كجزء من عملي كمنسق لقافلة إغاثية لمساعدة اللاجئين السوريين على الحدود التركية السورية، أحتاج بشكل دوري أن أدخل إلى الأراضي السورية، قبل أسابيع حاولت الدخول إلى المنطقة الحدودية في ريف إدلب إلا أن حرس الحدود التركي رفضوا السماح لنا بالعبور، وانتهى بنا الأمر في مكتب والي المدينة الحدودية التركية “الريحانية” الذي قال لنا مدير مكتبه إن لديه معلومات بأن هناك عدة سيارات مفخخة دخلت إلى الأراضي التركية بفعل مجموعات داخل سوريا بغرض تفجيرها. وبمجرد أن قال الرجل ذلك، وبعد أن اعتذر الوالي بنفسه لنا عن عدم السماح لنا بالمرور إلى سوريا، علمت ومن معي من كان يتحدث عنهم الوالي. كان الرجل يقصد الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أو كما يسمون أنفسهم: (الدولة).
خلال اليومين الماضيين عدت مرة أخرى إلى الحدود السورية التركية، ولارتباطي بعمل مباشر داخل سوريا، فقد دخلت سوريا كعضو في منظمة إغاثية، حيث تسمح السلطات التركية للعاملين في المجال الإغاثي وفي المنظمات الإنسانية بالدخول إلى سوريا بإجراءات سلسة غير معقدة في إطار التسهيل على اللاجئين السوريين، وفي الداخل كان المشهد مختلفا كثيرا.
المناطق التي تعمل بها المنظمات الإغاثية جميعها، وأتحرك فيها شخصيا، هي ما تُعرف عند السوريين بـ”المناطق المحررة”، وتُعرف إعلاميا بالمناطق “التي تسيطر عليها المعارضة”، ومنذ قرابة العام ونصف العام، وأنا أعاود الدخول إلي تلك الأراضي التي تمتد من الشريط الحدودي مع تركيا، إلى المناطق الساخنة بالقرب من خطوط التماس بين قوات الجيش النظامي والمعارضة المسلحة (الأجنبية والسورية) في سوريا.
وخلال عام ونصف من عشرات الزيارات، تعودت أن أسمع قصفا هنا أو هناك، تكرر ذلك الأمر مرات قليلة خلال الزيارات المتعددة إلى سوريا. لكن هذه المرة بالفعل كانت مختلفة، فطوال الزيارة القصيرة التي استغرقت قرابة ست ساعات فقط، لم تتوقف الاشتباكات لحظة في تلك المنطقة المحررة من ريف إدلب، الاشتباكات تقع في قرية تُسمى الدانة، أعلنتها “الدولة” ولاية إسلامية قبل عدة أشهر.
قبل قرابة الشهرين، زرت الدانة، لم أجد فيها شيئا مختلفا، كانت هناك العديد من الشائعات التي تتناثر حول طبيعة إدارة “داعش” للمدينة، إلا أنني عندما زرتها وجدت بعض المدخنين بجوار مقاتلي الدولة (وغالبهم من المهاجرين، أي الأجانب)، ووجدت العديد من الأشخاص غير الملتحين، إلا أن المشهد الأبرز في المدينة كان اللافتات الكثيرة التي تؤكد على انتماء المدينة الصغيرة إلى الدولة الإسلامية التي يُديرها من لا يعرف أحد شكله: أبو بكر البغدادي، زعيم دولة الإسلام في العراق والشام!
كانت الحكايات تتناثر حول تطبيق الحدود (وقد ثبت صحة بعضها لاحقا)، وإلزام النساء بارتداء شكل معين من الحجاب، وإلزام الرجال بإعفاء اللحى، ومنع التدخين وتجريم السب بالدين وتجريم التلفظ بلفظ “داعش”. كل هذه هي اتهامات يتناقلها السكان المحليون بخصوص داعش، لم أتمكن من التأكد منها بشكل شخصي، إلا أن من يحكونها كانوا يقسمون على صدقهم فيها، وهم جميعا من أهالي سوريا الذين ليست لهم مصلحة في التقليل من شأن فصيل مقاتل صلب وقف إلى جانبهم مقابل النظام السوري.
هذه المرة لم أستطع الاقتراب من الدانة، فالاشتباكات التي كنت أسمعها من على بعد ٤ كيلومترات لم تكن سوى معارك بين فصائل من الجيش الحر، والجبهة الإسلامية (التي تشكلت كمظلة لبعض الكتائب الإسلامية المقاتلة ضد النظام السوري وتضم عدة مجموعات مسلحة قوية في الداخل) من جهة وبين داعش من جهة أخرى، كانت المعركة تهدف لتحرير المنطقة المحررة أصلا، لكن من “الدولة” هذه المرة.
الأهالي يتحدثون أن الأمر بدأ مع مقتل أبو ريان، القيادي الطبيب من مجموعة “أحرار الشام” المقاتلة، والتمثيل بجثته على يد عناصر الدولة، هذه ليست المرة الأولى التي أسمع فيها بقتل الدولة لأحد معارضيها! قبل عدة أشهر حذرني بعض الأهالي من التحدث بلهجتي المصرية إذا أوقفني أحدهم على حاجز من تلك الحواجز التي يقيمونها لتفتيش الأهالي، لأنهم عندما رأوا موظفي الإغاثة سابقا، اتهموهم بالعمل لصالح الولايات المتحدة بعد أن رأوا العلم الماليزي الذي يحملونه على ملابسهم ولم يفرقوا بينه وبين العلم الأمريكي! وهو ما أدى لمقتل مسؤول الإغاثة في حركة أحرار الشام أيضا.
هذه الحواجز كوميدية للغاية! فعادة ما أسير بصحبة أشخاص من المنطقة التي أعمل بها، وعندما نمر على تلك الحواجز، من الوارد جدا أن نرى شخصا لا يعرف العربية (مهاجر أجنبي) يسأل مرافقي الذي يقود السيارة، من أي مدينة هو، فيجيبه الرجل باسم قرية لا توجد بالأساس، فيسمح له الجندي بالمرور! وينظر إلي مرافقي ضاحكا ويقول “إنهم لا يعرفون سوريا! لكنهم طيبون للغاية”
وبعد مقتل أبو ريان قُتل شخص آخر في منطقة الأتارب، يُدعى المقدم عبيد عبيد، وهو قيادي من الجيش الحر، من أوائل من عملوا في تلك المنطقة ضد النظام، وكانت داعش أيضا قد اقتحمت “الفوج ٤٦”، وهو مساحة ضخمة من الأرض كان يسيطر عليها لواء أحباب الله ولواء شهداء الأتارب الذين شكلا مع مجموعات أخرى ما عُرف بلواء المدرعات الأول، داعش اقتحمت الفوج وسيطرت عليه.
الجبهة الإسلامية ردت بشكل سريع وحاصرت الدانة، مقر قيادة داعش في ريف إدلب، وساعتها بدأت فورا محاولات للوساطة، قادتها جبهة النصرة، التي انشقت عنها الدولة سابقا. لقد حاول مقاتلوا الجبهة إقناع داعش بتسليمهم المقر كونهم طرف مقبول من الفريقين المقتتلان، إلا أن المفاوضات فشلت بسبب تعنت الدولة حسبما يقول السكان.
وبعدها بدأت معركة الدانة!
لقد كنت أخطط للبقاء في سوريا ليومين على الأقل، إلا أن ما حدث اضطرني للعودة مجددا داخل تركيا، فمع معركة الدانة، أعلنت الدولة أنها ستستهدف “الصحوات” (في إشارة إلى ميليشيات سنية شكلها الجنرال ديفيد بيتريوس الأمريكي في العراق لمحاربة القاعدة) وستحاربهم في كل مكان، وأعلن قائد ميداني للدولة في تسجيل صوتي أن لديه جنودا “شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء”، وهو ما اتخذت ضده جميع القرى التي مررت بها ردود أفعال تمحورت في تشكيل حواجز وقطع الطرق وتفتيش السيارات المارة.
فقد انتشرت الأنباء عن استعداد عدد كبير من الانتحاريين لاستهداف المجموعات المقاتلة الأخرى، وتحدث الأهالي عن أن الدولة قد تستهدف المدنيين كذلك انتقاما منهم لرغبتهم في التخلص من حكم داعش!
بالنظر إلى العمل الإغاثي وأثر تلك الاشتباكات على النازحين السوريين، فإنه مع ارتفاع وتيرة الاشتباكات بين النظام والمعارضة في حلب، في المعركة التي يصفها مقاتلوا المعارضة “بالأخيرة”، ومع ازدياد القصف الوحشي على المدنيين في حلب، فإن المئات منهم قرروا النزوح إلى المناطق “المحررة” “الآمنة” إلا أنه مع تلك التطورات، فإن جميع الطرق قد أٌغلقت، ما أوقع النازحين بين شقي الرحى، بل إن الأمر وصل إلى أن فرضت الجبهة الإسلامية حظر تجول في مدينة منبج في ريف حلب لمدة ٧٢ ساعة.
بيان الجبهة الإسلامية كان حاسما للغاية، فمع قرار حظر التجول، قال بيان الجبهة أنهم يعلنون الاستنفار العام، وأنهم “يحذرون كل الكتائب التي لا تشترك معهم” في حرب داعش.
من ناحية أخرى فإن الحدود التركية المغلقة، تسببت في تأخر وصول المساعدة اللازمة لآلاف المتضررين على الحدود، حيث أوقفت السلطات التركية حركة البضائع في ظل تهديدات مستمرة بتفجير سيارات مفخخة بالقرب من المعابر الحدودية. هذه البضائع غالبا ما تكون شحنات من الأغذية والملابس أو الأغطية والمستلزمات المتعلقة بالشتاء.
العديد من الأخبار تواردت بين الأهالي من أن داعش قصفت قرية عندان بريف حلب في استهداف للمعارضة إلا أنها أصابت مدنيين كثر، كما تبادلوا فيديوهات تظهر أحد أعضاء الدولة يعلن بيان انشقاقه عن داعش ويدعو آخرين للاحتذاء به حقنا للدماء.
وقبيل خروجي من سوريا، وبعد أن مررت بعدة حواجز على الطرقات المؤدية إلى الحدود، علمت أن معارضي الدولة استطاعوا تفكيك ثلاث سيارات مفخخة وجدوها في المنطقة، بخلاف خبر آخر انتشر على الصفحات المحلية يقول بأن الدولة فجرت سيارة مفخخة بالفعل في حاجز تابع لجبهة النصرة بقرية تديل في ريف حلب الغربي.