخبراء على هامش الاجتماع السنوي لبنك النقد الدولي في واشنطن أن “مصر لا يمكنها التوقف لإحداث إصلاحات. المصريون حذرون من صعوبة الوضع واحتياطيهم من العملة الأجنبية ضعيف جدا”.
ولكن مع مواصلة مصر الإجراءات القاسية في رفع الدعم، فإن أسعار المواد الاستهلاكية في ارتفاع. وقد نصح بنك النقد الدولي بعدم رفع الدعم عن المواد الغذائية والصمود في وجه التخفيضات على دعم المحروقات (على الأقل في المدى القصير). وقد كانت تداعيات رفع الدعم واضحة جدا حتى أن الجيش المصري بدأ يوزع المواد الغذائية داخل البلاد.
عانى الكثير من المصريون من التضخم، خاصة الأكثر ضعفا والأقل حيلة. كما عانت مصر من زيادة في معدلات الفقر (والتي هي في ارتفاع متواصل في العقود الماضية، حتى في فترات تسارع نمو الناتج المحلي الإجمالي) – في الوقت الحالي يعيش أكثر من 27 بالمائة من الشعب المصري، أو أكثر من 22 مليون شخص، على أقل من 500 جنيه في الشهر.
وقد استهدفت برامج الحكومة للحماية الاجتماعية –برامج تكافل وكرامة- الفقراء والضعفاء وشملت أكثر من 1.5 مليون عائلة. كما أن هذه البرامج غير ناجعة تماما في بلد لا يمتلك الكثيرون فيه بطاقات هوية، ويتفشى فيه الفساد والمحسوبية. وهكذا سيبقى الضعاف حرفيا ومجازيا يعانون من البرد القارص في العراء، لأنهم سيواجهون لوحدهم ارتفاع تكلفة الغذاء والمحروقات، والذين يمثلان من قبل حملا ثقيلا على إيرادات الفقراء.
بالإضافة إلى أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر، فإنه سيصبح من الصعب على عديد العائلات تلبية حاجياتها الحياتية، لذا يمكن لنا أن نتوقع أن نسبة التضخم ستبلغ نسبة 30 بالمائة مع بداية السنة القادمة.
من جانبها ستواصل الحكومة التمسك بمنهجها، مع قلة الأدوات التي بقيت في حقيبتها للسياسات الاقتصادية. فالتحدي الآن مزدوج ويتمثل في التقدم بثبات في السبيل الذي يمر عبر جهنم والتخفيف من التأثيرات السلبية التي قد تصيب الشعب.
وعلى الحكومة مواصلة اللعبة باهظة الثمن التي بدأتها، ذلك أن صحة اقتصادها ليست وحدها عرضة للمخاطر ولكن أيضا سمعتها المتضررة عند شركائها في الاقتصاد الخاص والعام. يجب عليها أن تتعامل مع التضخم وتحسّن من سياسات التواصل والآثار المترتبة عليه للتخفيف من حالة السخط. ولكن مع ارتفاع أصوات المعارضة والإحباط، فإن مهمة الحكومة ستكون أصعب تحدّ يفوق التوقعات.
المصدر: معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط