تحدث الرئيس التركي في حواره الأخير مع برنامج “المقابلة” في قناة الجزيرة، عن “علمانية العدالة”، مؤكدًا في حديثه على نفس الرؤية التي صاغها حزب العدالة والتنمية في 14 من أغسطس 2001، أي بعد 15 سنة من تأسيس العدالة و14 سنة من صعوده للسلطة 2002، وأكثر من سنتين لرئاسة طيب أردوغان الجمهورية (10 من أغسطس 2014).
كان الحزب قد صاغ رؤية اقتصادية وتنموية قامت على مبادئ العلمانية والديمقراطية، وأدت بعد تسلم العدالة السلطة لانتقال تركيا إلى رقم عالمي صعُبَ تجاوزه، واستطاع الحزب أن يتعامل بمرونة مذهلة مع المشاكل الدولية وأن يتجاوز بذكاء الأزمات الداخلية، وكان أخطرها على الإطلاق محاولة الانقلاب الفاشلة في الـ15 من يوليو 2016.
لم يكن إيمان حزب العدالة بالعلمانية لكونها هوية الدولة التركية فقط، بل لكونها أحد المبادئ الأساسية التي تأسس عليها الحزب، لقد تعهد مؤسسو حزب العدالة في برنامج تأسيسه بالحفاظ على “علمانية الحزب”، وأكد النظام الأساسي على كون العلمانية خيارًا استراتيجيًا للحزب، وليس تكتيكيًا من أجل الوصول للسلطة، يقول العدالة في برنامجه السياسي إن العلمانية شرط ضروري لحماية الديمقراطية، والدين أهم المؤسسات الإنسانية، كما أن البرنامج رفض أية “إساءة للعلمانية أو الإضرار بها”، معتقدًا أن الحديث عن كون العلمانية ضد الدين هو نوع من الإساءة لها.
وضح الحزب في برنامجه السياسي أنه ليس حزبًا دينيًا ولكنه “وسيلة للخدمة”، معتقدًا أن رضى المواطن هو مقياس أي نجاح، ولذا كانت الخدمات العامة هي الطريق العملي لنيل رضى المواطنيين، لقد ولد الحزب من البداية تحت شعار “العمل من أجل تركيا”، ورسخ لأول مرة في تاريخ الشرق الأوسط وليس تركيا فقط، ما يمكن تسميته بـ”المواطنة التنظيمية” حيث احتضنت عضويته كل الأجناس والأعراق بدون تمييز.
في الحقيقة، نحن أمام حالتين علمانيتين عند الحديث عن حزب العدالة التركي “علمانية الحزب وعلمانية الدولة”، علمانية الحزب هي حالة مؤكدة في بيان التأسيس وبرامج الحزب، وواضحة في طريقة أداء “العدالة” الاجتماعي، وطبيعة علاقاته مع الآخرين، وهي حالة تعرّف نفسها، بكونها تقف على مسافة واحدة من المواطنين الأتراك، وقد وجدنا هذا واضحًا في هوية مؤسسي الحزب، والتي مثلت تعبيًرا واضحًا عن تعددية علمانية شكلت بنية “العدالة”، حيث ضم معتدلي الإسلاميين والقوميين والجمهوريين، وفي ذات الوقت مغنية وممثلة و4 محجبات من 13 امرأة، وحالما صعدت هذه الحالة إلى قيادة الدولة التركية، كان تعاملها مع “علمانية الدولة “، متناغمًا وطبيعيًا.
لم تكن مشكلة تركيا في علمانيتها، هذا ما وجده مؤسسو العدالة، عندما عقدوا أول اجتماع لهم، بل توصلوا الى أن تركيا دولة ديمقراطية تنصب مشكلتها، في أمرين رئيسيين:
الأول متعلق بانحراف “النخبة الكمالية”، نسبة إلى كمال أتاتورك، عن المفهوم الحقيقي للعلمانية، والتي تعني وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الآراء والمعتقدات، وقد تعصبت تلك النخبة لمعتقدات على حساب أخرى، مما أنتج أزمة هوية مجتمعية.
والثاني مرتبط بالفساد الذي نخر جسد الدولة، كنتيجة لانشغال تلك النخبة بالصراعات السياسية على حساب التنمية.
ولذا تعهد مؤسسو العدالة عند إعلان التأسيس بتصحيح مسار العلمانية من خلال عدم تدخل الدولة في حريات المجتمع التدينية والشخصية، وتأكيد أن العلمانية كهوية للدولة لا تعني جعلها هوية مُسَطّرة بنمط أحادي على المجتمع، وفي ذات الوقت وضعوا رؤية اقتصادية لإنقاذ البلد، وبرنامج اقتصادي عملي لإدارة ذلك الاقتصاد.
من هنا يمكن القول إن أي دراسة لتجربة العدالة التركي، تعتمد الحديث فقط عن “علمانية الدولة التركية” بعيدًا عن “علمانية الحزب” ذاته، ستكون دراسة مشوشة الرؤية وغامضة النتائج.