لعل أهم الأمور التي تلفت النظر وينبغي تناولها بشيء غير يسير من التدقيق والتحليل، هو ردود الأفعال والتقييمات التي صاحبت الإعلان الصاخب عن فوز الرجل الصاخب بدوره، الملياردير ورجل الإعلام الأمريكي المخضرم دونالد ترامب، بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، ليكون الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة.
ولو تحلينا بالاعتبارات الموضوعية لقلنا إن غالبية ما رشح من تقييمات وتقارير في تقدير الموقف، قد تجاوز الكثير من اعتبارات الحذر والموضوعية المطلوبة في لحظة دقيقة كهذه، حيث يصل وجه جديد إلى البيت الأبيض لا يعلم الكثير من الأمريكيين أنفسهم عنه شيئًا، طارحًا الكثير من الشعارات الزاعقة التي أثارت مخاوف الكثيرين، لدرجة وصلت أن البعض اعتبر – حقيقةً وعقيدةً – أن وصول ترامب للبيت الأبيض هو أحد علامات نهاية العالم ومقدمة لمرحلة الفتن والملاحم التي جاءت في بعض الأثر النبوي الشريف.
ودعَّم هؤلاء هذه الآراء بعدد من الأخبار والأمور المغلوطة في تفسيرها، مثل انهيار أسواق المال والنفط العالمية، صبيحة الإعلان عن فوز ترامب، أو أن الأمريكيين يسعون للهجرة إلى كندا بعد فوز ترامب، بينما كل هذه الأمور غير صحيحة، وتدخل في إطار الربط الخاطئ بين أحداث لا علاقة لها ببعضها البعض.
فعلى سبيل المثال فإن الموقع الرسمي الذي دشنته الحكومة الكندية للإعلان عن موسم جديد لتقديم طلبات الهجرة إلى كندا، توقف قبل الإعلان عن فوز ترامب بفترة طويلة، وحتى قبل بدء التصويت في ثُلُثَيْ الولايات الأمريكية، وقد يكون الأمر بسبب اعتبارات فنية أو إدارية تتعلق بالموقع والقائمين عليه.
أما موضوع تراجع أسواق المال العالمية بسبب “الخوف من المجهول” الذي أتى مع ترامب، فإنه ببساطة يمكن إسناده إلى انشغال المتعاملين، ضمن العالم أجمع، بمتابعة “عدادات” القنوات الدولية التي كانت تنقل حصاد كلٍّ من ترامب وغريمته الديمقراطية هيلاري كلينتون، في اللحظات الحاسمة للفرز، حيث توافقت مع مواعيد افتتاح الأسواق العالمية بسبب فوارق التوقيت.
ومما يدل على ذلك، هو الصعود الجماعي للأسواق الأمريكية في اليوم التالي لإعلان فوز ترامب، حيث كان الإعلان عن فوزه وإلقائه لخطاب النصر – خاصة بعد أن أكد فيه على أنه سيكون رئيسًا لكل الأمريكيين – في وقت متأخر من مساء الولايات المتحدة، ثم وفي المساء بالتوقيت الدولي، كان افتتاح الأسواق الأمريكية بتوقيت الساحل الشرقي الأمريكي، وبدا واضحًا الأثر الحقيقي لفوز ترامب في اللون الأخضر الذي زيَّن المؤشرات الأمريكية، وهو ما سوف يكون قائمًا صبيحة الخميس 10 نوفمبر في باقي الأسواق العالمية، وهو ما نتوقعه بكل اطمئنان.
كما روجت الكثير من الأوساط، وبعضها – للأسف – من الأوساط المحسوبة على الحركة الإسلامية بالذات، صورة مغلوطة عن ترامب وبرنامجه، باعتبار أنه قد قدُم لكي يهدم العالم على رؤوس العباد، فإنه – بحسبهم – سيدخل في حرب نووية مع روسيا والصين، وسوف يرسل جيوشه لقتل العرب، قبل أن يضغط على “الزر” النووي، ويفني العالم.
وسؤال بسيط فقط لهؤلاء هو كيف سيدخل حربًا نووية ضد روسيا – وفق هذه الافتراضات – بينما هو عبّر أكثر من مرَّة عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويتمنى دائمًا تحسين العلاقة معه وتحقيق شكل من أشكال التنسيق معه في قضايا الشرق الأوسط على وجه الخصوص؟!
هي كلها تصورات لا يصدقها عقل، وهي إما تدل على سوء تقدير بسبب ضعف المتابعة وفقدان الأدوات التحليلية، أو ردة فعل نفسية بحتة – وهو أمرٌ طبيعي ومعتبرٌ في التحليل السياسي – على صدمة فقدان إدارة ديمقراطية جديدة تستكمل ما بدأه الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما، والتي مثلت استثناءً حقيقيًّا في صيرورات علاقة الولايات المتحدة ودول التحالف الغربي الأنجلو ساكسوني مع الإخوان المسلمين والإسلام السياسي وجماعاته في الشرق الأوسط.
ويكفي هنا أن نشير إلى أن إدارة أوباما كانت تضم عناصرًا مهمة من المنتمين إلى الإخوان المسلمين والإسلام السياسي – فكريًّا على الأقل – مثل داليا مجاهد، التي تعمل مديرة تنفيذية لمعهد “جالوب” للأبحاث واستطلاعات الرأي، وكانت ضمن فريق المجلس الاستشاري للأديان المكون من ممثلين عن 25 طائفة وشخصيات علمانية، لتكون بذلك أول مسلمة تشغل منصبًا من هذا النوع في إدارة أمريكية.
داليا مجاهد كانت أحد أبرز مُعبِّرات “حسن الجوار” بين واشنطن والإخوان في إدارة أوباما
كما كان أوباما هو أول رئيس أمريكي يستقبل ممثلين عن جماعة الإخوان المسلمين – بالمعنى التنظمي الفعلي وليس السياسي الفكري – في البيت الأبيض بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وأن الشطر الآخر من التحالف الأنجلو ساكسوني على الضفة الأخرى من الأطلنطي، في لندن يستقبل بشكل منتظم ممثلين عن مكتب لندن التابع للإخوان المسلمين وممثلين رسميين عن الجماعة مثل الدكتور إبراهيم منير وأنس التكريتي مؤسس ورئيس مؤسسة “قرطبة”، والذي كان أحد ضيوف البيت الأبيض وقت أوباما.
كيف فاز ترامب؟!
في حقيقة الأمر فإن ترامب ليس غريرًا أو ضعيف الخبرة كما يصوره البعض في صورة كاريكاتورية من المؤسف أنها موجودة في أوساط من المفترض أنها تعمل لأجل إحداث ثورة جديدة في مصر، وبالتالي فمن المفترض أنها تعمل على تحكيم اعتبارات التقييم والقياس الموضوعية من دون تحيزات أو ثبت من الحدث أنها ضعيفة الخبرة والأدوات.
وهو ما سوف نفهمه لو حكينا القصة منذ البداية إلى لحظة النهاية الآنية، لكي نبني صورة مستقبلية على أسس سليمة فيما يخص موضوعنا الأصلي، وهو السياسات التي سوف يتبناها ترامب و”إدارته” – وهي إضافة مهمة للغاية ترتبط بطبيعة تغافلت عنها هذه الأقلام والتقييمات، وهي الجانب المؤسسي الحاكم للسياسات الأمريكية والقرارات التنفيذية لها – تجاه الشرق الأوسط وقضايانا العربية والإسلامية، وخصوصًا المُلحَّة منها مثل سوريا وليبيا.
كلينتون في ليبيا التي ربما كانت أحد أسباب هزيمتها الرئيسية
أولاً هذه الصورة المأخوذة عن ترامب تعود إلى مواقف صاخبه أطلقها خلال حملته الأولى لنيل ترشيح حزبه وحملته الثانية خلال سباق الرئاسة، وهذه المواقف ليست اعتباطية أو عشوائية، فهي أولاً مدروسة من زاوية علوم الإعلام والاتصال، ولا سيما في المجال الخاص بالتحكم في سلوك الجماهير وتوجيهه، وثانيًا بالتالي فهي التي أنجحت ترامب لعوامل عدة سوف نراها حالاً.
وجه الغرابة في ترامب هو أنه فقط كان مجهولاً بشكل نسبي للمتابعين في العالم العربي وخارج الولايات المتحدة بشكل عام، ولا يتشابه مع الصورة التقليدية للمرشحين للرئاسة الأمريكية، لدرجة أنه لم يحصل على تأييد قيادات في حزبه نفسه، ووصفته بعض وسائل الإعلام الأمريكية بأنه “مرشح من خارج النظام أو المؤسسة”، أي أنه لم يأتِ من الخلفيات التقليدية للساسة الأمريكيين الذين تربوا في محاضن حزبية أو أكاديمية غالبًا ما تكون هي المفرِزة أو المفرِّخة للمرشحين وأعضاء مجلسَيْ النواب والشيوخ والهيئات القضائية الأمريكية والمناصب الفيدرالية في الولايات المتحدة، بشكل عام.
ولعل غرابة هيئة الرجل وصخابة مواقفه وكونه مرشحًا مِن خارج النظام أو المؤسسة، هي ما ساعد الرجل على اختراق ساحة الرأي العام الأمريكي وتكوين شعبيته.
وهذا الأمر مقصودٌ، ولم يكن هراءً أو جنونًا كما صوره البعض، ويؤكد ذلك طبيعة ترامب، فترامب إعلامي سابق ورجل أعمال حالٍ، وينحدر من أسرة عريقة في مجال الأعمال، وعندما نقول أسرة أمريكية “عريقة” في مجال الأعمال، فهذا لا يعني الإشادة أو نظرة إيجابية، فقط يعني أن الرجل قد تربى تربية عميقة على أسس الرأسمالية وكيفية تعظيم الربح وليس الربح فقط والتقليل من الخسائر قدر المستطاع مع قدرة كبرى على “التسويق”، والانتخابات في الأساس وفق كل مناهج العلوم السياسية والاجتماعية هي عملية تسويقية بالأساس.
من المبكر جدًّا الحكم على أداء ترامب وسياساته التي لم تصدر أصلاً، بل إنه تراجع عن نصفها في تصريحاته بخطاب النصر في نيويورك
ترامب بحكم كونه إعلاميًّا سابقًا، أتقن للغاية في وسائل اختراقه لساحة رأي عام كان لا يعرفه فيها أحد، وهو ما يدل على نجاحه وليس على جنونه كما يصف البعض.
وهناك في مصر “نكتة” سياسية قديمة لكن لها دلالتها في هذا الصدد، وهي أنه إذا أردت أن تصبح سياسيًّا أو ناشطًا مشهورًا فاذهب إلى ميدان التحرير مع 20 من أصدقائك، وافتعل صخبًا، وقتها إما سوف يُقبض عليك أو يتركك الأمن تقوم بما تقوم به، وفي كلتا الحالتَيْن سوف تصبح مشهورًا، وهي – إذًا – ليست “نكتة” بقدر ما هي توظيف صحيح للعلوم السلوكية ومفاتيح التحكم العلمية في سلوك الناس، وهو ما فعله ترامب.
والمتأمل في الحملة الانتخابية لترامب، وفي صيرورات أخرى رافقت حملته المباشرة سيجد أن الرجل قد وظَّف خبرته كإعلامي ورجل أعمال، بالإضافة إلى ماله، من أجل تكريس صورة الغرابة هذه، وهو ما كان له أبلغ الأثر في تحسين مركزه الانتخابي في مقابل غريمة ليست سهلة بالمطلق.
فهيلاري كلينتون، وزيرة خارجية سابقة، وهو ما يعني إتقانها لكل فنون الإعلام والدبلوماسية، كما إنها سيناتور قديم في ولاية نيويورك، وهي المدينة الأهم ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في العالم الآن، والرمز الحضاري للألفية الثالثة، بعد الإسكندرية وبغداد وروما في الألفيات السابقة، وهي عاصمة المال والأعمال، ولم تكن كلينتون لتصل إلى هذا المستوى لو أن أدواتها وقدراتها ضعيفة.
أضف إلى ذلك، كونها زوجة رئيس سابق، بيل كلينتون، الذي كانت له شعبيته الجارفة لسماته الشخصية ولإنجازاته في المجال الاقتصادي والمعيشي، حيث حقق للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، فائضًا في الميزانية، وكانت ولايتَيْه فترة رخاء مهمة في تاريخ الأمريكيين، وهو أهم أولوية لدى الناخب الأمريكي كما هو معروف.
وبجانب حملته المباشِرة قام ترامب بأمور تشير إلى أنه ليس بالساذج إطلاقًا، أو بالجديد على عالم السياسة.
إن تراجع أسواق المال العالمية بسبب “الخوف من المجهول” الذي أتى مع ترامب، فإنه ببساطة يمكن إسناده إلى انشغال المتعاملين، ضمن العالم أجمع، بمتابعة “عدادات” القنوات الدولية التي كانت تنقل حصاد كلٍّ من ترامب وغريمته الديمقراطية هيلاري كلينتون
فهو من خلال آليات الضرب تحت الحزام، استطاع الحصول على دعم أطراف من أهم الأطراف النافذة في الولايات المتحدة، ليس هذا فحسب، وإنما وظفها ضد غريمته كذلك، وأبرز نموذج على ذلك، موقف مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي يقوده الجمهوري الهوى جيمس كوني، بفتح التحقيق من جديد في ملف رسائل البريد الإلكتروني لكلينتون، قبل الانتخابات بأيام، وموقف الكنيسة الإنجيلية.
وهي نقطة مهمة جدًّا، فالكنيسة الإنجيلية، هي رافد من روافد البروتوستانتية السائدة في الولايات المتحدة وبريطانيا، بل هي الكنيسة الرسمية في كلا البلدَيْن، ومن المعروف أن الكنيسة الإنجيلية من أهم داعمي الحزب الديمقراطي الذي يُعتبر معقلاً للكنيسة الأمريكية المحافظة.
بل إن البعض يرى أن ترامب وأمواله كانت وراء أعمال العنف الأخيرة التي ضربت بعض الولايات الأمريكية التي يكثر فيها السود، ضد الشرطة الأمريكية، فذلك – حتى لو كانت هذه الأحداث محض مصادفة – خدم خطاب ترامب المعادي للمهاجرين، والذين لم يستثنِ منهم السود أو اللاتين أو حتى المسلمين، في المقابل لم تفلح كلينتون في حسم موقفها في هذه الأوساط التي لو كانت قد صوتت لها لكانت الحين هي سيدة البيت الأبيض، ولكن هذه الفئات فضلت الصمت الانتخابي على المشاركة.
يرى مراقبون أن ترامب يقف وراء اضطرابات السود في الولايات المتحدة لتحسين موقفه الانتخابي
وهنا نقف للتأكيد على نقطة مهمة، فصخب ترامب في جزئية المهاجرين دفعت أصوات البيض المحافظين إليه لعاملَيْن: الأول هو فشل إدارة سابقه الديمقراطي، في معالجة مشكلات اقتصادية واجتماعية مهمة، مثل البطالة والأجور والضمان الاجتماعي والصحي، والثاني، أن تفاقُم هذه المشكلات كان في أوساط البيض أكثر من غيره في الأوساط الأخرى، حيث مالت إدارة الديمقراطيين إلى تطبيق برامج اجتماعية في استيعاب المهاجرين الملونين.
ويقول الناشط شهيد بولسين في ذلك على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”:
“أنا فقط أتصور أن حملته الانتخابية كانت تمثيلية، فقد قام بالأبحاث اللازمة على سوق الناخبين، وخلُص إلى أن طبقة الحمقى الشعبويين من اﻷمريكيين البيض، ستكون قاعدة تصويته اﻷقوى، ومِن ثَمَّ قام بتفصيل خطابه وسلوكه الحيواني لكسبهم”.
وفي هذا الإطار، فإن ترامب وظَّف شعارات لعبت على وتر مهم لدى الأمريكيين، وهي نغمة “استعادة المجد الأمريكي”، من خلال استعادة مكانة الولايات المتحدة الدولية التي أهدرها الديمقراطيون خلال إدارة أوباما، وبالتالي فهو يرى أن هيلاري كلينتون سوف تستكمل عملية القضاء على المجد الأمريكي.
وحملة ترامب هذه لم تقف عند حدود النقطة الدعائية، حيث تجاوز ذلك، إلى مؤشرات، مثل انهيار مكانة المُنتَج الصناعي الأمريكي، لصالح الصين ودول أخرى تنافس واشنطن على مكانتها الدولية “المتراجعة”.
كما تبدو حذاقة ترامب السياسية في خطاب النصر الذي ألقاه، والذي هدأ كثيرًا من ردود فعل أنصار كلينتون الذين تظاهروا بالفعل في بعض الولايات الأمريكية عقب الإعلان عن هزيمة مرشحتهم المفضلة، وقاد إلى تحسين أداء أسواق المال الأمريكية والعالمية بعد تراجعها صبيحة يوم النتائج، كما تقدم، عندما قال إن هناك ضرورة لمعالجة الانقسام الراهن في المجتمع الأمريكي، وأظهرته الانتخابات.
ثم نأتي للعوامل الخارجية التي أفاد منها ترامب في انتصاره، حيث وظف مختلف الأمور التي رافقها فشل لكلينتون خلال ولايتها في وزارة الخارجية أو فشل إدارة أوباما في التعامل معها، ولا سيما ملف الأزمة السورية، وانتشار هجمات تنظيم الدولة “داعش” في أوروبا وفي الولايات المتحدة ذاتها لإذكاء كراهية شرائح واسعة من الأمريكيين ضد كلينتون، والحصول على تأييدهم له.
كما قدم ترامب صفقة مهمة لبوتين، حيث عرض على الأخير علاقات طيبة مع الولايات المتحدة وتنسيق في الأزمة السورية يحافظ على بقاء حلف موسكو، الرئيس السوري بشار الأسد، مقابل أن يدعم بوتين حملة ترامب بشكل غير مباشر، من خلال عملية تشويش واسعة قادتها المخابرات الروسية للتلاعب في توجيه التصويت خلال الحملات الانتخابية، وهو اتهام صريح وجهه أوباما وحملة كلينتون لبوتين، وكان له رد فعلٍ أمريكي “إلكتروني” انتقدته موسكو بدورها.
ماذا سيفعل ترامب؟!
أول شيء يجب وضعه في الاعتبار أن ترامب – من خلال خبرة تاريخية معتبرة – لن يفعل أي شيء من مواقفه الصاخبة هذه، فهي في الغالب للاستهلاك المحلي ولتحقيق صدمة تعرِّف به في أوساط الرأي العام الأمريكي.
ومن خلال تجارب سابقة فإن الرئيس الأمريكي بعد توليه المنصب واطلاعه على دهاليز السياسة الأمريكية من سلفه وفريق الأمن القومي المحيط به، خلال عملية تسليم وتسلُّم السلطة، يختلف عن ذلك المرشح “الوديع” الذي يعد باللبن والعسل والمثالية الإنسانية، حيث تفرض حقائق السياسة ومصالح الأمن القومي الحيوية، نفسها عليه.
وأوباما نفسه خير دليل على ذلك، فهو يغادر منصبه ولم يحقق أي شيء من نقاط برنامجه الأساسية في المجال الخارجي، مثل سحب القوات الأمريكية بالكامل من العراق وأفغانستان أو إغلاق معتقل جوانتنامو أو تحقيق الازدهار في العلاقات بين الولايات المتحدة مع العالم العربي والإسلامي، حيث يغادر أوباما الحكم والعلاقات الأمريكية العربية في أسوأ صورها وسط فوضى لا مثيل لها في الشرق الأوسط مسَّت المصالح الحيوية الأمريكية.
أوباما بدأ عهده بصورة أثارت الكثير من التفاؤل بخطابه في جامعة القاهرة وخرج من البيت الأبيض وعلاقات واشنطن مدمَّرة بالكامل مع العالم العربي
أكثر المترقبين لسياسات أوباما هم الحلفاء الأوروبيون، حيث لم تخفِ فرنسا وألمانيا قلقهما من توليه الرئاسة الأمريكية – الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، قال إن فوز ترامب “يبعث على الشك في طبيعة المرحلة المقبلة” – بالإضافة بطبيعة الحال إلى الصين، خارجيًّا، والأقليات الملونة والمسلمون داخليًّا.
وهنا سوف تظهر أدوار فرق المستشارين وصُنَّاع القرار الحقيقيين في الإدارات الأمريكية، والذين يبقون ولا يرحلون، من خلال أطر مؤسسية تستمر ولو رحلت الشخوص مثل مجلس الأمن القومي ووكالات الاستخبارات ومراكز التفكير – وغالبيتها يسيطر عليها للوبي الصهيوني – بالإضافة إلى الكونجرس الذي يسيطر عليه جمهوريون مختلفون عن ترامب، ممن عارضوا ترشيحه في الأصل.
هذه الكوابح سوف تعمل على ترشيد سلوك ترامب، فلا يطلق القذائف النووية على العالم، كما تروِّج الصورة الهزلية المتداولة حاليًا، وسوف تفرض المصالح الأمريكية نفسها عليه من خلال التنوير الذي سوف يقدمه له الرئيس الماضي والمؤسسات المسؤولة عن الأمن القومي الأمريكي.
وبالتالي فإنه، وبينما من غير المتوقع – على سبيل المثال – أن يخطو خطوات أبعد في العلاقات مع المؤسسة العربية السعودية، لكنه كذلك لن يسعى إلى صدام معها، وفي الموضوع الإيراني لن يكون بمقدوره تنفيذ تعهده بمراجعة الاتفاق النووي من الأصل، كما يقول، فالاتفاق في الأصل، اتفاق دولي، ولا تملك واشنطن وحدها مراجعته.
على العكس فإن خطط ترامب لتهدئة الصراعات في الشرق الأوسط من أجل التفرغ لملف مكافحة الإرهاب سوف تجعله أقرب للمحور الروسي في المنطقة، والذي يضم طهران ودمشق، وبدأ يستقطب مصر في العلن، بعد أعوام من الانخراط السري الهادئ.
الصين بطبيعة الحال لن يمكن لترامب أن يفعل معها شيئًا، فلو صعَّد ضدها في المجال التجاري أو في أزمة بحر الصين الجنوبي بشكل يتجاوز اعتبارات الأمن القومي الصيني وهدد مصالح بكين الحيوية، فإنه يكفي الصين أن تطرح عشرة بالمائة فقط من احتياطيها النقدي من الدولار الأمريكي في الأسواق العالمية، لكي تغرق العملة الأمريكية في الوحل، كما فعل جورج بومبيدو، عام 1973م، عندما طلب تحويل كل ما لدى بلاده من دولار أمريكي، إلى ذهب، بموجب ترتيبات “بريتون وودز”، عام 1949م، فرفضت الولايات المتحدة ذلك، فانهار سعر الدولار بنسبة 1 إلى 40!
وهو ما سوف يقوله له مستشاروه وفريقه التنفيذي.
والمدهش أن الصورة الراهنة تبرز العكس، حيث تبرز كلينتون كعامل مهم لحسم أزمات الشرق الأوسط وترامب عامل تصعيد، بينما برنامج ترامب يدعو لحل سياسي للأزمة السورية، بينما كلينتون كانت تدعو لفرض مناطق حظر جوي فوق سوريا وضرب الجيش السوري النظامي، وهو ما رفضته هيئة الأركان الأمريكية نفسها في وقت سابق من سبتمبر وأكتوبر الماضيَيْن.
بينما قال وليد فارس مستشار حملة ترامب للشؤون الخارجية، بعد فوز ترامب مباشرة، إن الأخير سوف يعمل على حل الأزمة السورية و”لن يتم تقسيم سوريا”، من خلال إشراك كافة القوى السورية في المفاوضات.
وفي الملف الفلسطيني، قال فارس في أول تصريح له بعد فوز ترامب، وكان من نصيب قناة “روسيا اليوم” (!!)، إن ترامب يتطلع إلى إقرار السلام في منطقة الشرق الأوسط، وسوف يقف في منتصف الطاولة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
المهاجرون والإخوان أكبر المتضررين!
إلا أن هناك فئتَان ستكونا أكبر المتضررين بالفعل من سياسات الرئيس الأمريكي، الأولى هي فئة المهاجرين والأقليات الملونة غير المسيحية، وحتى الملونة المسيحية، مثل اللاتين.
فحتى لو لم ينفذ ترامب تصريحاته النارية بشأنهم ولم يغلق الحدود بوجههم في الجنوب وفي مطارات الولايات المتحدة، فإن السياسات التقليدية للحزب الجمهوري في المجال الاقتصادي والاجتماعي تضر بهذه الفئات من الأصل، مع تفضيل هذه السياسات لمصالح “المَجْمَع الصناعي – العسكري”، والقوى الرأسمالية والشركات الكبرى، على حساب الجانب الاجتماعي في السياسات الاقتصادية العامة.
وبالتالي فإنه بشكل “أوتوماتيكي” يترتب عليها مضار كبرى في اتجاه الدعم الاجتماعي والتأمين الصحي ومعاشات البطالة وإعانات اللجوء، التي كان الديمقراطيون أكثر اهتمامًا بها في برامجهم.
الفئة الثانية هي الإخوان المسلمون، وهنا لسنا بحاجة إلى ذكر أي شيء آخر بجانب هذا التصريح الواضح لوليد فارس، حيث قال إن ترامب سيمرر مشروع اعتبار الإخوان، جماعة إرهابية.
وأضاف فارس أن المشروع ظل معلقًا داخل الكونجرس الأمريكي لعدة أعوام بسبب عدم تصديق البيت الأبيض عليه، نظرًا لأن الرئيس الأمريكي باراك أوباما “كان يدعمهم” أي الإخوان.
وقال فارس كذلك إن ترامب يرى أن الإخوان المسلمين من أخطر الجماعات التي تغذي الفكر المتطرف، لذا، فهو يريد توجيه ضربة عسكرية للتنظيم الإخواني وليس احتوائه سياسيًّا، مثلما فعل أوباما وهيلاري كلينتون.
وهذا بطبيعة الحال سيكون له انعكاساته الكبرى على أمور أخرى في المنطقة، حيث إن فقدان الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي الساعية إلى التغيير في المنطقة للقاعدة الأمريكية الداعمة، سوف يترتب عليه تعطيل الكثير من الخطط، بل ربما وأد أية محاولات لاستعادة ثورات الربيع العربي أو إعاقة النظام الانقلابي في مصر واسترداد السلطة في ليبا.
تبرز كلينتون كعامل مهم لحسم أزمات الشرق الأوسط وترامب عامل تصعيد، بينما برنامج ترامب يدعو لحل سياسي للأزمة السورية، بينما كلينتون كانت تدعو لفرض مناطق حظر جوي فوق سوريا وضرب الجيش السوري النظامي
وفي الأخير فإنه يبقى القول إنه من المبكر جدًّا الحكم على أداء ترامب وسياساته التي لم تصدر أصلاً، بل إنه تراجع عن نصفها في تصريحاته بخطاب النصر في نيويورك، وفي تصريحات مستشاره الأثير وليد فارس.
فحتى على المستوى “الإداري المؤسسي” القريب للأمر لو صحَّ التعبير، فإن أول مؤشر على سياسات ومواقف ترامب، لن يظهر قبل أبريل أو مايو المقبل بعد أن يستكمل مشاورات المائة يوم الأولى لإدارته التي سوف تبدأ رسميًّا في الحادي والعشرين من يناير 2017م، والانتهاء من التعيينات الكبرى في أركان إدارته والمناصب الكبرى في الولايات المتحدة.
ولكن القول بأن ترامب “ضعيف الخبرة السياسية والعسكرية” ولا يملك الخلفية اللازمة لإدارة ملفات بلد بحجم الولايات المتحدة لها امتدادات ومصالح معقدة في كل أنحاء العالم، فهذا الأمر مردود عليه ولا يمكن قبوله في حق دولة مؤسسات مثل الولايات المتحدة، ولم يكن قد استطاع هزيمة غريم قوي مثل هيلاري كلينتون التي لم تخسر الانتخابات فعليًّا، حيث تفوقت عليه بمائتَيْ ألف صوت (59.796.805 صوتًا لكلينتون، مقابل 59.590.426 صوتًا لترامب)، إلا أن نظام المجمع الانتخابي فقط هو الذي حال بينها وبين أن تصبح سيدة البيت الأبيض الأولى في التاريخ!