عندما عدت من العراق في المرة الثانية كنت أواجه صعوبةً في قيادة السيارة، إذ إن الجولات التي قمت بها كضابط في البحرية أظهرت مدى سهولة اختراق الأجسام المعدنية للحم البشري، فأصبحتُ على وعي تام بأن حياة الإنسان هشة ومهددة في كل وقت، وأصبحت أتعجب من الأشخاص الذين يستمتعون بقيادة السيارة بسرعة 80 كيلومترًا في الساعة، غير مدركين أن خطأً صغيرًا قد يكون كافيًا ليلقوا حتفهم.
نفس الشعور ينتابني الآن كمواطن أمريكي بصدد مشاهدة جزء هام من الشعب يفكر في الإقدام على التصويت لدونالد ترامب، أنا الذي نشأت في منطقة الوسط الغربي الأمريكي وخدمت في الجيش أستطيع أن أتفهم لماذا تصر فئات هامة من الشعب على مساندة مرشح الحزب الجمهوري، ولكنني أعتقد أن مناصري ترامب ليسوا على وعي بمدى هشاشة الوضع في الولايات المتحدة.
أستطيع أن أتفهم حالة الاستياء التي يشعر بها مناصرو ترامب، فحتى القيم التي كانوا يعتزون بها في الماضي أصبحت الآن محل سخرية وتشكيك، كما أن أغلب وسائل الإعلام تتحدث عنهم ولكنها في الواقع لا تمثلهم، وحتى عندما يقوم بعض الصحفيين بزيارة مناطق الوسط الأمريكي، تبدو التقارير التي يكتبونها شبيهة بالنكت الساخرة التي يرويها سكان السواحل بشأن سكان المناطق الداخلية، ولذلك فلا عجب أن الناس في وسط أمريكا بدأوا يلتفتون نحو وسائل الإعلام الممثلة لليمين، مفضلين أن يحصلوا على الأخبار من مصادر لا تعاملهم بنفس الاستهزاء والاحتقار الذي تعاملهم به الناس في المدن الكبرى والسواحل.
للأسف، استغلت هذه الوسائل الإعلامية ثقة الجماهير لتجبرهم على التعرض لأخبار مسيئة لهم وتثير غضبهم، لذلك أصبح هؤلاء الناس يتجولون بين مجموعة من المواقع التي تنشر الرعب وتعاضد وسائل الإعلام التابعة للتيار المحافظ، والتي لا تنقل حقيقة الوضع في الولايات المتحدة، ومن هنا يمكن أن نتفهم أن مناصري ترامب يصدقون بكل جوارحهم أن البلاد على شفا الانهيار.
وفي هذا السياق المليء بالخوف، خاصة بالنسبة للكثيرين من الذين خدموا في الجيش، قد تبدو الخطابات الرصينة والحذرة مضللة أو دربًا من الجبن، حيث إنهم يدركون أن هنالك عدو حقيقي، فقد شاهدوا أصدقاءهم يموتون من أجل غزو مدن، أما الآن فقد أصبحوا يشاهدونها على التلفاز وهي تحت سيطرة الأعلام السوداء.
حولت هذه المخاوف، التي لا أحد ينكر مشروعيتها، بعض أصدقائي وأقاربي نحو مساندة الخطاب العدائي الذي يتبناه ترامب ضد النظام القائم، وذلك رغم اطلاعهم على كل العيوب الشخصية التي يتصف بها هذا الرجل.
ولكن ما لا يدركه هؤلاء هو مدى هشاشة كل هذا الوضع الراهن، لقد أمضيت حياتي منذ حرب العراق أجوب مناطق الصراع والدول المنهارة، وشاهدت مجتمعات مثقفة وميسورة الحال تنحدر بين ليلة وضحاها إلى الصراعات والتطهير العرقي، كما رأيت أرباب عائلات يتحولون إلى مجرمين يسفكون الدماء، ورأيت أمراء حرب يتمتعون بالكاريزما ويحيط بهم خبراء التكنولوجيا يجرّون بلادهم نحو الهاوية.
لقد كنت أسافر عبر مالي وساحل العاج وسيراليون عندما كان ترامب يصعّد هجماته ويدّعي أنه سوف يزج بهيلاري كلنتون في السجن، ويتوعد بعدم السكوت في حال وقوع ما وصفه “بتزوير الانتخابات”، كان يعلم الناس في تلك البلدان ما يقصده ترامب، لأنهم سمعوا هذه الخطابات في السابق، وهي الخطابات السائدة في الدول التي لا توجد فيها سلطة مركزية ونظام صلب، والتي تغيب عنها الثقة الجماعية ورباط الديمقراطية الذي يوحد الشعب، إنها خطابات الحروب الأهلية.
إن احترامنا لقادتنا هو أمر مهم، واحترامنا لمؤسساتنا أيضًا أمر مهم، وثقتنا في المسار الديمقراطي مهمة، وحرية التعبير مهمة، واستقلالية القضاء مهمة، كما يهمنا أيضًا أن تواصل أمريكا اعتبار نفسها ملاذ لكل الأشخاص المتعبين والفقراء والحالمين بالحرية.
فلنتخيل للحظة أنه يمكننا أن نترك جانبًا كل الصفات الشخصية والسلوكيات المنفرة التي يتصف بها ترامب، ونقيمه فقط بحسب طموحاته وكفاءته، إذا أصبح ترامب رئيسًا سيتزايد خطر تعرض المواطنين الأمريكيين لضرر مباشر وكبير، إن الرئيس يخضع للرقابة ويتمتع بسلطات محدودة عندما يتعلق الأمر بالشؤون الداخلية، أما فيما يخص السياسة الخارجية والشؤون الدولية فإنه يمكنه التصرف بحرية، وقد كذب ترامب وقدم تصريحات متناقضة في كل الملفات الخارجية، وأثبت أيضًا أنه سيكون متهورًا عندما يتعلق الأمر باستعمال الأسلحة النووية، وأهان الجنود المتقاعدين وأولئك الذين لا يزالون في الخدمة، وحرّض على العنف الديني والعرقي، وتصرف بشكل يدعم فلاديمير بوتين (الرجل الوحيد الذي يفعل كل ما بوسعه لتقويض النظام العالمي)، كما أظهر في عدة مناسبات عدم قدرته على تحمل الانتقادات، ومسارعته للبحث عن الانتقام، أما أخطر ما في الأمر فهو تقويضه لثقة المواطنين بمؤسسات الجمهورية.
خلال فترة سقوط جدار برلين، عمل الرئيس جورج بوش الأب بكل جد خلف الكواليس، ولكنه كان يتصرف بكل تواضع أمام وسائل الإعلام، ويتجنب كل التصريحات المثيرة للرأي العام، رافضاً أن “يرقص فوق الجدار”، والآن تخيلوا لو كان ترامب في تلك الوضعية، حتمًا سيحاول إظهار نفسه أمام عدسات الكاميرات، و”سيصبّ الزيت على النار” ليتسبب في اندلاع حرب بين أمريكا وروسيا ويعمق انقسام ألمانيا.
كل المكتسبات التي تتمتع بها أمريكا يمكن أن تصبح مهددة بين ليلة وضحاها، ولذلك لا يجب أن نعتبر أن البلاد آمنة تمامًا، حتى تنظيم الدولة وهو في عنفوان قوته الآن، لا يمكن مقارنته بالتهديد الذي يمثله شخص مثل دونالد ترامب على هذه البلاد، إن العالم لم يبلغ بعد مرحلة من النضج تجعله يتجاوز شبح الحروب العالمية أو حتى التراشق بالرؤوس النووية، فنحن لسنا مختلفين كثيرًا عن كل تلك الأجيال السابقة التي ظنت لوهلة أنها تجاوزت مرحلة التورط في حروب دامية، ومن أجل مصلحتنا وبصفتنا الأمة الرائدة في هذا العالم، لا يمكن أن يكون دونالد ترامب رئيسنا.
إن هيلاري كلينتون مؤهلة تمامًا لتكون بديلاً جيدًا عن ترامب، رغم أنها بلا شك ارتكبت بعض الأخطاء التي تم تضخيمها أحيانًا بسبب انعدام الشفافية، يضاف إلى ذلك أن عائلة كلينتون سمحوا لأنفسهم في كثير من الأحيان بأن يكونوا محاطين بالطبقة السياسية التي تمثل النظام القائم، والمتورطة في تضارب المصالح الشخصية مع المسؤوليات السياسية، ولكن هيلاري كلينتون تعرضت أيضًا للكثير من التشويه الذي لم تكن مسؤولة عنه، بل هو نتاج للحياة السياسية الأمريكية المكشوفة أكثر من اللازم للجماهير والتي تعاني من حالة الاستقطاب الحاد، إنها ذكية وحكيمة وجادة في دراستها لكل الملفات الشائكة، وفي هذا العالم الخارجي الذي أعرفه بشكل جيد، أنا أؤمن بأن هيلاري هي واحدة من أكثر الرؤساء قدرة على خوض هذا الغمار.
ورغم أنني أتفهم تفضيل البعض التصويت لطرف ثالث، فإني أومن بأن عدم أهلية ترامب تفرض على الناخبين واجب التصويت لهيلاري، إن ترامب لا يجب أن يخسر فقط، بل يجب أن يتكبد هزيمة نكراء حتى لا تتكرر هذه المهزلة في المستقبل ويتجرأ أشخاص مثله على المنافسة بجدية في الانتخابات الرئاسية، وتحقيق نتائج متقاربة في صناديق الاقتراع قد يشجع ترامب وأمثاله من المتغطرسين على الطمع في هذا المنصب والتفكير في محاولة أخرى.
لكل أولئك الذين يقولون إنهم لا يريدون حصر الاختيار بين مرشحين سيئين، فأنا أدعوهم إلى التفكير فيما ستكون عليه الحياة اليومية لكل قواتنا المتواجدة في العراق وأفغانستان، إنهم هناك حيث لا تتاح لهم رفاهية الامتناع على التصويت أو إجراء “التصويت العقابي” على خيارات تعدّ كلها سيئة يواجهونها كل يوم أمامهم.
إن بلادنا لا تطلب الكثير من مواطنيها فيما يخص الخدمة العامة، ولذلك فهي اليوم تطلب منهم المزيد، إن التصويت بشكل متمعن وواعٍ ومسؤول في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل يعد أقل ما يمكن تقديمه لهذه البلاد، وأتمنى أن نقوم كلنا بواجبنا، إذ إن مكتسباتنا الوطنية أكثر هشاشة مما نعتقد.
المصدر: مجلة كوارتز