جاء تأييد محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة المصري أمس الثلاثاء للحكم الصادر في يونيو الماضي بشأن بطلان إتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين مصر والمملكة العربية السعودية، ومن ثم التأكيد على مصرية جزيرتي تيران وصنافير بمنطقة سيناء، ليرفع منسوب التوتر بين البلدين في الأونة الأخيرة بصورة مقلقة.
الحكم الذي جاء مفاجئا للحكومة المصرية بعد رفض الطعن المقدم منها لإثبات سعودية الجزيرتين، وضعها في موقف حرج أمام الشعب من جانب وأمام السعودية من جانب آخر، حيث ألزمت المحكمة، الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والحكومة، بتنفيذ الحكم، ووقف الاتفاقية مع الجانب السعودي، لحين الفصل في طعن هيئة قضايا الدولة (الجهة الممثلة للحكومة)، أمام المحكمة الإدارية العليا في 5 ديسمبر المقبل، مع تغريم رئيس الحكومة مبلغ 800 جنيه (45 دولارا).
ردود فعل متباينة صاحبت قرار القضاء المصري، مابين مرحب ومعارض، وفي ظل هذا التباين يبقى السؤال: هل يزيد هذا القرار من إتساع الهوة بين القاهرة والرياض؟ وماهي الخطوات المتوقع اتخاذها من الجانب السعودي ردًا على هذه الخطوة؟
التغريد خارج السرب
بالرغم من حميمية العلاقات المصرية السعودية منذ تولي السيسي مقاليد الأمور ، والتي تجسدت في الدعم غير المسبوق الذي قدمه النظام السعودي لنظيره المصري، والذي لعب دورا كبيرا في تثبيت أركان نظام السيسي في الوقت الذي كان فس أمس الحاجة لهذا الدعم، إلا أن العديد من الممارسات السياسية والأمنية التي قام بها مسئولون مصريون خلال الفترة الأخيرة، كان لها مفعول السحر في توسعة الهوة بين القاهرة والرياض، كما تسببت في شرخ كبير في العلاقات بين البلدين.
بداية جاء الاستقبال المصري لوفد من الحوثيين لبحث مستقبل الأزمة اليمينة ليضع المسمار الأول في نعش العلاقات بين القاهرة والرياض، وذلك قبل أيام قليلة من دعوة وفد جبهة “البوليساريو” بقيادة خطري إدوه رئيس البرلمان الصحراوي للمشاركة في المؤتمر البرلماني العربي الإفريقي، الذي عقد في شرم الشيخ بمناسبة الاحتفال بمرور 150 سنة على أول برلمان مصري بمشاركة وفود برلمانية تمثل 47 دولة عربية وإفريقية، ليلهب الأجواء بين القاهرة والرباط، لا سيما بعد الحفاوة التي استقبل بها الوفد حسبما أشارت الأوساط المغربية.
الخطوة المصرية فسّرها البعض بأنها استفزاز للرياض في المقام الأول، خاصة بعد الدعم المغربي للتحالف العربي، لذا كان على دول الخليج أن ترد الجميل، وهو ما كان بالفعل، حيث الإعلان عن تكتل خليجي مغربي لدعم القضية الصحراوية المغربية، وهو ماتجاهلته القاهرة بدعوتها للبرلمان الصحراوي لحضور مؤتمرها بشرم الشيخ.
ثم جاء استقبال القاهرة للواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي السوري ، ليزيد الأجواء تلبدا، حيث التقى خلال زيارته بقيادات سياسية وأمنية مصرية وتباحثوا في سبل التعاون الأمني الاستخباراتي، وذلك قبل أيام قليلة مما نشرته بعض وسائل الإعلام بشأن زيارة بعض ضباط من الجيش المصري لإحدى القواعد العسكرية الروسية في محافظة طرطوس على الساحل السوري، فضلا عما أثير بشأن تزويد جيش بشار الأسد بأسلحة مصرية في مواجهة المعارضة الثورية.
وأخيرا جاء التأييد المصري للقرار الروسي بمجلس الأمن الدولي، ليزيد الهوة مع الخليج بصورة عامة والسعودية بصفة خاصة، وهو ما ألقى بظلاله على العلاقات المصرية السعودية في الآونة الأخيرة، حيث التراشق الإعلامي والسياسي بين الجانبين، وهو مالم تنساه الرياض مطلقا، حيث كان الجميع في إنتظار رد الفعل السعودي حيال تحركات القاهرة الأخيرة.
التقارب المصري الروسي يلقي بظلاله على العلاقات بين القاهرة والرياض
الرياض ترد
خلال زيارته الأخيرة لمصر في السابع من أبريل الماضي، قام العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، بتوقيع اتفاقية لتمويل احتياجات مصر البترولية لمدة خمس سنوات، بقيمة تبلغ نحو 23 مليار دولار وبفائدة 2% وفترة سماح للسداد ثلاث سنوات على الأقل، على أن يتم السداد على 15 عامًا، وذلك بواقع شحنات شهرية تصل إلى 700 ألف طن من المنتجات البترولية المكررة، على أن يدفع الصندوق السعودي للتنمية مقابل المواد البترولية لشركة أرامكو بشكل فوري ويستعيد تلك المبالغ من مصر على أقساط.
وقد تسلمت مصر أولى شحنات هذا الاتفاق في مايو الماضي، وكانت عبارة عن 700 ألف طن من المنتجات البترولية، تحتوي على 400 ألف طن سولار، و200 ألف طن بنزين، و100 ألف طن مازوت، واستمرت لمدة أربعة أشهر فقط، إلى أن توقفت فجأة وبدون سابق إنذار أكتوبر الماضي، لتجد الحكومة المصرية نفسها في مأزق.
وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية أكدت في تصريحات صحفية لها أن الشركة السعودية أبلغتهم بالتوقف عند إمدامها بالمواد البترولية لحين إشعار آخر، ولأجل غير مسمى، وهو ما اعتبرته القاهرة إبتزازا ورد فعل بسبب مواقفها الأخيرة من الملفين السوري واليمني، مادفع الحكومة المصرية إلى اللعب بما لديها من أوراق، كان في مقدمتها ازمة جزيرتي تيران وصنافير.
القاهرة تلعب بأوراقها
تمتلك القاهرة العديد من أوراق الضغط على الجانب السعودي، منها التقارب مع إيران وروسيا، كذلك التخلي عن التزاماتها بتأمين منطقة باب المندب منعا لوصول أي عتاد عسكري للحوثيين، إضافة إلى إتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين، والتي بمقتضاها تنتقل ملكية جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية.
في ظل العلاقة الجيدة بين القاهرة والرياض لم يجد الرئيس المصري وحكومته غضاضة في توقيع الإتفاقية والتنازل عن الجزيرتين لصالح الجارة السعودية، وهو ماتسبب في إنتفاضة الشارع المصري تجاه هذه الخطوة، مطالبين بإلغائها، إلا أن الحكومة المصرية مدعومة بآلتها الإعلامية الهائلة عزفوا ليل نهار على أحقية السعودية بالجزيرتين، مستعينين ببعض الخبراء وأساتذة التاريخ والجغرافيا والقانون، إلى أن تقدم بعض المحامين على رأسهم المرشح الرئاسي السابق خالد علي، بالطعن على هذه الإتفاقية أمام القضاء المصري، الذي أقر بدوره بعدم أحقية الحكومة في توقيع الإتفاقية، فضلا عن الإعتراف بمصرية الجزيرتين، وهو ماطعنت عليه الحكومة.
وبعد أيام قليلة من توقف شركة أرامكو النفطية عن إرسال الشحنات النفطية المتفق عليها لمصر للشهر الثاني على التوالي، استيقظ المصريون على قرار محكمة القضاء الإداري التابعة لمجلس الدولة المصري بتأييد الحكم السابق ببطلان الإتفاقية المبرمة مع السعودية بشأن الجزيرتين، وهو ما اعتبره البعض رد فعل طبيعي ضد القرار السعودي بوقف إمداداته النفطية للقاهرة، بينما قلل البعض الأخر من أن يكون هذا الحكم ابتزازا مصريا للسعودية بسبب تقليل دعمها في الفترة الأخيرة.
من جانبه أكد المستشار محمد حامد الجمل، نائب رئيس مجلس الدولة سابقا، أن القضاء المصري “ليس مُسيسًا، ولا يسمح للحكومة بأن تتدخل في أحكامه”، مضيفا أن الأمر لو كان كذلك لأصدرت الحكومة توجيهاتها منذ البداية لمحكمة القضاء الإداري، لإصدار الحكم بصحة الاتفاقية في يونيو الماضي، حيث كانت العلاقة بين البلدين آنذاك قوية .
الجمل أشار في تصريحات صحفية له أن هذا الحكم يشكل إحراجا إضافيا للحكومة المصرية بالأساس، إذ أنها كانت تبحث عن ثغرة قانونية لتمرير الاتفاقية إلى البرلمان، لمناقشتها وإمكانية التصديق عليها، لذلك تقدمت باستشكال (اعتراض) على الحكم الصادر في يونيو بالبطلان.
وفي نفس السياق قال أحمد مهران رئيس مركز القاهرة للدراسات السياسية إن النظام قد يواجه اتهامات بأنه هو الذي تدخل ليخرج الحكم بتلك الصورة خاصة وأن القرار جاء في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة إلى النظام المصري، وذلك قبيل أيام قليلة على دعوة المعارضة إلى التظاهر ضد النظام، بسبب الغلاء وتردي الأحوال المعيشية، ما قد يسمح لمعارضيه باستثمارها عبر اتهام الأخير بالتفريط في أراض مصرية.
ومن ثم وبعد تأييد بطلان الإتفاقية، فإن البرلمان لم يعد من إختصاصاته مناقشتها قبيل الفصل فيها أمام المحكمة الدستورية لاحقا في ديسمبر القادم، وهو ما يجعل الباب مفتوحا أمام الحكومة المصرية لتسويف استخدام هذه الورقة مستقبلا حال حدوث أي طارئ على مستقبل العلاقات بين القاهرة والرياض.
أثناء النطق بحكم بطلان إتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية
سيناريوهات التحرك السعودي
قرار الأمس ألقى بظلاله القاتمة على الموقف السعودي تجاه القاهرة، وهو مادفع البعض للمطالبة بتحرك دولي لإثبات حق المملكة في تيران وصنافير ردا على حكم القضاء المصري، خاصة وأن الإتفاقية المبرمة بين البلدين تتضمن بعض الوثائق التي تثبت سعودية الجزيرتين.
وفي المقابل هناك من طالب بوقف الدعم المادي والإتفاقيات المبرمة بين القاهرة والرياض لحين الفصل في الأمر حسبما جاء على لسان الكاتب الصحفي السعودي والمحلل جمال بنون.
المحلل السعودي كتب على صفحته على موقع التواصل الإجتماعي “فيس بوك” : اقترح على الحكومة السعودية.. وقف كل انواع الدعم المالي والتعاون التجاري مع مصر لحين الانتهاء من استعادة جزيرتي تيران وصنافير .. واضح دخلنا مرحلة الابتزاز.
لكن وبالرغم من سخونة الموقف بين القاهرة والرياض، إلا أن مزيدا من التصعيد لاسيما من قبل الرياض مسألة فيها نظر، خاصة بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، والمعروف بدعمه لنظام الأسد، وتبني السياسات الروسية في منطقة الشرق الأوسط، مايدفع الرياض إلى بقاء الباب مع القاهرة مفتوحا تحسبا لأي تطورات مفاجئة يصبح فيها مستقبل السعودية ومصالحها في المنطقة بيد القرار المصري وحلفاءه الجدد.