أهل الموصل ضحية الحكومات المتعاقبة، وضحية بطش كرسي السلطة الذي إذا ما تحرك أهل الحدباء أو أهل العراق بمختلف مدنهم وهزوه تداعت الطائرات محلقةً بقنابلها فوق رؤوسهم، فتقصف الشوارع القديمة، وتدمر الأسواق الأثرية، وتتهاوى البيوت على ساكنيها، ويعم الفقر نتيجة الحصار، فما أقبح الحاكم! وكم هي مظلومةٌ تلك المدن! وعادةً ما يدفع أهل الموصل الثمن، حينما تكون مدينتهم منطلقًا للتمرد على السلطة، وإذاعة بيان عدم الطاعة لحكومة بغداد.
بعد ثورة عام 1958 والتي أنهت الحكم الملكي في العراق، تمكن الشيوعيون من السيطرة على الساحة العراقية، وظهرت الكثير من الأفعال التي أشارت بوضوح إلى وجود عملية التعرض للدين والاعتداء على المصلين في المساجد، ورفع شعارات ضد التشريعات الإسلامية، ومنها مظاهرة اتحاد النساء والمقاومة الشعبية في شارع الرشيد، وهم يرددون “راس الشهر ماكو مهر والقاضي انذبه بالنهر”، ونشر الكتب التي تناقش وجود الله وتاريخ الرسول من قبل كتابٍ ملحدين، ورمي روث الحيوانات في المساجد، وآخرها تمزيق القرآن في بغداد تحت سمع ومرأى السلطة، ممثلةً بعبد الكريم قاسم وحكومته.
عبد الكريم قاسم على غلاف مجلة التايم بعيد ثورة الشواف
عبد الوهاب الشواف أثارته هذه الأخبار وخاصة تمزيق القرآن الكريم، شأنه شأن كثيرٍ من الضباط الأحرار آنذاك، فذهب لمقابلة قاسم وهو ساخط لما يجري وقال له: لقد مُزِق القرآن الكريم من قبل هولاكو واليوم يمزقه حفنةٌ من الملحدين في بغداد، ويهان الدين الإسلامي في زمانك؟ وكان جواب قاسم: أنا غير قادر على إدخال الدين في عقول الناس بالقوة.
العقيد الركن عبد الوهاب الشواف والذي كان يشغل منصب آمر اللواء الخامس في الجيش العراقي، قام بثورةٍ عرفت بثورة الشواف واشترك معه عدد من الضباط الأحرار، لكن الثورة فشلت بعد أن أمر القائد العام للقوات المسلحة آنذاك عبد الكريم قاسم إلى القوة الجوية بقصف الثوار في الموصل، فأصيب الشواف ثم قتل بعد نقله إلى المستشفى، لم يكتف عبد الكريم قاسم بقتل الشواف وإجهاض ثورته، بل وجه للأكراد “الشيوعيين” بالدخول إلى مدينة الموصل وأوعز إليهم باستباحة المدينة انتقامًا منها فحدثت أعمال سلب ونهب وسرقة للمحال والأسواق التجارية، واستغل الشيوعيون الموقف وسيطروا على المدينة وشكلوا محاكم أهليةً غير نظامية أطلق عليها “المحاكم البروليتارية” لمحاكمة المشاركين والمؤيدين للثورة.
وكان من أشهرها محكمة “الدملماجة” التي شكلت برئاسة عبد الرحمن القصاب وجرت عمليات إعدام لبعض ضباط الجيش في مقر مديرية شرطة الموصل، من بين المشاهد التي لن تنساها المدينة هي عملية تعذيب من شاركوا بالثورة، حيث كان يُربط المعتقل بسلاسل خلف سيارة ويُسحب في شوارع المدينة، كذلك مشهد تعليق الثوار على أعمدة الإنارة بعد إعدامهم وإبقائهم لأيام على تلك الحال، فما أشبه اليوم بالأمس، مشاهد “السحل” التي أوصت بها محكمة فاضل المهداوي عام 1958 وعادت خلال العامين الماضيين تتكرر اليوم والبارحة في فترتين زمنيتين لم يعرف فيهما للقضاء العراقي شيء من النزاهة.
فالقاتل يرتدي زي الجيش والشرطة ويقوم بأفعاله بتوجيهاتٍ من قيادته، والقضاء ينظر بطرف عين راضية ومشجعة ومؤازرة، حيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي حصل على تفويض من الشيوعيين في ساحة التحرير فور تسلمه للمنصب ورد لهم الجميل بقصف الموصل وأخواتها.
أما الشيوعيون الأكراد فتكفلوا بعرب كركوك وطوز خورماتو والحويجة وأخواتها، وجريدة صوت الشعب التي كانت تتطاول على الموصل قبل 50 عامًا تحولت إلى جيش إلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحول المانشيت إلى هاشتاجٍ.
وعاد الاستهزاء من المسلمين بأشكال عدة والطعن بشرف الموصليين على قدم وساق والتقديس لقتلتهم قائم بمختلف السبل، مشاهد الدماء والبكاء والقتل التي تركها عمهم قاسم عادت لتتجدد بعهد حيدر، قاسم الذي كان مدعومًا من الشيوعيين حول العالم وإسرائيل وبريطانيا، تجاوزه حيدر بالعمالة والدناءة، فالعبادي جمع دولًا أكثر وطائرات أكثر وقذائف أكثر ونازحين أكثر وأكثر.
وحتى يتلذذ حيدر بأفعاله ترك الموصليين وإخوانهم من العرب السنة المسلمين يسيرون بين الألغام، ليحجزهم بعد ذلك بأسوار من السيم الشائك ويمنعهم من الدخول لأي مدينة حتى يعيشوا مرحلة الإذلال بكل فصولها وسط الصحراء المعدومة من الخدمات وسبل العيش الكريم، غوغاء حيدر وكريم اعتدوا على المساجد والمدن واستخدموا الطائرات، والمرتزقة سرقوا وسلبوا وعذبوا، صلبوا الرجال على أعمدة الإنارة، وسحلوهم في الشوارع وجوعوهم، لكن أين كريم ومن كانوا معه؟
كذلك سينتهي عهد حيدر ومن معه ويبقى العراق عربيًا مسلمًا، وتبقى الموصل عربية مسلمة، وتبقى المساجد تكبر بـ “لا إله إلا الله” شاء من شاء وأبى من أبى، والجوامع التي فُجِرت وأُحرِقت سيعاد بناؤها مهما طال الوقت أو قصر، ولن يدخل الإلحاد إلى مجتمعنا حتى وإن ألبس لباس المدنية والشعارات البراقة التي لا تلتقي وأفعال هؤلاء متى أتيحت لهم فرصة الحكم.
تحميل هذه المدينة وأهلها “والأمر سواء للمدن الأخرى” وهذا الدين مسؤولية إخفاق الحكومات أمر اعتاد عليه التاريخ العراقي، ومن يقلب صفحاته سيجد أن كثيرًا من الحركات والأفعال مكشوفة لأنها مكررة ومنْ دفعهم للحكم سيزيلهم بعد الفوضى التي يخلفونها بفترة حكمهم وكثرة دماء العراقيين التي يسفكونها بحجة الحفاظ على السلطة.