يتزايد الحديث يومًا بعد آخر عن اقتراب الانفصال في اليمن، وإعادة البلاد إلى ما قبل عام 1990، عندما كان الجنوب اليمني يعج بالحرب الأهلية والاقتتال الداخلي بين مكونات سياسية عديدة تسعى للسيطرة على حكمه.
ومنذ إعلان حكومة الرئيس اليمني عبده ربه منصور هادي في 17 يوليو 2015 استعادة السيطرة على محافظة عدن من الحوثيين، وإعلان محافظة عدن عاصمة مؤقتة للبلاد، والقرار اﻷخير بنقل البنك المركزي اليمني، ويليها انتقال حكومته المعترف بها دوليًا إلى المحافظة، وتكوين مؤسسات موازية في العاصمتين (صنعاء وعدن)، زادت فرضية تقسيم البلاد إلى يمنين (جنوبي وشمالي).
لكن تقسيم اليمن لن يكون في الوقت الحالي بمصلحة السعودية أو التحالف العربي، ولن يخدم إلا دولة اﻹمارات العربية المتحدة وإيران اللتين لديهما مصالح مشتركة في باب المندب.
فالإمارات العربية المتحدة، الداعمة لانفصال الجنوب بشكل كامل عن اليمن، تعتبر أن باب المندب هو امتداد طبيعي لأمنها القومي (موانئ دبي العالمية) التي طورتها على حساب إضعاف هذا الممر ومررات أخرى في الإقليم.
من يخدم الانفصال؟
استلمت شركة موانئ دبي العالمية ميناء المعلا للحاويات ومحطة كالتكس في 1-11-2008م حسب اتفاقية الشركة المنصوص فيها على أن تكون 50% لمؤسسة موانئ خليج عدن و20% لشركة دبي و30% لرجل الأعمال بقشان، وعلى الرغم من امتلاك شركة دبي 20% إلا أنه تم منحها إدارة التشغيل بامتياز دون أي منافس وحق التصرف في المحطتين “كالتكس والمعلا”، لكنها لم تف بالاتفاق المبرم مع الحكومة اليمنية في تطوير الميناء، إلى أن تهالكت أدواته بالكامل، في نفس الوقت تم تطوير موانئ دبي وتحويل الباخرات والسفن العملاقة التي تريد الصيانة إليها.
تم تجديد العقد في عام 2012 مع الرئيس اليمني عبده ربه منصور هادي، الذي طالب موانئ دبي بالتفاوض وإضافة شروط جديدة، لكن الأخيرة رفضت وكان ذلك سببًا في إلغاء الصفقة.
ومع إعلان السعودية تكوين تحالف عسكري “عاصفة الحزم” بمشاركة الإمارات ودول خليجية أخرى، كانت أنظار الإمارات تتجه صوب عدن والموانئ بصورة خاصة من أجل السيطرة عليها، وبسط نفوذها لضمان السيطرة عليها واستعادة أمجاد الاحتلال البريطاني، ولذلك كانت الدولة السباقة في إرسال قوات عسكرية وقادوا الهجوم البرمائي على عدن في صيف العام 2015، حتى بعدما رفض الأمريكيون طلبهم بمساعدة القوات الخاصة الأمريكية.
إن نجاح انفصال حضرموت عن عدن سوف يقلل من حظوظ الوجود والسيطرة الإماراتية على باب المندب من خلال شق (قناة سلمان) التي تسعى إليها المملكة العربية السعودية والتي من المقرر أن يتوافر فيها كل ما تحتاجة الباخرة والسفينة العملاقة، فتعجلت الإمارات بغزو حضرموت و”تحريرها من القاعدة” لتسيطر عليها عسكريًا ولتضمن نفوذها هناك وعدم انفصالها، وهذا ما يشير إلى أن هناك خلاف قائم بينها وبين المملكة العربية السعودية فيما يخص اليمن.
وبينما هي كذلك تسعى لتقوية الانفصاليين (جناح اﻹمارات) عسكريًا وشرطيًا ومدنيًا، إضافة إلى أنها تستضيف شهريًا مجموعات مدنية لتعمل على تدريبهم في مختلف الجوانب الاقتصادية والشرطية والعسكرية، لضمان توفير كوادر من الجنوب ﻹدارة المرحلة القادمة مع بعد الانفصال (إن تم) دون مشاكل.
بعض من تلك الكوادر بدأت بالفعل عملها في البنك المركزي (عدن) بعد قرار الرئيس هادي بنقله إليها، وهذا ما يبين أن اﻹمارات العربية المتحدة تسعى لبناء إدارات مستقلة ليس فقط من أجل محاربة الحوثيين اقتصاديًا.
فمثلاً نقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن خدم الحوثيين بقوة، وأنقذهم من ثورة شعبية كادت أن تندلع ضدهم نتيجة لعدم تسلمهم الرواتب لشهرين متتاليين، لولا قرار “هادي” الذي جعل الحوثيين يعزفون على الوتر الحساس (الراتب لدى الشرعية وسنعمل على توفيره بقدر المتاح)، والقرار كان بمقترح إماراتي، وأعلنت عن استعدادها لتدريب كوادر متخصصة لإدارة البنك حال فصله عن صنعاء، هدفها كان أبعد من أن يتم حصار الحوثيين اقتصاديًا بل عينها على الانفصال.
أما إيران التي بدأت منذ وقت مبكر بتمويل المطالبين بالانفصال (حراك علي سالم البيض وحسن أحمد باعوم) تهدف للوجود في اليمن بطرق عدة، فعملت في اليمن على شقين:
الأول: دعمها للحوثيين من أجل حصار المملكة العربية السعودية من الحدود الجنوبية الغربية، وكان الدعم بالتساوي مع اﻹمارات العربية المتحدة بهدف القضاء على اﻹخوان المسلمون هناك في الشمال، وتمكين الحوثيين بدلاً عنهم.
والثاني: في عدن، وتهدف إيران للسيطرة على باب المندب والتحكم بمداخله ومخارجه، ومنع إقامة المشروع السعودي من شق قناة مائية تربط دول الخليج بالبحر العربي مباشرة (تسمى الآن قناة سلمان) دون العودة إلى مضيق هرمز.
وكذلك لتكون أيضًا فاعلاً مؤثرًا في القرار العربي، والتمدد بذلك نحو خطتها التي اعتمدتها سلفًا.
الانفصال يضر بالرياض
المملكة العربية السعودية، أمام واقع متغير أيديلوجيًا يفرض عليها الحفاظ على الوحدة اليمنية، ومعصية مؤسسها، في نصيحته التي أسداها الملك عبد العزيز، المعروف بابن سعود، عندما كان على فراش الموت عام 1953، ويُفترض أنه قال: “لا تدعوا اليمن يتّحد (أبدًا)”، اليمن هو المشكلة التي ربما لن يتم حلها إلا بعد تفكيكه.
فالمملكة التي كانت تحبذ من بداية عاصفتها (عاصفة الحزم) في اليمن، الانفصال في اليمن، توصية لمؤسسها الملك عبدالعزيز، لكن يبدو أنها تقبلت نصيحة أخرى ودرستها بعناية، أن الانفصال الحالي قد يسبب لها مشاكل إقليمية وأمنية.
فالمشاكل اﻹقليمية، عندما يعلن الجنوب الانفصال بعد الحرب التي قادتها السعودية، هي المتهم اﻷول بتسبب التصدع العربي أمام شعوب المنطقة، إضافة إلى أن الانفصال في اليمن قد يفتح المجال أمام الانقسامات داخل الوطن العربي وإعادة خارطة الشرق اﻷوسط من جديد، وبذلك قد تكون أسدت خدمة مجانية ﻹسرائيل والولايات المتحدة اﻷمريكية وبريطانيا برسم الخريطة مجانًا لطالما عجزوا عن تنفيذها منذ اتفاقية “وعد بلفور”.
صحيح أن القرارات اﻷممية دائمًا ما تدعو إلى الحفاظ على وحدة اليمن، لكن ذلك لن يصمد طويلاً في حال انبعث قرار بريطاني أو غربي وتم التوافق عليه، والدعوة إلى الاستماع إلى مطالب الشعب في تقرير مصيرهم السياسي والاقتصادي.
الموقف الدولي
الغرب يريد هذا الخيار، وهذا ما يؤكده حديث أدمند براون السفير البريطاني في اليمن، عندما قال: لا نستطيع أن نقول للجنوبيين ليس من حقكم أن تطالبوا بالاستقلال في المستقبل إذا ما كانت هذه رغبتهم، لكن نصيحتي لهم أن تقسيم اليمن بالقوة كنتيجة للأزمة الحالية ليس من الجيد أن يقول الجنوبيون لنا الجنوب، ويبقى الحوثيون وصالح لهم الشمال، أعتقد أن الخطوة الأولى هي تحقيق الاستقرار في البلاد ككل”.
وكأنه يريد القول: لا نحب أن نحرج السعودية في الوقت الحالي، ولكن نحن ندعمكم فيما بعد، وبعد أن تهدأ الحرب اﻷهلية في اليمن، وقد تقدم بريطانيا المشروع بنفسها إلى اﻷمم المتحدة حول قرار تقرير المصير في الجنوب.
لكن إن حدث الانفصال بالفعل في اليمن، فإن هذا قد يدع الشمال بالفعل يسقط أو ربما يرتمي في الحضن اﻹيراني، ويكون في الشمال زيدية وشيعة بفضل التأثير اﻹيراني لمواقفها الحالية، وهو ما قد يزيد الخطورة على المملكة العربية السعودية، لا سيما مع تنامي الحشد الشعبي في العراق، إضافة إلى أن المملكة أيضًا تعاني من مشاكل أمنية (غير معلنة) في حدها الجنوبي والمنطقة الشرقية بسبب العنصرية التي تتبعها تجاه تلك الطائفة الشيعية، وهو ما يجعل أمنها في خطر، وربما يشجع الدعوات إلى الانفصال وبدعم أيضًا غربي وبريطاني تحديدًا وبحراك إيراني طائفي ﻷبناء المناطق الجنوبية والشرقية.
الانفصال في اليمن، قد يساعد أيضًا في عودة الخصوم السياسيين إبان تسعينات القرن الماضي، وقد يزيد من السباق على الحكم في عدن، لتعود الحرب اﻷهلية من جديد، وهو ما قد يغرق الجنوب في بحر من الدماء مجددًا ويهدد الملاحة الدولية، وهو اﻷمر الذي سيعمل على تدويل باب المندب، وإبعاده عن السيادة اليمنية، وقد تكون إيران أو اﻹمارات اﻷقرب لذلك، وهذا الهدف اﻹضافي من السعي اﻹماراتي الحثيث لفصل اليمن (شمال وجنوبًا).
الخلاصة
لا يبدو أن الانفصال متاح في الوقت الحالي، بالرغم من أن السلطات المحلية هناك تمارس واقعًا مأساويًا ضد أبناء الشمال، وكذا ترفع أعلام الانفصال على كافة مؤسسات الدولة، حتى حكومة الرئيس هادي المدعومة دوليًا لا تستطيع أن تتحرك كما يحلو لها، أو تفرض إرادتها وقوتها كدولة، وإنما وفق خطة أمنية مسبقة توفرها السلطات الحاكمة بالتنسيق مع اﻹمارات العربية المتحدة، لكن اﻷمر يحتاج إلى قرار واعتراف دولي، فلا يستطيع أن يأتي القرار من المحافظ أو مدير اﻷمن اللذين يعملان ﻷجندة إماراتية وإيرانية معًا.