ترجمة وتحرير نون بوست
كان من بين أكثر ما أزعج بوتين قبل بداية العطلة الأسبوعية هو الدفع الدولي نحو حرب على نمط القرون الوسطى المقدسة، والثورة سيئة السمعة التي يقودها حشد من الرجال الغاضبين الذين يدعون لسجن الرئيس الروسي، لذلك، فهو يأمل ألا يذكر أحد هذه المظاهرات.
عندما لا يخوض الرئيس الروسي حربًا بالوكالة ضد الولايات المتحدة في سوريا، أو لا يتدخل لإفساد الانتخابات الأمريكية الحالية، يكون لديه عمل شاق يتمثل في الحفاظ على وحدة الرقعة الروسية المتعددة الأعراق، والتي يبلغ عدد سكانها 140 مليون شخص، فبعد 25 سنة من انهيار الاتحاد السوفياتي ما زالت روسيا تبحث عن أرض خطاب مشتركة.
ولأنه لا وجود لأي معارضة جادة، أي معارضة من الداخل، فلا وجود “لضيف” ثانٍ، وفي هذا السياق، قال ألكسي فينيديكتوف رئيس تحرير راديو إيخو موسكفى: “فلاديمير بوتين لم يستدع إلا فلاديمير بوتين”، يبدو أن الرئيس الروسي أراد حل المشكلة بنفسه.
حاول الرئيس الروسي جمع أجزاء من التاريخ الروسي المشتت من أجل صياغة قصة الرجل الواحد متجاهلاً بعض المواد البشعة، كما حاول أن يقدم للشعب “الفكر القومي” وذلك ليس في أقل من 3 مرات، بعد أن لعب “بالقدرة التنافسية” و”بحماية الشعب”، وأخيرًا مع بداية هذه السنة، أعلم القيادات المحلية من رجال الأعمال أنه ثابت على “حب الوطن”، كما طلب، أمام العموم، من المشرعين تعريف “الأمة الروسية” وفق نص قانوني، على الرغم من وجود غموض حول مقصده.
وقد اعترف في الأسبوع الماضي إلدار جيلموتدينوف رئيس اللجنة التشريعية والمسؤول عن صياغة مشاريع القوانين، عندما قال “لا نعلم ما ستؤول إليه نتيجة هذا القانون”.
وفي استطلاع رأي نشر حديثًا من قبل مركز بحوث الرأي العام الروسي، تبيّن أن 44% فقط أجابوا بنعم على سؤال “هل وجدت روسيا وحدتها؟” مقابل 54% خلال السنة الماضية.
ثم جاء يوم الجمعة، يوم الاحتفال الوطني، وهو أول يوم في عطلة تشرين الثاني/ نوفمبر، من بين الثلاثة أيام التي خصصت من أجل الاحتفال الروسي بالثورة البلشفية التي وقعت سنة 1917، وفي سنة 2005، استبدله الكرملين بيوم الوحدة الوطنية، وهو احتفال بالانتصار العسكري الذي حقق في القرن السابع عشر، لكن تلك الفترة انتهت بعد سنوات من التمزق والنزاعات المسماة “بأوقات الصعاب”، وقد كانت هذه إحدى الطرق من أجل السيطرة على الشعب الروسي وجعله ينسى أن مجموعة من الرعاع يمكنهم إسقاط نظام مستبد.
في الآونة الأخيرة، تطور يوم الوحدة إلى جهود لاحتواء واستمالة مشاعر القومية بين مختلف العرقيات الروسية، وقطع السبيل عن أي عرق، من بين 190 أقلية عرقية، يرغب في بلوغ أحلام الربيع الانفصالي، والتي تسببت في وقت مضى في سفك دماء دام أكثر من عقد في الشيشان.
من الوهلة الأولى، بدا أن عطلة يوم الجمعة سارت على أفضل ما يرام، حيث إن عشرات الآلاف من الأشخاص تحدوا الرطوبة وبرودة الثلج وخرجوا في مسيرة سلمية وسط حضور أمني مكثف في وسط موسكو، رافعين العلم الروسي وعلامات مكتوب عليها “نحن متّحدون” و”في الاتحاد لا أحد يمكنه هزيمتنا”، وينشدون شعارات من قبيل “الوطن الأم! الحرية! بوتين!”.
خارج الكرملين، كشف بوتين عن تمثال كبير “غراند برينس فلاديمير”، حيث تفيد الأسطورة أنه في سنة 988 حوّل فلاديمير السلاف الشرقيين إلى المسيحية الأرثوذكسية، وقد أشاد فلاديمير بوتين بالاسم نفسه الذي وجد في العصور الوسطى والذي يعبر عن حاكم له وجهة نظر بعيدة، وجهة نظر حاكم “أرسى قاعدة أخلاقية تحدد حياتنا حتى يومنا هذا”.
خلق هذا بعض التأنيب القادم من أوكرانيا، التي تعيش صراعًا مع روسيا منذ سيطرة موسكو، سنة 2014، على القرم حيث نشر الأوكرانيون تغريدات على موقع تويتر، مذكرين الروس أن الأمير فلاديمير – يدعى فولوديمير في أوكرانيا – حكم من كييف، حيث يقبع تمثاله المحدق نحو نهر الدنيبر لأجيال مضت.
بعض الأشياء الأخرى المثيرة للقلق في يوم الوحدة جاءت من الداخل، وتحديدًا من جنوب شرق أحياء موسكو، حيث أنشد المئات من القوميين المتعصبين “العظمة للجنس الأبيض”، وطالب أحد الشعارات بإرسال بوتين إلى أحد السجون في معسكرات الغرب البعيدة، بينما أنشد البعض في إجابة بغيضة لبعض الشعارات الهادفة التي كانت تكرر وسط البلدة: “الدم، والوطن، والإيمان”، مما جعل الشرطة تتدخل لمواجهة الشغب بالعصي، وللمحافظة على التجمع تحت السيطرة، وقد وافقت السلطات على التظاهر فقط قبل يوم الوحدة الوطنية، خوفًا من أن تتحول المسيرات التي لا رقيب عليها إلى أحداث عنف.
وفي هذا السياق، ردّ المحلل السياسي بيتر ليدوف، على قناة روسيا-24 تي في قائلاً: “هناك معنى وراء هذا في يوم عطلة، هناك شيء ما مفقود، فبوتين ليس أول قائد في الكرملين حاول، وفشل في تحقيق معجزة الوحدة الوطنية”.
في أيام احتضار الاتحاد السوفيتي حاول ميخائيل غورباتشوف المحافظة على وحدة البلاد من خلال توظيف الأفكار الاشتراكية “ذات الطابع الإنساني”، غير أن بوريس يلتسين المناهض للشيوعية خرج في مسيرة صارخة حتى سقوط الشيوعية، ثم أخبر الأقاليم الروسية أن “تتمتع بأكبر قدر من السيادة الذاتية”، الأمر الذي قاد إلى سنوات من الصراع في الشيشان، بعدها، نظمت الصحيفة الشديدة الولاء ليلتسين مسابقة من أجل ابتكار أفضل شعار للوحدة الروسية، ولكن لم يقدم الروس أي شعار يشبه مثلاً “الحلم الأمريكي”.
في طريقه، ابتكر بوتين أشياءً قريبة من هذا المعنى، كلمة روسي أو “راشن” باللغة الإنجليزية مصدرها معنيين مختلفين وهما: “راسكي” وتعني العرق الروسي، و”روسيسكي” وتشير، وفق الوثائق الرسمية الروسية، إلى اسم الدولة أو الأمة ككل، وهي قريبة من المعنى الذي يقصده الأمريكيون عندما يقولون “أمريكانز”.
إن يوم الوحدة الوطنية، هو بمثابة دلالة على انتباه بوتين لهذا المعنى، فوزع أول ميداليات “خدمة الأمة الروسيسكية”، ثم بدأ الآخرون يكررون هذا الشعار، وهذا هو المراد.
المصدر: صحيفة واشنطن بوست