لكل كيان على وجه المعمورة منظومة إدارية تضم مجموعة من المواقع والتقنيات والأدوات والوسائل التي تساعده على تسيير نشاطه وتحديد مسار العلاقات للعناصر الفاعلة بداخله وغير الفاعلة.
وفي ضوء ذلك، تقوم منظومة جماعة غولن التنظيمية على ثلاثة أنظمة:
ـ نظام الأئمة وهو النظام الأعلى في الكيان.
ـ نظام الأخوة ويطلق على الأخ الكبير “آبي” والأخت الكبيرة “أبله”.
ـ أعضاء الجماعة المستجدين الذين يقعون في ذيل المنظومة.
يعمل الإمام على تنظيم إقليم كبير إلى جانب إدارته ركن معين من أركان الدولة أو من أركان الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية كإمام القوات الجوية المسلحة أو إمام سوق العمل أو إمام الإعلام وهكذا.
ويبدأ عمل الآبي الأكبر بإدارة مدينة معينة، والآبي الأقل درجة يُدير بلدة والأقل حي والأقل بيت وهكذا هي المنظومة التي تقابلها الأبله بالنسبة للطالبات والنساء.
وفي إطار ذلك، لعب محمد بارانسو المولود في مدينة أرداهان شرقي تركيا يوم 7 من مارس 1977، دورًا محوريًا في رفع اللواء كإمام لرفع القضايا التي كانت تستهدف الأطراف السياسية أو الإيديولوجية المناوئة لتغلغل عناصر جماعة غولن داخل مؤسسات الدولة.
مع جولاتي الميدانية في المدن الشرقية والجنوب شرقية لتركيا، لامست أن المواطنين المقيمين هناك يقاسون من حالة عدم الاستقرار الأمني ويفتقرون لفرص العمل ذات العائد المجدي، وعن الفرصة التعليمية لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الالتحاق بأحد الكيانات الاجتماعية التي يمكن أن تكون جماعة دينية أو ناديًا أو جمعية مساعدة، أو عبر دفع العائلات الثرية قليلة العدد مبالغ باهظة لإرسال أبنائها إلى مدارس المدينة ومؤسسات الدروس الخاصة التي لا بد من الذهاب إليها للحصول على علامة تؤهل الطالب لاجتياز اختبار الكفاءة الخاص بالجامعة.
واختيار بارانسو ليكون إمام القضايا الحقوقية أمر لا يمكن أن يتم إلا من خلال ترعرعه في أحضان مدارس وسكانات جماعة غولن، فقد صرح بنفسه في أكثر من لقاء تلفازي أن الوضع الاقتصادي لعائلته كان يرثى له.
بعد دراسته للإعلام في جامعة إسطنبول، بدأ بارانسو حياته العملية كمتدرب عملي في صحيفة أقشام، وفي عام 1997 شرع في العمل كصحفي في جريدة “أقسيون” “الحركة”، واستمر في العمل بها حتى عام 2000، ومن ثم التحق بجامعة مرمرة لدراسة الماجستير، وكان عنوان رسالته “الجرائم المستهدفة للأطفال في أمريكا ودور الإعلام في نشرها”، وللحصول على تفاصيل أوسع فيما يتعلق برسالته انتقل إلى الولايات الأمريكية المتحدة وبقي هناك أكثر من ثلاث سنوات.
عقب عودته عمل في صحيفة حرييت، ومن ثم انتقل إلى صحيفة طرف التي شكلت الضلع الإعلامي الأقوى في دعم قضايا حقوقية وسياسية رئيسية غيّرت المسار الداخلي لتركيا، كقضية أرغاناكون وباليوز “المطرقة”، حيث رفعت من وتيرة الاهتمام الإعلامي بهاتين القضيتين وعملت على نشر عدد من القرائن القانونية الخاصة بهما، وكان لبارانسو دور كبير بهما حيث أعلن عن بعض وثائقهما عبر حسابه على تويتر.
بدأت قضية الأرغانكون بتاريخ 12 من يوليو 2007، بعدما عثرت قوات الأمن على 27 قنبلة يدوية في إحدى العشوائيات الواقعة في ناحية العمرانية بإسطنبول، واعترف صاحب العشوائية أن ملكية هذه القنابل تعود إلى مؤسسة “القواي الميليية” “القوات القومية” المعروفة بنهجها اليساري القومي الكمالي الذي حكم المسار الفكري والسياسي والمؤسساتي لتركيا لسنوات طويلة، والذي لطالما شكل عائقًا أساسيًا أمام هدف جماعة غولن في فرض السيطرة على أكبر عدد ممكن من مؤسسات الدولة.
كان للمدعين العامين والقضاة التابعين لجماعة غولن دورًا أكبر من الجهاز الإعلامي في تسيير هذه القضية والتنقيب عن الأدلة، إلا أن دور وسائل الإعلام التابعة لجماعة فتح الله غولن في تضخيم القضية وجعلها قضية رأي عام لم يكن غائبًا، وفي ذلك الإطار لعبت جريدة “طرف” التي أُغلقت في أحداث محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة، والتي كان يتولى محمد بارانسو منصبًا مرموقًا بداخلها، الدور الأكبر في نشر التهم الموجهة للمعتقلين بشكل مفصل.
كما أنها لعبت دورًا أساسيًا في استثارة غضب الشعب على المتهمين، حيث إنها سبقت صحيفة زمان، المعروفة بأنها البوابة الإعلامية الأولى لجماعة غولن، في نشر الأخبار التحريضية على المعتقلين في إطار القضية، ومن أبرز الأخبار التي تناولتها الصحيفة في صفحاتها الأولى لأكثر من مرة أن الدماء كانت ستجري كالأنهار وستكون عمليات الاغتيالات بحق القامات الوطنية المحافظة مكثفة، ومن ثم سيتدخل الجيش لكبح هذه الفوضى، ولكن إلى أن يتدخل الجيش ستكون هناك الكثير من الأسماء قد تم القضاء عليها.
أما الدور الأكبر لبارانسوا الراعي لصحيفة طرف فقد بزغ في قضية باليوز، حيث شرعت النيابة العامة بإجراءات التحقيقات الخاصة بالقضية بعد نشر صحيفة طرف في عددها الصادر بتاريخ 20 من يناير 2010، خبرها الذي يشير إلى أن هناك مجموعة كبيرة من الضباط والجنرالات كانت تخطط لإجراء انقلاب عسكري عام 2003، وكشفت “طرف” بأن الوثائق تبلغ 5 آلاف صفحة.
وشرحت الصحيفة محاولة الانقلاب من خلال التأكيد على أن الجنرالات المخططين كانوا ينوون افتعال أزمة داخلية بين الشباب المحافظ واليساري من خلال استهداف بعض المساجد بعبوات والتلويح بضلوع اليساريين بذلك، وإسقاط طائرة عسكرية تركية فوق المياه الإقليمية لليونان، لإثارة احتقان الشعب والجيش على الصعيدين الداخلي والخارجي، وأعلن بارانسو، بتاريخ 30 من يناير 2010، عبر حسابه على الفيسبوك وتويتر أنه سيسلم هذه الوثائق غدًا إلى المحكمة العليا في إسطنبول، مؤكدًا أن الوثائق تتسع لحقيبة سفر ضخمة وأرفق بالمنشور صورة له مع الحقيبة، وبالفعل نقلها في اليوم التالي عبر الحقيبة التي احتوت على عدد كبير من القرائن.
الصفحة الأولى لصحيفة طرف، حيث كانت عناوينها الرئيسية كالتالي: “كانوا سيفجرون جامع الفاتح”، “كانوا سيسقطون طائراتنا”
محمد بارانسو مع حقيبة الوثائق، حيث نشر هذه الصورة قبيل ذهابه إلى النيابة العامة بسويعات
اُكتشف فيما بعد أن عددًا كبيرًا من الدلائل المقدمة من بارانسو كانت مزيفة، الأمر الذي جعل المحكمة الدستورية العليا تلغي قضية المطرقة بدعوى هشاشة الدلائل المقدمة في القضية.
ومع بزوغ حرب النفوذ بين حكومة حزب العدالة والتنمية وجماعة غولن في مطلع عام 2012، سطع نجم بارانسو بشكل كبير، حيث نشط على تويتر وأخذ يهاجم شخص رئيس الوزراء السابق والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ناعتًا إياه “باللص” الذي انكشف أمام العامة بعد عمليتي 17 و25 ديسمبر الأمنيتين اللتين قامت بهما قوات الأمن ضد بعض وزراء حزب العدالة والتنمية ورجال الأعمال المقربين له، كما عمل على نشر ادعاءات “تفضح”، على حد وصفه، الفساد المالي لحكومة حزب العدالة والتنمية.
إذ نشر يوم 28 من نوفمبر 2013، وثيقة تكشف عن توقيع حكومة حزب العدالة والتنمية على وثيقة مجلس الأمن القومي القاضية بالتخلص من “فتح الله غولن” وجماعته عام 2004، النقطة المحورية في حياته الصحفية، حيث أدى الأمر إلى إحراج الحكومة التركية بشكل كبير وجعلها عرضة للغضب الإعلامي والشعبي الذي انعكست أضوائه في بعض المراحل الانتخابية التي مرت بها البلاد من عام 2013 وحتى عام 2015، إذ رأت ثلة كبيرة من المجتمع التركي أن حكومة حزب العدالة والتنمية منحت جماعة غولن فرصة التغلغل داخل مؤسسات وأركان الدولة بالرغم من علمها المسبق بحجم خطرها الذي كشف عنه المجلس القومي وأوصى بشدة بالتخلص منه.
يظهر في الوثيقة توقيع رئيس الوزراء السابق رجب طيب أردوغان، ورئيس الجمهورية السابق أحمد نجدت سازار، ووزير الدولة ونائب رئيس الوزراء السابق عبد اللطيف شنارا، ووزير الخارجية السابق عبد الله غل، ووزير الداخلية السابق عبد القادر أكسو، باستثناء وزير الدولة ونائب رئيس الوزراء محمد علي شاهين.
في البداية سلكت حكومة حزب العدالة والتنمية طريق النفي القطعي لتوقيعها على مثل هذه الوثيقة، إلا أن نائب رئيس الوزراء محمد علي شاهين صرح فيما بعد أنه كان على علم مسبق بهذه الوثيقة وكان سيوقع عليها إلا أن اضطرارها للذهاب إلى إسطنبول حال دون ذلك.
وبعد نشر الوثيقة التي سببت الإحراج للحكومة التركية، لوح بارانسوا عبر تويتر أنها مجرد وثيقة واحدة تكشف “عن تلاعب حكومة حزب العدالة والتنمية بالدولة والشعب”، واستنادًا إلى الصورة أعلاه يقول بارانسوا في التغريدة الأخيرة ردًا على “إيمرى أوسلو”، ضابط الشرطة السابق المتهم بالتعاون مع السي أي إي والماكث حاليًا في أمريكا، والذي قال لبارانسو “أصبحت أخاف منك بارانسو”، وتعليقًا على نشره لوثيقة التخلص من غولن “لم أفتح الحقيبة الموجودة في المنزل بعد، هذه مجرد وثيقة في أحد الملفات”.
ولم ينشط بارانسو على تويتر فقط، بل كان له دور جلي في بصمته التحريرية بصحيفة طرف التي لم تكل عن نشر وثائق تكشف عن فساد بعض رواد حزب العدالة والتنمية على حد زعمها، ولكن لم يكن لبارانسوا حظًا في الاستمرار بمنصبه كإمام رفع قضايا ونشر الفضائح طويلاً، حيث ألقت قوات الأمن التركي القبض عليه بتاريخ 2 من مارس 2015، موجهةً له تهمة نصب مؤامرة لعدد من الأشخاص البريئين في إطار قضيتي أرغانكون والمطرقة، واستمر تفتيش الشرطة لبيت بارانسو ست ساعات، ونقلت قوات الأمن الوثائق عبر أكياس كبيرة.
في الحقيقة إصدار محكمتي التمييز والدستورية العليا قرار بركاكة القرائن المقدمة ضد بعض المتهمين في قضيتي الأرغانكون والمطرقة، لا سيما أولئك الذين تم اعتقالهم بمجرد فضحهم لخطط جماعة غولن في التغلغل داخل مؤسسات الدولة واعتراضهم على ذلك، يعتبر أكبر دليل على العنصر الميكيافيلي “الغاية تبرر الوسيلة” لجماعة غولن التي استغلت جميع الوسائل للتخلص من أندادها.
وركونًا إلى السرد أعلاه، يجب تقييم مسايرة حكومة حزب العدالة والتنمية لقرار مجلس الأمن القومي الذي كان مثبتًا لقبضته الأمنية على مسار السياسة الداخلية والخارجية لتركيا في ذلك الوقت، إلى جانب تقاربها مع جماعة غولن التي كان لها بعض النفوذ الواضح داخل جهاز الشرطة كخيار يمكن الاستناد عليه للتخلص من قبضة الجيش والتيار الكمالي على مؤسسات الدولة، على أنه تحرك ذكي وبارع، ولكن نقطة الخطأ لدى حكومة حزب العدالة والتنمية كانت في السماح لجماعة غولن بهذا التغلغل الفادح.