“الوطن ليس فندقًا لنغادره حينما تسوء الخدمة”، جملةٌ عميقةٌ يطلقها عباد صنم الدولة، حين يضيق العيش بالناس، ويكفرون بالفلسفة والمنطق والدين، وكل شيء، فالإنسان حبيس يومه، حبيس قوته وقوت عياله، حبيس حياته التي يتمنى أن ينام لياليها وهو هادئ البال ولديه قوت يومه.
والحقيقة التي يجب أن يدركها البعض، أنه بالفعل على الوطن أن يكون فندقًا، بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة، أي أن على الوطن رعاية مواطنيه، وتوفير حياة كريمة لهم وتوفير رعاية صحية ودراسية وحياة آدمية لكل المواطنين، وفي حال لم يقدر الوطن على كل ذلك فلا يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها، يا فرحتي بحبي الجم للوطن وأنا أرى أولادي يتضورون جوعًا بالأيام والليالي.
مع أول إحساسٍ بالجوع، وسماع صرخات رضيعك، ينهار كل شيء، بما في ذلك الوطن، فلن أطعم أبنائي وطنًا على العشاء، ولن أدفع إيجاري لبيتي، حبًا للوطن، ولن أقوم بسداد ديون البقال والخُضري والفرارجي، أناشيدًا حماسية، ولن أعالج أبنائي بتسلم الأيادي، ولن أدفع أقساط مدارسهم نشيدًا وطنيًا.
إن اللجوء إلى حس الوطنية، كلما ازداد الفقراء فقرًا، هو لعبة قذرة، تهدف إلى إسكات حِس المواطن، كلما فكّر في المطالبة بأقل حقوقه، فاسكت فنحن نحارب الإرهاب والأجندات الخارجية، ولا تتكلم فالمؤامرة كبيرة، وجُع وجوّع أبناءك فالبلد تحتاج ذلك، ولا تتفوه ببنت شفة عن كوارثك المعيشية والفقر المدقع الذي تعيش فيه، فالمتربصون بالبلاد يريدون هدمها، وأمريكا تريد إسقاط مصر، وإسرائيل تتجسس علينا، أبعد كل ذلك، تريد أن تأكل وتشرب؟
وهذا ديدن الفشلة والأفّاقين، سلاح لا يبرد حده ولا يُنسى وقعه، تمامًا كما نرى في الأفلام، مصر محتاجاك، عشان خاطر مصر، لب نداء الواجب، حافظ على الوطن، أشكال كثيرة من الابتزاز يتعرض لها الغلابة، باستدعاءٍ مهين للوطنية ومفاهيمها واسترخاص شديد لقيمة المواطن على حساب الوطن، وهذه هي الإشكالية، إشكالية أيهما أقيم؟ أيهما ينبغي علينا أن ننحاز إليه؟ وأيهما علينا أن نقف إلى جواره؟
“الوطن ليس فندقًا لنغادره حينما تسوء الخدمة”
وتلك هي الأنظمة الديكتاتورية التي لا ترعى للإنسان أية قيمة، بل تخلق مسوغات وأسباب وخطط لقهر هذا الإنسان وظلمه، بل والأنكى من ذلك تطالبه بالانصياع لكل هذا الذل والظلم، في صمتٍ تام، وإلا كان خائنًا أو عميلًا، لأنه يطلب أقل القليل.
ناهيك طبعًا عن احتكار رخصة الوطنية ومفهومها لفئة قليلة من الناس، ففي مصر، لم يعد الأمر مقتصرًا على سحب رخصة الوطنية من المنادين بكرامتهم الإنسانية فقط، بل صار الأمر أيضًا مغلفًا بغلاف الدين القويم، الذي يطالب الناس بشد الحزام كما فعل عمر، أو بأكل أوراق الشجر كما فعل النبي في الحصار، فبينما أتصفح عناوين المواقع المصرية، وجدت عنوانًا لخبر يقول إن سعد الدين الهلالي دعا الشعب المصري قائلًا: “مصر تمر بأزمة اقتصادية للمؤامرة العالمية على المصريين، وعلى الشعب المصري أن يتحمل حتى لو وصل به الحال لأكل أوراق الشجر”، ولأفاجأ أن الهلالي يقدم حاليًا برنامجًا للفتاوى على قناة أون تي في المملوكة حاليًا لأحمد أبو هاشيمة يد الدولة في صناعة الإعلام.
فبعد أن طالبوه سابقًا بالتخلي عن اللحمة والتخلي عن الأرز والتخلي عن السكر والتخلي عن الزيت، والتخلي عن كل شيء، حتى الحياة، يطالبونه بأكل أوراق الشجر، وعليه أن يتخلى عن كل ذلك، ويهبه لأصحاب البذلات العسكرية فهم حماة الوطن وصمام أمنه، أما هو، فعليه أن يتخلى ويتخلى فقط، وهكذا تكون التجارة، حيث يطالب فاحشو الثراء، مدقعي الفقر بالصبر وسف التراب من أجل عيون الوطن، فبعد رفع الدعم قبل أيام وتعويم الجنيه، أقرّ السيسي قرارًا جديدًا بزيادة مستحقات العسكريين، أما باقي الشعب، فالتراب أولى بهم من الحكومة.
وحقيقةً فإن وطنًا لا تُراعى فيه قيمة الإنسان ولا تعلو قيمته على كل شيء، لا يمثل وطنًا لي، إن وطنًا لا يُبحث في ثنايا إدارته عن كرامة المواطن الإنسانية، لا قيمة له في حساباتي، فلينهار الإنسان ولتنحسر كرامته وليذهب إلى الجحيم، ثم ماذا سيتبقّى؟ أحجار ومبانٍ وصحاري، ثم ماذا؟ لا شيء، لن تقوم حضارة ولا نهضة ولا تقدم ولا ازدهار، ولا أي شيء، لأن الإنسان لم يوضع رقمًا أساسيًا في معادلة الوطن.