من مسلمات الفكر السياسي اليوم – والقانون الدستوري الحديث نسبيًا – ابتناء الدولة الحديثة على مبدأ المواطنة، حيث تقوم العلاقة بين أبناء الإقليم الجغرافي والدولة على انتمائهم لها، الأمر الذي يعبر عنه بالمواطنة تجاه هذه الدولة، مع غض النظر عن التمايزات القومية والإثنية الموجودة بين أفراد الشعب المعين، بعبارة أخرى، إن ما يجعل أفراد المجتمع شعبًا واحدًا هو مواطنتهم للدولة، وبالتالي تترتب العلاقة بين الدولة والفرد على ابتناء من هذه الرابطة.
فكل الدول اليوم تضم إثنيات بشرية متمايزة، إن من حيث المذهب الفكري والديني، أو العرق، أو اللون أو غيرها، غير أن ما يجمع شتات هذه التمايزات فكرة الوطن والمواطنة بالمعنى السياسي لها، كما أن اختلاف المواطنين بأي شكل كان هذا الاختلاف لا يلغي حقوق المواطنة وواجباتها.
ورغم أن هذه الرابطة، والتي بدورها تمنح جنسية الدولة لفرد ما، مختلف في حقيقتها، أمادية صرفة هي قائمةٌ على تبادل المنافع وتقديم الخدمات والفوائد والدفاع وغيرها، أو روحية قائمة على الانتماء للعرق أو العوائل المؤسسة والمستقرة والصلة الروحية بين الفرد والكيان السياسي، رغم ذلك وما يشكله من مراحل أولية سابقة لمفهوم المواطنة أو على الأقل مجذرة له، إلا أنه لا يمكن بحال من الأحوال إنكار أن الانتماء والمواطنة فرع لاكتساب الجنسية، بحيث إذا ما اكتسبت الجنسية ترتبت حقوق والتزامات على كل من الطرفين، سواء سلبيةً في ذاتها كانت أم إيجابية.
تاريخيًا، لم تكن فكرة الدولة ثابتة، وعدم الثبات هذا، كان مختلفًا في مفهومه وفقًا للبيئة الحاضنة، أعني المجتمع بمعناه العام المتقولب في إطار الزمان، وبالتالي اختلفت الهيئة التي ظهرت بها الدول.
ففي الجزيرة العربية مثلًا، كانت السيادة للقبيلة وأعيانها، أي أن علاقة تبادلية موجودةٌ بين الفرد وقبيلته، بمقتضاها تحمي القبيلة الفرد وتنهض من أجله، ويحامي الفرد عن قبيلته وتنهض حميته من أجلها، هذا على الرغم من أن قبائل العرب عرفوا تكوينات سياسية متقدمة، كدولي الغساسنة والمناذرة شمالًا، والممالك اليمنية جنوبًا، والفارسية شرقًا، ثم حدث أن تطور نظام الدولة عندهم بظهور الإسلام، والذي كان أول ما ظهر مشروعًا سماويًا يحمل هم تحرير الإنسان من الجهل والارتقاء به من مدارج الحيوانية إلى درب الله الحكيم، والذي سرعان ما تطور على شكل فئة اجتماعية استقرت في أرض المدينة لها جيشها وميثاقها الذي ينظم علاقة هذه الأمة بغيرها من الناس الذي يعيشون في كنف نظامهم الحاكم، هذا تصوير مبسط لفكرة الدولة عند العرب آنذاك.
وفي مجتمعات أخرى، كبعض المجتمعات الأوروبية، ظهرت الدولة – وفقًا لجماعة من الباحثين – نتيجة استعصاء التناقضات الطبقية واستفحال رغبة الطبقات الفوقية المالكة في السيطرة، حيث بدت كأداة بيد هذه الطبقة كي تحمي بها مصالحها الاقتصادية وشبه ذلك، لكن هذا القول يعزوه التفسير المؤسس له، فإن نفس ظهور الطبقة الفوقية ما كان ليحدث لولا وجود إطار من الأعراف، البذرة الأساسية للتشريعات التي يعد إصدارها من مظاهر سيادة الدولة، يتمكن البعض من استغلاله لتتكون الطبقة الفوقية، من هنا، فإن هذا القول ناظر لمرحلة متأخرة نسبيًا، أو فقل متوسطة الخط الزمني لنشأة الدولة، هذا أولًا، وثانيًا: يعجز هذا التفسير عن تبرير وجوده، وثالثًا: أن الدفاع عن المواطنين من وظائف الدولة حديثًا وقديمًا، وهذا ما لا يمكن تبريره في ظل هذا التفسير.
من ناحية أخرى، فإنه يمكن القول أن المصدر الملزم في العلاقة بين الدولة والفرد هو المواطنة، وهو بدوره لم يكن إلا وليد أزمنة حديثة نسبيًا، بالإضافة إلى كونه غالبًا مجرد نظرية فقهية لا يعتقد الشعب فعليًا بها ولا يمارسها إلا في الأطر الضيقة.
بدلاً من هذا المرتكز، كان هناك بناءً للدولة على أساس الدين والاعتقاد، الظاهر من قراءة كتب التاريخ، والإسلامي خصوصًا منه، أن ما كان يقوّم الدولة هو اشتراك الجميع في الإسلام، ووجود شخص يقال له الخليفة، أو الملك، هو القائد لهذه الأمة، وتمارس هذه الدولة، ممثلة في الخليفة، أدوارها الإسلامية عبر عدة وظائف عسكرية كالدفاع، ومالية كالجباية والضرائب، ودينية بحتة كإمامة الناس في الصلاة والحج والقضاء.
إن نظرية هذه الفكرة تدحض بملاحظة أن الخلافة ما كانت غير ملكٍ متناقل وفق أسس معينة ليس بيد المسلمين غير الركون إليه باعتباره ذا قوة عسكرية ومالية، لكن الفكرة تصبح أكثر ضبابيةً عندما نضع بعين الاعتبار أن الدين الإسلامي نفسه لم يظهر إلا في وضع ممارسة الأنشطة المتعلقة بالدولة، كالجيش والقضاء والمالية وغير ذلك من وظائف الدولة، من هنا، يمكن اعتبار بعض الخلافات التي قامت إنما قامت لأدائها هذه الأمور، دون ملاحظة الإسلام.
وعلى أي حال، فإن ثمة تساؤلات تبقى: في ظل التعدد والتمزق الذي يشهده الوطن الإسلامي اليوم، كيف تغيرت النظرة للدور السياسي للإسلام؟ وهل أن الإسلام فيه مواطنة؟
إن الإجابة تتطلب بحثًا وتأصيلًا فقهيين، لم يتعرض لهما بشكل كافٍ فقهاء الأمة، لذلك من المهم بيان الرؤية الإسلامية الفقهية تجاه فكرة الوطن والمواطنة.