مشهد فريد في جبين الدهر يستعرضه العقل في تلقائية وألم وأمل معًا، وصدق رائد ومعلم البشرية الحكمة وحسن التعبير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلمّا عاد المصطفى من غزوة أُحد وجد نساء الأنصار يبكين على شهدائهن، رضوان الله عليهن، وكان الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد افتقد عمه حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، في المعركة، فقال:
ـ ولكن حمزة لا بواكي له. (أخرجه ابن ماجه وأحمد عن بن عمر رضي الله عنهم).
ومع الفارق فإن أهل السُّنّة في عالم اليوم لا بواكي لهم، فإن جُرِحَ أصبع صغير لعلماني أو شيوعي أو يساري هنا أو هناك أنبرت القوة الأولى في العالم اليوم لتدين وتندد وترغي وتزبد، وتقول إنها تتابع الأحداث عن كثب، فيما يبدي الأمين العام للأمم المتحدة عظيم قلقه، لكن إبادة عشرات ومئات من “أهل السٌّنّة” أصحاب الحقوق لا يحرك ساكنًا للولايات المتحدة، ولا لـ”بان كي مون” أو أشباه الرجال والأمم، التي إن تقدمت اليوم، أو سادت بالتكنولوجيا حملت دلائل السقوط بالاضمحلال الأخلاقي داخليًا وخارجيًا.
أهل السنة لاجئون على الحدود التركية
أهل السُّنّة، ممثلو الإسلام في صورته الوسطية الرشيدة، أكثر أهل الأرض سلامًا، ورغبة في التعايش، فقط في السنوات الأخيرة، خلال قرابة عقدين ونصف العقد من الزمان، خلال ربع القرن فقط، يُباد الآلاف منهم، بلا سبب عاقل أحيانًا، أو حتى لمجرد أنهم احتكموا إلى صناديق الانتخابات أحيانًا أخرى، فيبادون، أحيانًا، بالديمقراطية الغربية المزعومة، أو صنم العجوة، الذي يعبده الغرب في بلاده، حتى إذا ما جاع في سواها أكله، إن فاز (أهل السُّنّة).
في الجزائر بالانتخابات خلال ديسمبر/ تشرين الأول 1991م من القرن الماضي، عندما فازت جبهة الإنقاذ في الانتخابات البرلمانية انقلب العسكر عليهم فأمعنوا القتل في البلاد والعباد، بداية من الشهر التالي مرتدين زي الأمن أحيانًا، وزي الإسلاميين أحيانًا أخرى، مبيدين القرى بلا وازع من عقل أو ضمير أو دين من قبل، وحصد الأمر آلاف الضحايا لما يزيد عن عشر سنوات.
وإذا أراد أهل البوسنة والهرسك من المسلمين المعتدلين (أهل السُّنّة) الانفصال عن ظلم “الصرب” لهم، قامت الحرب الدينية على أشدها تحت سمع وبصر وعناية ورعاية الغرب ليستشهد منهم عشرات الآلاف دون ذنب أو جريرة، وعلى رأسهم النساء والشيوخ والأطفال، من مارس/ آذار 1992م حتى نهاية 1995م!
وإذا استطاعت حركة حماس في غزة التحرر من الاحتلال الإسرائيلي وويلاته، والفوز بالأغلبية البرلمانية في 27 من يناير/ كانون الثاني 2006، تمارس الضغوط الداخلية والخارجية حتى تضطر إلى الاستقلال بالقطاع في العام التالي، وتحاصر غزة وتحارب داخليًا من فتح بل يتم قصفها إسرائيليًا عدة مرات وخلال سنوات، ليسقط مئات الشهداء على الأقل، هذا مع استمرار الدم الفلسطيني بشكل لا يكاد يفوت عدة أيام، والجيش الإسرائيلي الأربعاء 26 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي هو الذي يقر ويعترف بأن جنوده يقتلون بلا سبب، نقلًا عن الإذاعة الإسرائيلية، بحسب مواقع ووكالات، منها الأناضول التركية، والسلطة الفلسطينية التي تضمخت فعزّتْ في الرئيس الإسرائيلي الأسبق بطل المذابح ضد الأطفال قبل الكبار من العرب شيمون بيريز، وأخطر إرهابي ضد العرب في العصر الحديث منذ عصابات الهاجاناة حتى حرب 1956، وبطل مذابح جنين والياسمينة حتى مجازر الإبادة ضد قطاع غزة في 2008، وهلم جرا، بحسب اليوم السابع القاهرية الانقلابية في 28 من سبتمبر/ أيلول الماضي، والسلطة الفلسطينية التي ذرف رئيسها الدموع في عزاء بيريز في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، هي التي تشتكي إلى محكمة الجنايات الدولية القتل المستمر للفلسطينين بلا سبب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي!
وإذا خرج الراحل الرئيس العراقي صدام حسين عن السيناريو الذي يريده الغرب له، سواء أكان عن علم أو غير، وإذا أراد الاحتفاظ بقوة بلاده كحارس للبوابة الشرقية للأمة العربية، ألبَّ الغرب عليه إيران ليحاربها لسنوات تسيل فيها الدماء بلا هدف، فإذا خرج من حربها في الثمانينات ولم تدمر قوته، عاود الغرب الإيعاز إليه فيدخل الكويت في الـ2 من أغسطس/ أب 1990م، وأذكر أنه في الأسبوع السابق لدخوله فقط كتب رئيس تحرير جريدة الأهرام المصرية شبه الحكومية الأسبق إبراهيم نافع مقالًا بعنوان “لماذا لا نغني؟!” مترنمًا بحال مصر والعروبة!
وعقب إيعاز السفيرة الأمريكية في بغداد أبريل غلاسبي للراحل صدام حسين بدخول العراق، ارتدت له حذاءً لا يعلو عن الأرض، وفستانًا أخضر اللون لأنه كان قصيرًا ولا يحب أن تبدو امرأة أيًا مَنْ كانت أطول منه مع تفضيله اللون الأخضر في الثياب، بحسب كلمات بمحاضرة للراحل محمد حسنين هيكل في معرض الكتاب 1991، وبعد الإيعاز إليه بدخول الكويت تحالفت أمريكا والغرب والشرق ضده ليفنوا الآلاف من خيرة رجال العراق من جديد مع عدم الإبقاء على مقدراته، ولم يكتف الغرب بهذا ضد أهل السُّنّة وإنما في الـ9 من أبريل/ نيسان 2003م قامت أمريكا باحتلال العراق في سابقة أولى في القرن الحادي والعشرين على مستوى العالم كله، لتقتل وتبيد آلافًا آخرين من جنود أهل السنة، وتترك العراق في حالة من الفوضى تودي بحياة آلاف آخرين.
وحينما تنتفض تونس ومصر واليمن وسوريا في نهاية 2010 وبداية 2011م ضد ظلم حكام أسمائهم عربية وضعهم الغرب على عينه حكامًا لدول يفنون مقدراتها، ويعينون أعداءها عليها، مثّل الأمريكيون دور المستجيبين للحراك السلمي، ثم ساعدوا في الانقلاب على أول رئيس منتخب ديمقراطيًا في مصر، محمد مرسي، لتسيل أنهار الدماء، ويهدد السلم العام بقسوة.
وفي نفس الوقت تستمر معاناة سوريا مع الحاكم السفاح بشار الأسد منذ مارس/ آذار 2011م حتى اليوم، ويغذي الغرب العلويين من أنصاره ضد (أهل السّنّة) الذين يمثلون أغلبية أهل سوريا، وهكذا مات قبل أن تدخل روسيا على خط محاولة قمع الثورة السورية عشرات الآلاف من أهل السُّنّة، حتى إذا تدخلت روسيا على الخط في الـ30 من سبتمبر/ أيلول 2015 مات عشرات الآلاف آخرين، حتى ليقول المرصد السوري لحقوق الإنسان الثلاثاء الأول من فبراير/ تشرين الثاني الماضي أن 1343 شهيدًا مدنيًا سوريًا ارتقوا خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي فحسب، منهم 499 طفلًا وامرأةً، بحسب وكالة الأناضول، هذا غير ما يزيد عن 10 آلاف آخرين قتلهم القصف الروسي في سوريا خلال 13 شهرًا (من فجر الـ30 من سبتمبر/ أيلول 2015 حتى فجر الـ30 من أكتوبر/ تشرين الأول 2016)، بحسب وكالة الأنباء الألمانية في الـ31 من نوفمبر/ تشرين الأول الماضي.
أما أهل السُّنّة في اليمن فبعد قليل من ثورتها لم تلبث الأمور أن ساءت، فدفع أعداء أهل السنّة وقوى الغرب بـ(الحوثيين) الشيعة لينصروا المخلوع علي عبد الله صالح، لتقوم السعودية بتحالف ضده في مارس/ آذار 2015، مستضيفة نائبه سابقًا عبد ربه هادي منصور الذي استمر رئيسًا لكن على أراضيها، بعد أن كانت السعودية نفسها هي ملاذ علي عبد الله صالح نفسه، بل تمت معالجته في مستشفياتها لما وصل إلى حالة حرجة عقب قصفه بالطيران، والنتيجة 6600 من أهل السنة في اليمن يستشهدون، فيما أصيب 35 ألفًا نتيجة نصرة الغرب وطرف من دول الخليج لما يسمونه “شرعية في اليمن”، وهم الذين تخلوا عن الشرعية في مصر مع سابق الإصرار!
أطفال أهل السنة في مخيمات النزوح
وانتقلت الحرب ضد أهل السنة إلى الدفع بميليشات شيعية مسلحة، لتحارب أهل السنة في سوريا، وبعد أن كان الغرب والسعودية يحاربون الشيعة في اليمن، صار الغرب يقف إلى جوار الشيعة في العراق للتخلص من تنظيم زرعه بعناية في قلب الأمة الإسلامية واسمه تنظيم الدولة الإسلامية، وانطلى الاسم على مثقفين يرون العبث مخرجًا لما نحن فيه من مآسٍ، وكما تمت زراعة إسرائيل في قلب الأمة النابض تمت زراعة داعش/ تنظيم الدولة، وإلا فلم يحارب الأخير أهل السُّنّة بضراوة ويجلب المصائب لهم (6 آلاف مقاتل استطاعوا الاستيلاء على الموصل ثاني كبرى المدن العراقية بعد بغداد، ويجرون المآسي على مليونين من أهلها السُّنّة الآن)، ومأساة وراء مأساة، الموصل بعد حلب بعد عشرات المدن السورية على الأقل، وعشرات المدن العربية على الأكثر.
واليوم تباد مدن عربية من الشيعة الذين وضعهم الشعوبيين في قلب الأمة، وجعلوا طرفًا من الفرس الذين لم يتغلغل الدين في قلوبهم منذ ما بعد القرن الثالث الهجري قمة همهم الانتقام من المسلمين الذين استطاعوا فتح بلادهم، ويتضامن الشيعة مع تنظيم مشبوه (داعش)، وإن انضم إليه مئات الشباب بحسن نية، فبسبب رفض الغرب لأي حل يكفل حراكًا على سبيل الاستقرار فقط، عوضًا عن النهضة والتقدم، أما من أين يستطيع التنظيم المزعوم تمويل نفسه، وبالتالي الانتشار في الشام، فتلك أسئلة على الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية الإجابة عنها.
السبت الـ29 من أكتوبر/ تشرين الأول صرح فالح الفياض مستشار الأمن الوطني في الحكومة العراقية ورئيس هيئة الحشد الشعبي الشيعية، دخول قوات بلاده الأراضي السورية بعد تحرير مدينة الموصل (شمالي العراق)، عازيًا السبب في ذلك إلى ملاحقة عناصر داعش، وذلك للمرة الأولى التي يكشف فيها العراق عن هذا التوجه، بحسب وكالة الأناضول التركية.
فإلى متى ستستمر محاولة إبادة أهل السنّة والقتل والتنكيل بمئات الآلاف منهم، وترى أي المدن سيحل الدور عليها في مقبل الأيام إن لم يتحد أهل السنة وتكون لهم منظومة واحدة تحميهم في مقابل أعداء تكالبوا عليهم؟!