ترجمة وتحرير نون بوست
في صباح يوم 20 كانون الثاني/ يناير 2017، سيزور الرئيس المنتخب دونالد ترامب باراك أوباما في البيت الأبيض، ليشرب معه فنجان قهوة، قبل أن يستقلا مع بعضهما سيارة ليموزين، حيث سيجلس أوباما على اليمين ويجلس خليفته على اليسار، ليسيرا في اتجاه مبنى الكابيتول، مكان انعقاد مراسم تنصيب الرئيس في الباحة الغربية وقت الظهيرة.
سيكون عمر ترامب 71 سنة إلا خمسة أشهر في ذلك الوقت. بعد نجاحه في الانتخابات سيكون أكبر رئيس أمريكي يتسلم العهدة الرئاسية الأولى، أي أكبر بسبعة أشهر من رونالد ريغن عندما أدى اليمين. استخدم ريغن الفكاهة من أجل صرف الأنظار عن كبر سنه في العام 1984، عندما قطع تعهدا طريفا وقال: “لن أستغل قلة خبرة خصومي من الشباب لأي غرض سياسي”.
ولكن ترامب يفضل اتباع إستراتيجية أخرى، حيث إنه على مدى عدة أشهر سوّق مستشاروه لنظرية مفادها أن منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، التي تبلغ من العمر 68 عاما، تعاني من مرض دماغي بقي طي الكتمان، وهي غير قادرة على صعود الدرج أو الجلوس بشكل معتدل من دون مساعدة. كما تساءل ترامب في خطاباته إن كانت هيلاري قادرة “على تحمل الأعباء البدنية والذهنية للرئاسة”.
نجح العرض الذي أداره ترامب أمام الجماهير، بكل تلك الافتراءات والصراعات التي خاضها، وحملات التشويه في التشويش على اهتمامات الناس، لدرجة أنه بات من السهل التغاضي عن المسار البيروقراطي الذي سلكه حتى وصوله للرئاسة، إذ أنه في غرة آب/ أغسطس جمع ترامب أعضاء فريقه الذي سيؤمن انتقال السلطة، وأرسلهم إلى مكتب مكون من ثلاثة عشر طابقا في شارع 1717 ببنسلفانيا، على بعد مبنى واحد من البيت الأبيض. هذا الفريق كان يقوده حاكم نيوجرسي كريس كريستي، ويتضمن عددا من السياسيين الذين يحضون بثقة ترامب، على غرار شريكه القانوني السابق ويليام بالاتوتشي. وبداية من شهر آب/ أغسطس تم الشروع في تنفيذ برنامج فيدرالي جديد مصمم لتسريع عملية انتقال لمنصب الرئاسة، وأصبح بمقدور طاقم موظفي ترامب تقديم طلبات للحصول على التصريحات الأمنية اللازمة، حتى يحصلوا لاحقا على التقارير الأمنية السرية مباشرة بعد يوم الانتخابات.
وبدأ الفريق بعد ذلك في عملية اختيار المسئولين الحكوميين، وتحضير التحركات السياسية، واللقاءات مع المسئولين الحاليين في البيت الأبيض للتخطيط لعملية تسليم ملفات وزارات الدفاع والأمن الداخلي والخارجية، ووكالات أخرى ذات أهمية.
كان مساعدو ترامب يقومون بالتحضير لما وصفه مسئول جمهوري قريب من الحملة بأنه “مشروع اليوم الأول”. حيث قال إن ترامب: “سيقضي عدة ساعات وهو يمضي على الوثائق لتجاوز فترة رئاسة أوباما”. وقد قال ستيفن مور، وهو المستشار الرسمي لترامب والعضو في مؤسسة هيرتج: “نريد أن نحدد حوالي 25 أمرا تنفيذي سيقوم ترامب بتوقيعها في يومه الأول في الرئاسة”. هذه الفكرة المستوحاة من تجربة رونالد ريغان في أسبوعه الأول في البيت الأبيض، والتي قام خلالها باتخاذ إجراءات من أجل تعديل أسعار الطاقة، تماما كما وعد أثناء حملته الانتخابية.
يعمل الفريق الانتقالي لدونالد ترامب على تحديد الأوامر التنفيذية التي أصدرها أوباما والتي يمكن إبطالها، ويقول مور: “هذه مشكلة، لا أعتقد أن اليسار فهم حقا ما معنى الأوامر التنفيذية، إذا كنت تحكم البلاد بالأوامر التنفيذية فإن الرئيس المقبل سيكون بمقدوره أن يأتي ويبطلها”.
قد تكون هذه مبالغة، حيث أن إبطال مفعول أمر رئاسي تجاوز مرحلة التشريع قد يحتاج إلى سنة أو أكثر، ولكن توقيع أوامر تنفيذية يعتبر بداية لهذا المسار، ومستشارو ترامب يقومون بتقييم عدة خيارات في ما يخص “مشروع اليوم الأول”. بإمكانه أن ينسحب من اتفاقية باريس حول الاحتباس الحراري، كما فعل جورج بوش الابن في سنة 2002، حين ألغى توقيع الولايات المتحدة الداعم للمحكمة الجنائية الدولية.
كما أنه بإمكانه إعادة إطلاق مشروع كيستون للأنابيب النفطية، وتعليق برنامج اللاجئين السوريين، وإصدار توجيهات لوزارة التجارة برفع دعاوى قضائية ضد الصين، أو بتخفيف القيود على شراء السلاح الفردي، من خلال إلغاء شرط التثبت من خلفية المشتري.
ولكن هذه مسائل ثانوية، فمهما يكن الأمر الذي سيقوم به ترامب يوم 20 كانون الثاني/ يناير فإنه سيبدأ أولا بخطوة (سماها “ساعتي الأولى في الرئاسة”) لتحقيق تعهد ركز عليه كثيرا، يتمحور حول إدخال تغيير جذري على سياسة الهجرة الأمريكية، حيث أنه أكد أمام حشد من مناصريه في مدينة فونيكس في آب/ أغسطس أن: “كل شخص دخل الولايات المتحدة بشكل غير قانوني سوف يتم ترحليه”.
بعد أكثر من سنة من مشاهدة المرشح ترامب، أصبح الأمريكيون معتادين على كل السقطات التي وقع فيها، والفضائح التي ظهرت عند فتح ملفات الماضي، كل البرامج التي فشل فيها والتصرفات الجشعة والتمييز بين المواطنين والإساءة للنساء، والتي لا تختلف كثيرا عن السقطات التي يقع فيها بشكل يومي في الحاضر، مثل الإحراج الذي يتعرض له بسبب الحقد الذي يكنه لأمه، وإخفائه لسجلاته الضريبية، وتشكيكه في مكان ولادة باراك أوباما.
ولكن وسط كل هذه المشاكل أين ذهب الحديث عن المستقبل؟ بحلول منتصف أيلول/ سبتمبر كان ترامب يخوض المرحلة الأخيرة من حملته بعد أن خفض الفارق الذي يفصله عن هيلاري كلينتون في استطلاعات الرأي إلى مستوى تسع نقاط في آب/ أغسطس، ثم الوصول إلى مرحلة التعادل تقريبا. وبذلك لم تعد إمكانية فوزه ضربا من الكوميديا السوداء أو الخيال المسلي، وبات من المنطقي طرح السؤال: “ما الذي سيقوم به فعلا عندما يصبح رئيسا؟”.
على امتداد الصيف أجريتُ حوارات مع عشرات الأشخاص حول ما تنتظره الولايات المتحدة من العهدة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، العديد من مستشاري حملته نشروا برامجه، وشركاؤه أيضا أجروا حوارات حول هذا الأمر، وقمتُ باستشارة مسئولين جمهوريين عملوا في البيت الأبيض خلال خمس فترات رئاسية سابقة، بالإضافة إلى خبراء اقتصاديين وخبراء في الحرب، ومؤرخين باحثين في القانون، وشخصيات سياسية من أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
أغلب الأشخاص الذين تحدثت معهم خارج الحملة توقعوا أن يخسر ترامب، ولكنهم أيضا توقعوا أن يكون له تأثير طويل المدى على المشهد السياسي، بسبب ما وصفوها بأنها أمثلة عديدة على الطريقة التي غير بها ترامب المعادلة السياسية بشكل تجاوز حدود حملة الانتخابات الرئاسية.
فبعد 70 سنة من الجهود الأمريكية لإيقاف انتشار الأسلحة النووية، اقترح ترامب أنه سيكون من الأفضل لكوريا الجنوبية واليابان أن يطوروا هم أيضا هذا السلاح. وإثر زيارة أخيرة إلى العاصمة سيول، قال لي سكوت ساغن، وهو أستاذ علوم سياسية في جامعة ستانفورد وخبير في ملف الأسلحة النووية، إن “هذا النوع من التصريحات يحدث تأثيرا، حيث أن عددا من القيادات السياسية وخاصة من الأحزاب المحافظة في هذين البلدين، بدؤوا يطالبون فعلا بامتلاك السلاح النووي”.
تبدو الكثير من المواقف السياسية لترامب متذبذبة، حيث أنه تبنى عدة قرارات ثم سرعان ما تخلى عنها، بل وتبنى أخرى معاكسة لها تماما، في ما يخص مثلا تسليح المدرّسين بالبنادق، وإلغاء تصريح الفيزا الخاص بقبول العمال الأجانب من ذوي المهارات، أو “فرض حظر شامل ومؤقت على دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة”. وقد قال ترامب: “كل شيء قابل للتفاوض”، وهو ما عنى بالنسبة للبعض أن سياسات ترامب سوف تتغير وتصبح عادية بعد اصطدامه بالوقائع والإكراهات والمحاذير والدستور الأمريكي، بعد وصوله للبيت الأبيض.
وقد قال لي راندل شوالر، وهو باحث سياسي في جامعة ولاية أوهايو: “أعتقد أننا في مرحلة من تاريخنا بات فيها ترامب هو الشخص المناسب لهذه الوظيفة، لا أقول أنه الأفضل على الإطلاق ولكننا نحتاج إلى شخص مختلف مثله، لأن النظام السياسي في واشنطن تعرض للتكلّس. إن الأمريكيين يمتازون بالذكاء الجماعي، وإن صوتوا لترامب فلن أقلق حيال ذلك”.
كثيرون من الشق المساند لترامب يقرّون بأنهم لا ينتظرون منه أن يوفي ببعض تعهداته التي لطالما رددها، وبحسب استطلاع للرأي أجرته جامعة كوينيبياك في حزيران/ يونيو، فإنه بعد 12 شهرا من بدأ ترامب حديثه عن بناء “جدار كبير وجميل وصلب على الحدود الجنوبية”، كان 42 بالمائة فقط من الناخبين الجمهوريين يصدقون أنه سيقوم بذلك فعلا”.
إلا أن البعض قد يفاجؤون بأن الحملات الانتخابية تقدم فعلا لمحة مسبقة عن ما ستكون عليه فترة الرئاسة. إذ أنه في سنة 1984 قام الباحث السياسي مايكل كروكونس بتدوين كل التعهدات التي أطلقها كل الرؤساء من وودرو ويلسون إلى جيمي كارتر، وتوصل إلى أنهم حققوا 73 بالمائة مما تعهدوا به.
وأخيرا قام موقع “بوليتيفاكت” المعروف بأنه محايد والمتخصص في التثبت من ادعاءات المرشحين، بتقييم أكثر من 500 تعهد قدمها باراك أوباما خلال حملتيه الانتخابيتين، وتوصل إلى نتائج لم تعجب خصومه كثيرا، حيث أنه حقق ما لا يقل عن 73 بالمائة منها.
من أجل تحويل النوايا إلى سياسات فعلية، قامت فرق الانتقال السياسي في الماضي بوضع دليل سري يعرف بتسمية “كتاب الوعود”، الذي ينطلق من التصريحات التي أدلى بها المرشح الرئاسي، من أجل تحديد الأولويات التي ينبغي على أعضاء حكومته الاهتمام بها.
وخلال حملة سنة 2008 قام فريق أوباما للانتقال السياسي بتوزيع مذكرة على كل الموظفين، تحدد كل ما يمكن اعتباره تعهدا ملزما، وقد أوضحت هذه المذكرة أن استعمال كلمات مثل “سوف”، و”سأخلق”، و”سأضمن”، و”أزيد”، و”أقضي على”، كلها مؤشرات كافية على أن المتكلم قام بقطع تعهدات بشأن سياسته المستقبلية.
عندما يتكلم ترامب حول ما سيخلقه وما سيقضي عليه، هو لا يبتعد كثيرا عن ثلاثة مبادئ جوهرية: فمن وجهة نظره تقوم الولايات المتحدة بجهد مبالغ فيه لحل مشاكل العالم؛ كما أن الاتفاقيات التجارية تدمر البلاد؛ والمهاجرون أيضا يلحقون ضررا كبيرا بها.
وهو بهذا يواصل القيام بالمناورات السياسية وتغيير خطابه من وقت لآخر، ولكنه محكوم أساسا بغريزة قوية تدفعه نحو البحث عن الحماية، ولذلك هو لا يبتعد كثيرا عن مواقفه الأصلية.
وقد قال لي روجر ستون، وهو مستشار عمل لوقت طويل مع دونالد ترامب، إنه سيكون من الخاطئ تخيل أن ترامب لا يعتزم تطبيق أفكاره الأكثر تطرفا. حيث قال ستون: “ربما في النهاية لن يسمح له القضاء بفرض حظر مؤقت على قدوم المسلمين، سيكون هذا عاديا، حيث أنه لا يمكنه أبدا منع أشخاص من مصر، أو سوريا، أو ليبيا، أو المملكة السعودية من القدوم، إلا أنه سوف يكون قد استفاد من هذه السياسات الانتهازية على طريقة رونالد ريغان”.
وقد أشار وليام أنتولس، وهو باحث سياسي يدير مركز ميلر في جامعة فرجينيا، إلى أن الرئيس ترامب ستكون على ذمته أكبر مؤسسة في العالم، تضم 2.8 مليون موظف مدني و1.5 مليون موظف عسكري، وسوف تكون أمام ترامب فرصة لتغيير تركيبة المحكمة العليا، في ظل وجود شغور واحد سيتم ملؤه بشكل فوري، وشغورات أخرى ستظهر لاحقا باعتبار أن ثلاثة من أعضاء المحكمة تجاوزت أعمارهم عتبة السبعين أوالثمانين.
أما في ما يتعلق بـ”مؤسسة ترامب” فإن الرئيس الجديد سيكون بمقدوره الاحتفاظ بالقدر الذي يريده من الملكية والسيطرة عليها، لأن الرؤساء ليسوا ملزمين باحترام قوانين تضارب المصالح التي يلزم بها المسئولون الحكوميون وموظفو البيت الأبيض.
والقرارات الرئاسية، خاصة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، قد تؤدي لتقوية أو إضعاف مشاريع عائلته، التي تتضمن عقودا مثيرة للجدل مع تركيا، وكوريا الجنوبية، وأذربيجان، وبلدان أخرى. سيواجه ترامب على الأرجح ضغوطا من أجل القيام بتسوية مشابهة لتلك التي قام بها مايكل بلومبرغ، الذي اضطر عندما أصبح عمدة مدينة نيويورك إلى الانسحاب من أغلب مواقع اتخاذ القرار في مؤسساته.
وقد قال ترامب مسبقا أنه يخطط للتخلي عن إدارة الشؤون اليومية لمؤسسة ترامب، وإيكال هذه المهمة لثلاثة من أبنائه الكبار وهم دونالد جونيور، وإيفانكا، وإيريك.
وبصفته رئيسا فإن ترامب ستكون لديه الصلاحيات لتعيين حوالي أربعة ألاف شخص، ولكنه سوف يواجه مشكلة وحيدة حيث أن أكثر من 100 من المسئولين السابقين في الحزب الجمهوري الذين عملوا في البيت الأبيض كانوا قد فضلواعدم دعمه، وهذا ما أرغم عددا من المسئولين الشبان على مواجهة خيار آخر، وهو عدم البقاء بعيدا عنه، وتفضيل الدخول إلى إدارته والسعي لتعديل سياساته بشكل ما.
وبحلول أيلول/ سبتمبر كانت حملة ترامب تقوم بفحص ملفات 400 شخص، تمت دعوة بعضهم للالتحاق بفريق الانتقال السياسي، وقد ظهرت تساؤلات وتحليلات متناقضة: حيث شبه الكثيرون ترامب بالأحمق والتافه الذي تسهل قيادته، مثل رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سلفيو بيرلسكوني، فيما رجّح آخرون أنه أكثر قربا من شخصية الدكتاتور موسيليني. وإذا كان هذا صحيحا فهل سيكون أشبه بما كان عليه موسيليني في 1933 أم في سنة 1941؟
عمل مايكل شرتوف مع إدارتي الرئيسين بوش الأب والابن، حيث وقع تكليفه بمهمة المدعي العام مع إدارة بوش الأب، ثم وزير الأمن الداخلي مع جورج بوش الابن. وقد كان شرتوف واحدا من خمسين مسئولا أمنيا في الحزب الجمهوري وقعوا مؤخرا على رسالة، تعلن أن ترامب سيكون “أكثر الرؤساء تهورا في تاريخ الولايات المتحدة”.
وقد قال لي شرتوف أنه تلقى طلبات لتقديم المشورة من مسئولين شبان في الحزب الجمهوري، عرضوا عليه أيضا الانضمام إلى ترامب بعد أن يتم انتخابه، في حركة سينظر إليها على أنها وطنية وليست سياسية. وعلق شرتوف حول هذا الأمر بالقول: “أعتقد أن كل شخص تحدثه نفسه بالانضمام إلى دونالد ترامب سيكون عليه مراجعة ضميره قبل كل شيء، والتأكد من أنه ليس بصدد السخرية من نفسه”.
سياسات ترامب لا تحددها إيديولوجية معينة، فقد غير من انتمائه الحزبي خمس مرات خلال الفترة بين 1999 و2012، وخلال وقت مبكر من حملته، عبّر ترامب عن مساندته لبعض برامج التنظيم العائلي على الرغم من أنه كان يعارض الإجهاض، وتعهد بالدفاع عن أنظمة الرعاية الاجتماعية، وساند أيضا المثليين على الرغم من أنه يعلن معارضته لزواج المثليين.
ويتحرك ترامب قبل كل شيء بناءً على إيمانه بالقوة المطلقة لعملية التغيير، انطلاقا من نوع جديد من السياسة الواقعية التي لا تؤمن بوضع المصالح جانبا للدفاع عن المبادئ، بل تؤمن بأنه لا مكان للمبادئ عند الحديث عن المصالح.
اعتمد ترامب كثيرا على أفكار قدماء المحاربين، مثل نيوت غينغريش، الذي شغل منصب رئيس مجلس النواب خلال فترة التسعينات، والذي قدم العديد من التكتيكات التي أصبحت فيما بعد صفة مميزة للصراع الحزبي، وهو الآن مستشار لدى ترامب.
وقد قال لي غينغريش أنه يدعو ترامب لإعطاء الأولوية لمسألة غامضة وحساسة تهم المحافظين، وهي إنهاء العمل بنظام الانتداب مدى الحياة للموظفين الفدراليين. حتما سيؤدي هذا إلى خلق حركية كبيرة في الحزب الجمهوري ورأب الصدع في الحزب بعد تجربة مريرة في الانتخابات التمهيدية. وقد قال غينغريش “إن الحصول على الإذن لمحاربة الموظفين الفاسدين وعديمي الكفاءة والنزاهة سيكون صراعا كبيرا”، كما يعتقد غينغريش أن نقابات الموظفين الفيدراليين ستقاوم هذا القرار، وستشن حربا مستمرة مشابهة لما حصل في مدينة ماديسون عاصمة ولاية ويسكونسن في سنة 2011. عندما قرر حاكم الولايات سكوت ولكر إدخال تعديلات للحد من قدرة موظفي القطاع العام على ممارسة الابتزاز الجماعي.
وبعد 5 أشهر من الاحتجاجات وفشل كل الجهود من أجل عزل حاكم الولاية وأعضاء الكونغرس الممثلين لها، نجح ولكر في النهاية في الفوز بهذا الصراع. ولذلك يعتقد غينغريش أن هذا النوع من الحراك الفوضوي يمكن إدخاله إلى واشنطن. كما قال: “يجب إنهاء عملية توظيف الناس في الخدمة العامة مدى الحياة، ما إن تنطلق عملية التغيير حتى تسارع نقابات موظفي القطاع العام لشن هجوم معاكس”.
ما الذي يمكن لرئيس فعله؟
من أجل منع صعود ما وصفته الصحف المعادية للفدراليين في سنة 1787 بأنه ظهور لـ “قيصر” و”كاليغولا” و”نيرو” و”دوميتيان” في أمريكا، قام الآباء المؤسسون بمنح الصلاحيات لسن القوانين، ومنح المحكمة العليا كلمة الفصل في ما يخص الدستور. ولكن خلال فترة الثلاثينات من القرن الماضي وقف الكونغرس عاجزا عن التصدي لصعود النازية في ألمانيا، وخلال الحرب الباردة ساهم خطر اندلاع حرب نووية في تعزيز صلاحيات البيت الأبيض.
ويقول إيريك بوسنر أستاذ القانون في جامعة شيكاغو إن تقنيات التوازنات السياسية في أمريكا لم تنتهي كليا، ولكنها أصبحت أكثر ضعفا مما يعتقده الكثيرون. إذ أن الكونغرس منح للرئيس قدرا كبيرا من النفوذ، وقد سعى الرؤساء إلى الحصول على المزيد من الصلاحيات من خلال الدستور، وأذعن الكونغرس لذلك.
ويضيف بوسنر: “إن المحاكم تعاني من بطء الإجراءات، وإذا كان لديك رئيس يتحرك بسرعة كبيرة فإن القضاة لن يستطيعوا مجاراته، وآخر مثال على ذلك كان الحرب على الإرهاب، حيث نجح القضاء في وضع ضوابط لتحركات جورج بوش إلا أنها استغرقت وقتا طويلا.
قد يكون تحقيق بعض تعهدات ترامب مستحيلا بدون موافقة الكونغرس والقضاء، خاصة إلغاء نظام الرعاية الصحية “أوباما كير”، وخفض الضرائب، وإلغاء قوانين عدم المعاقبة على التشهير، التي تحمي المذنبين من التتبعات، “حتى يتسنى للبعض مقاضاة هؤلاء الشهّرين وكسب الكثير من المال” (ربما في الواقع لا وجود لمثل هذه القوانين). وحتى مع سيطرة الجمهوريين على الكونغرس، فإنه من المستبعد أن يحصلوا على الستين صوتا اللازمة في مجلس الشيوخ من أجل تعطيل تحركات الديمقراطيين.
ولكن ترامب سيكون بإمكانه تحقيق العديد من أهدافه الذاتية، حيث أن الرئيس لديه صلاحيات أحادية الجانب لإعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووي مع إيران، أو فرض حظر على دخول المسلمين للبلاد، أو إصدار توجيهات لوزارة العدل بإعطاء الأولوية لبعض القضايا، من أجل استهداف أشخاص معينين. وخلال الحملة الانتخابية اتهم ترامب شركة “أمازون” بالتهرب الضريبي وتعهد بالدخول في مواجهة معها بمجرد الفوز في الانتخابات.
كل هذه القرارات يمكن الاعتراض عليها في المحكمة، وقد قام الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية بتحليل تعهدات ترامب، وتوصل خلاصة أعلنها مديره التنفيذي أنتوني روميرو، مفادها أن هذه التعهدات ستمثل خرقا للتعديل الأول، والرابع، الخامس والثامن من الدستور. كما أكد روميرو أن “الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية سيقف في وجه ترامب وسيعرقل مخططاته”، ولكن هذه الإستراتيجية توضح التفوق الكبير للرئيس، حيث أنه هو دائما من يقوم بالخطوة الأولى.
وقد جاء في وثيقة صدرت في سنة 1999 عن باحثين سياسيين، وهما تيري موو وويلام هاول، أن “بقية أفرع السلطة في أمريكا ليست ممثلة بالقدر الكافي، وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وقع جورج بوش على أمر تنفيذي يسمح بالتجسس على الأمريكيين من قبل وكالة الأمن القومي دون إذن قضائي.
وعلى الرغم من أن المشرعين عبروا عن قلقهم، وتعددت الدعاوى القضائية المعارضة، فإن هذا البرنامج تواصل إلى حدود سنة 2015 عندما أمر الكونغرس بإنهاء عمليات جمع البيانات على نطاق واسع عبر التجسس على الهواتف. وبشكل مشابه استخدم باراك أوباما صلاحياته للتشديد من معايير الاقتصاد في الوقود، وفرض منع مؤقت على التنقيب على النفط في أجزاء من ألاسكا والمحيط المتجمد. وفي العقود الماضية قوبل بعض الرؤساء في أحيان عدة ببعض التحركات المعزولة من قبل الموظفين الحكوميين الذين قرروا العصيان.
ولمحاربة الإرهاب قال ترامب: “يجب أن نأخذ عائلاتهم ونعطّل الإنترنت بشكل ما ونستخدم تكتيكات لم يفكر فيها أحد، يمكن أن تكون أكثر سوءً من التعذيب باعتماد تقنية الإيهام بالغرق”. ويتوقع الجنرال مايكل هايدن، المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية ووكالة الأمن القومي أن بعض كبار المسئولين يمكن أن يرفضوا تطبيق هذه المقترحات، لأنهم مطالبون بعدم تطبيق الأوامر المخالفة للقانون.
سيكون دونالد ترامب أول قائد أعلى للقوات المسلحة بدون أي خبرة سابقة في المناصب السياسية أو تجربة في شغل المناصب الرفيعة في الجيش. وعندما كان مرشحا في الانتخابات قال ترامب أنه لن يثق في مسئولي أجهزة المخابرات الأمريكية، واتهمهم باقتراف أشياء سيئة في حق البلاد، وقال: “أنا أعرف أشياء حول تنظيم الدولة أكثر مما يعرفه هؤلاء الجنرالات”.
وبعد أن فاز بترشيح الحزب الجمهوري للسباق الرئاسي، حصل ترامب على أول دفعة من المعلومات المصنفة على أنها سرية للغاية. حيث أنه خلال اجتماع مع المخابرات الأمريكية في مكاتبه في نيويورك رافقه الفريق المتقاعد مايكل فلين. وخلال هذا الاجتماع قام أحد كبار مستشاري ترامب بمقاطعة ضباط المخابرات في عدة مناسبات بطرح الأسئلة والتعليقات، ما دفع بكريس كريستي لمطالبته بأن يهدأ قليلا (حملة ترامب نفت هذه الواقعة). ولاحقا خلال مقابلة تلفزيونية قال ترامب إن “ضابط المخابرات الذي كان بصدد تقديم التقرير أظهر من خلال لغة الجسد أنه غير سعيد بالعمل مع أوباما”. وقد لام موظفو المخابرات دونالد ترامب لأنه قام بمناقشة تقرير سري بشكل علني، بل وقام أيضا بتسييس المسألة.
وقد قال لي عدد من موظفي الأمن القومي أنه من العوامل المحددة لأسلوب أي رئيس هي كيفية تجاوبه مع الصدمة عند حدوثها، مثل حدوث انقطاع شامل للتيار الكهربائي بسبب عمل إرهابي أو لسبب آخر.
ويتساءل جيم وولسي، مستشار ترامب الذي عمل كمدير للمخابرات المركزية بين العامين 1993 و1995: “هل سيتصرف الرئيس بشكل متهور؟ هنالك أمر واحد يمكن أن نكون متأكدين منه وهو أن أول تقرير يرد على الرئاسة دائما ما يكون خاطئا، على الأقل جزئيا. لكن عندما يقول رئيس الولايات المتحدة: “لقد وصلني للتو تقرير، إن القوات المسلحة الأمريكية تتعرض لهجوم”، فإنه من الصعب على أي شخص أن يقف في وجه هذه المعلومات.
في كتابه “فكر مثل الملياردير”، الصادر في سنة 2004، قال ترامب: “الآخرون مندهشون من سرعة اتخاذي للقرارات، ولكنني تعلمت أن أثق في حدسي ولا أبالغ في التفكير في الأمور”. ويضيف ترامب: “في اليوم الذي عرفت فيه أنه من الحكمة أن يكون الإنسان سطحيا، مثّل ذلك بالنسبة لي تجربة عميقة”. ويفتخر ترامب بأفكار الانتقام والارتياب، حيث أنه كتب في سنة 2007 قائلا: “إذا لم ترد الصاع لمن أساء لك فأنت مجرد شخص فاشل”. كما قال في سنة 2000: “يجب على كل شخص أن يكون مصابا بالارتياب”.
لسنوات عديدة أظهر ترامب اهتماما بالأسلحة النووية، ففي سنة 1984 بينما كان لا يزال في عمر الثلاثينات، قال ترامب للواشنطن بوست أنه “يريد التفاوض بشأن عقد اتفاقيات نووية مع السوفييت”. وقال: “سوف يستغرق الأمر ساعة ونصف لتعلم كل ما أحتاجه حول موضوع الصواريخ. أنا أعتقد أني أعرف أغلب تلك المعلومات على أي حال”.
وبحسب بروس جي بلير، الباحث في الأمن العالمي في جامعة برنستون، التقى ترامب بمفاوض أمريكي متخصص في الأسلحة النووية خلال حفل أقيم في العام 1990، وأسدى لهذا المفاوض بعض النصائح بشأن كيفية إبرام اتفاق رائع مع السوفييت. حيث قال له ترامب: “يجب عليك أن تأتي متأخرا، وتقف منتصبا قرب المفاوض السوفييتي الجالس، وتضع إصبعك على صدره وتقول له “تبا لك!”.
ومؤخرا قال لي أحد الموظفين الجمهوريين السابقين في البيت الأبيض من الذين استدعاهم دونالد ترامب لمساعدته: “بصراحة مشكلة ترامب أنه لا يعرف أنه لا يعرف”.
وبحسب دان زاك، مؤلف كتاب “العظيم”، وهو إصدار جديد حول الأسلحة النووية، فإنه بعد وقت قصير من تأدية اليمين وتسلم الرئاسة، سوف يحضى ترامب بملحق عسكري يرافقه، تكون مهمته حمل الحقيبة المصنوعة من الألمنيوم والمغلفة بالجلد التي تزن 45 رطلا، والتي يوجد في داخلها كتيب إرشادات إدارة الحرب النووية.
هذه الحقيبة المعروفة في البيت الأبيض بتسمية “كرة القدم”، تحتوي على قوائم بأهداف خارج البلاد: مدن وترسانات وبنى تحتية أساسية. ولإطلاق هجوم سوف يقوم ترامب أولا بتأكيد هويته للقائد العسكري الموجود في غرفة الحرب في البنتاغون، عبر تقديم الشفرة التي بحوزته والمكتوبة في بطاقة هوية من نوع خاص تعرف باسم “قطعة البسكويت”. (وبحسب زاك أيضا فإن جيمي كارتر ارتبطت به شائعات مفادها أنه أرسل “قطعة البسكويت” هذه إلى خدمة غسل الملابس دون علم منه، أما بيل كلينتون فقد أضاع “قطعة البسكويت” لعدة أشهر دون أن يخبر أحدا بذلك).
في مناسبات نادرة، كانت الأوامر النووية التي أصدرها الرئيس غير اعتيادية بشكل دفع موظفيه لرفضها. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 1969 أمر ريتشارد نيكسون وزير الدفاع “ملفين ليرد” بوضع الأسلحة النووية في حالة تأهب قصوى. وبحسب ساغان الباحث المتخصص في الأسلحة النووية في جامعة ستانفورد، فإن نيكسون كان يأمل من خلال هذا التحرك أن يشعر السوفييت بأنه مستعد لقصف شمال فيتنام. وقد أصيب وزير الدفاع ليرد بالصدمة، وحاول التملص باختلاق ذرائع من بينها أن حالة التأهب هذه سوف تحدث تضاربا مع بعض التدريبات العسكرية المبرمجة.
ويتذكر ساغان أيضا أن ليرد فهم أن ريتشارد نيكسون كان يؤمن بنظرية الرجل المجنون، التي تقوم على إظهار سلوك عدائي لدفع الأعداء للتفكير بأن نيكسون شخص مجنون ويمكن أن يفعل أي شيء. إلا أن ليرد رأى أن نظرية الرجل المجنون هذه كانت بالفعل مجنونة، والتهديد بالاستعمال السلاح النووي في مسألة مثل فيتنام لن يجدي نفعا، وعلى العكس قد يكون خطيرا جدا. ولذلك حاول تأخير تنفيذ أوامر الرئيس آملا أن يهدأ نيكسون قليلا. وقد قام نيكسون بهذه المناورة في عدة مناسبات أخرى حيث يصدر أوامر متهورة فيتجاهله موظفوه لا يعود لتذكيرهم بتلك الأوامر.
ولكن في المثال المذكور هنا لم ينسى نيكسون ما قاله، واضطر وزير الدفاع ملفين ليرد لتنفيذ التعليمات، وقد سارت هذه العملية بشكل سيء للغاية بسبب التسرع في تنفيذها، حيث أقلعت 18 طائرة من طراز بي52 نحو الاتحاد السوفييتي وهي محملة بأسلحة نووية، وقد اقتربت بعضها بشكل خطير جدا من طائرات أخرى في الجو، في عملية وصفتها التقارير لاحقا بأنها كانت غير آمنة بالمرّة.
لاحقا حاول أحد المساعدين الآخرين تعطيل سيطرة نيكسون على الأسلحة النووية، وخلال الأسابيع الأخيرة لفضيحة ووترغايت في سنة 1974، أصبح بعض مستشاري نيكسون ينظرون إليه على أنه شخص غير مستقر. وقد أصدر جيمس شليسنغر، الذي كان وزيرا للدفاع في ذلك الوقت، تعليمات لرئيس مجلس قيادات الجيش تنص على أن “كل قرار مستعجل يصدر عن الرئيس يجب تحويله إلى شليسنغر قبل الشروع في تنفيذه” وقد وردت هذه المعطيات في كتاب “بيت الحرب”، الذي يتحدث عن تاريخ البنتاغون، للكاتب جيمس كارل.
هذه التعليمات التي أصدرها وزير الدفاع قد تكون غير قانونية، ولكنها بقيت سارية المفعول. وبسبب مقاطعة الكثير من الجمهوريين لحملة ترامب، فإن أولئك الذين قبلوا بالانضمام إليه يواجهون مشكلة محتملة: وهي أن ينظر إليهم الرأي العام على أنهم مجموعة من الضعفاء والخانعين، وتشبيههم بالموظف أولي نورث (أولي نورث هو موظف سابق في البيت الأبيض أدلى بشهادته أمام الكونغرس حول دوره في فضيحة عقد صفقة سرية لبيع الأسلحة لإيران في العام 1987، وقال: “إذا أمرني القائد الأعلى للقوات المسلحة بالذهاب إلى ركن الغرفة والوقوف على رأسي فإني سأفعل لك”).
بينما كان يشاهد ترامب يخوض حملته الانتخابية، قال تيموثي نافتالي، المدير السابق لمكتبة نيكسون الرئاسية: “إن ترامب يكتب تغريدات يعبر فيها عن أشياء لم يكن نيكسون يستطيع التصريح بها خارج دائرة مقربيه، لقد كنا نعرف ما يقوله من خلال التسجيلات”.
ما كان يفعله نيكسون هو أنه كان يحلل بعض الوضعيات بناء على مؤامرات مفترضة هو من كان ليحيكها لو كان في الوضعية نفسها، كان نيكسون مقتنعا بأن الديمقراطيين يتجسسون عليه ولذلك كان هو يتجسس عليهم. برر نيكسون لنفسه هذه التصرفات بالقول: “أنا أفعل فقط ما يفعله بي أعدائي”.
وقد أدت الحملة الانتخابية إلى إظهار النقص الكبير الذي يعاني منه ترامب في ما يتعلق بالمعلومات حول الشؤون الخارجية، فحينما سئل عن “فيلق القدس”، وهي ميليشيا شبه عسكرية إيرانية، تحدث ترامب عن رأيه في الأكراد. وخلال نقاش في كانون الأول/ ديسمبر 2015 طلب المذيع رأي ترامب في الثلاثي النووي، وهو تعبير يقصد به الأعمدة الثلاثة للإستراتيجية النووية الأمريكية، متمثلة في الطائرات المقاتلة والصواريخ الأرضية والغواصات النووية. وكان واضحا من خلال الإجابة أن ترامب لا فكرة له عن ما تعنيه هذه العبارة. حيث رد ترامب بجواب فضفاض وقال: “أعتقد، بالنسبة لي، أن النووي يعني القوة، والتدمير أمر مهم بالنسبة لي”.
في شهر نيسان/ أبريل، وبطلب من حملة ترامب، قدّم ريتشارد بيرت، المسئول السابق في وزارة الخارجية في عهد رونالد ريغان، مساهمة في صياغة أول خطاب لدونالد ترامب حول السياسة الخارجية. بيرت الذي كان سفير أمريكا في ألمانيا بين عامي 1985 و1989، جذبه حديث ترامب حول المزيد من ضبط النفس والواقعية في ما يتعلق بطريقة نظر الأمريكيين إلى قوة بلادهم.
وقد قال لي بيرت: “لقد كنا قوة مطلقة في العالم، ولكن هذا تغير الآن، فنحن لم نعد في تلك الوضيعة المميزة التي نعيش فيها في عالم أحادي القطبية. كما أننا فشلنا ليس فقط في العراق بل في أماكن عديدة. ولكن في كثير من الأحيان كنا قلقين أكثر من اللازم حول مسائل مثل بناء بعض البلدان نفسها بنفسها، وتغيير الأنظمة ونشر الديمقراطية، ثم تعلمنا أن هذه الأشياء أصعب بكثير مما كنا نعتقد “.
وعلى الرغم من أن برت ساهم ببعض الأفكار فإنه لم يشارك بشكل فعلي في مساندة ترامب، وفي نيسان/ أبريل قدم ترامب خطابه حول السياسة الخارجية، إلا أن براتيك شوغول، وهو أحد المستشارين في الحملة، شعر بعدم تمكن ترامب من هذه المسألة: “يمكنك أن ترى أنه يتصنّع عندما قرأ الخطاب، كل شيء كان يوحي بأنه لم يكن مرتاحا”.
شوغول الذي غادر الحملة وأصبح محررا في صحيفة ناشيونال إنترست، قال لي: “نحن نتعامل مع مرشح يصدر أحكامه بنفسه سواء كانت صحيحة أم خاطئة، والمقاربات السياسية التقليدية لن تناسبه كثيرا”.
وعندما طُلب من ترامب في آذار/ مارس أن يسمي الشخص الذي يستشيره أكثر من غيره حول السياسة الخارجية، قال: “أنا أتحدث مع نفسي قبل كل شيء، لأني أمتلك دماغا جيدا وقد قلت الكثير من الأشياء”. وقد واجه ترامب صعوبة في اجتذاب عدد من المستشارين الجمهوريين المعروفين، ويعود ذلك في جزء منه إلى شعاره “أمريكا أولا” الذي بالغ من خلاله في النزعة الانعزالية، حتى وصل إلى حد طرح نظرة جديدة لموقع القوة الأمريكية في العالم. وقد قال ترامب في نيسان/ أبريل 2015: “أريد أن أستعيد كل شيء منحناه إلى هذا العالم”.
طريقة تصويره للبلاد على أنها البلد الناجي وسط هذا العالم الفوضوي، دفعت بدول أخرى إلى مراجعة فكرتها عن أمريكا. وقد قال دبلوماسي أوروبي في واشنطن: “الأمر أصبح يبدو كما لو أنه سيكون علينا دفع المال لاستئجار قوات أمريكية”. ودون مبالغة في تقدير هذا الأمر في ظل الحملة الانتخابية المحتدمة، قال هذا الدبلوماسي: “إن نجاح ترامب في الانتخابات التمهيدية يجب أن يفهم منه حدوث تغيرات كبيرة في مواقف أمريكا ونواياها”.
ذلك الشعور يدل على أن ترامب يخفي نوايا بشأن ضرورة تقاسم الأعباء، فقد قال: “هنالك شيء مثير للريبة، الولايات المتحدة بصدد التعرض للسرقة”. وفي بعض الحالات أحدثت لهجة ترامب مفعولا معاكسا لما كان يقصده، فقد أدلى بتصريح قوي حول الصين في آيار/ مايو قال فيه: “لا يمكننا مواصلة السماح للصين باغتصاب بلادنا”.
ولكن فهم في الصين من سياسة “أمريكا أولا” التي يتبناها ترامب أنها مؤشر على أن أمريكا منهكة ومتساهلة. وقد صدر أخيرا مقال في صحيفة غوانشا القومية الصينية جاء فيه أن ترامب قال: “أمريكا سوف تتوقف عن الحديث عن حقوق الإنسان، كما ستتوقف عن حماية دول الناتو دون مقابل”.
وقد قال لي شان دنغلي، وهو باحث بارز في الشؤون الخارجية في جامعة شودان بشانغهاي: “إن المسئولين الصينيين سيشعرون بالقلق حول ترامب لأنه شخص لا يمكن التكهن بما سيقوم به، ولكن على الأرجح سيتبين في النهاية أن ترامب ليس إلا وجه جديد يوزع التهديدات الفارغة وسيسهل فيما بعد ترويضه”. لذلك فإن الصينيين كانوا ليقلقوا أكثر حول سياسات هيلاري كلينتون لو وصلت للرئاسة، لأنها عندما كانت وزيرة للخارجية تجاهلت رغبة أوباما في التوجه نحو آسيا، وسعت للتصدي لطموحات الصين. كما يقول شان حول هذا الأمر: “يمكن التنبؤ بتصرفات هيلاري أكثر من ترامب، إلا أنها صلبة خاصة في مواضيع متعلقة بحقوق الإنسان والتوجه نحو آسيا. ولكن الصين على كل حال تكره كليهما”.
لا يتبنى ترامب بشكل رسمي المقاربة الانعزالية، ولكن لديه أفكار ثابتة، وبعضها أحدث تأثيرات خارجة عن إرادته، مثل ما حدث عندما وصف أوباما بأنه مؤسس “تنظيم الدولة الإسلامية”، وهو ما خلف حينها حالة من النشوة في صفوف حزب الله اللبناني. حيث ادعى الأمين العام للحزب حسن نصر الله، المتحالف مع بشار الأسد في سوريا ضد تنظيم الدولة، أن الولايات المتحدة تصنع مجموعات متطرفة من أجل نشر بذور الفوضى في الشرق الأوسط. وقد اعتبر نصر الله أن هذا الأمر بات في حكم المؤكد، باعتبار أن مرشحا رئاسيا أمريكيا هو من قاله. كما قال نصر الله في خطاب متلفز: “لقد تكلم ترامب نيابة عن الحزب الجمهوري، إذن هو يمتلك معلومات ووثائق”.
بعض المنظمات المسلحة الأخرى على غرار تنظيم الدولة استخدمت تصريحات وصور دونالد ترامب في مقاطع الفيديو الدعائية. ونشرت حركة الشباب الصومالية المتمركزة في شرق أفريقيا والمتحالفة مع القاعدة مقطع فيديو ترويجي في كانون الثاني/ يناير الماضي، يظهر فيه ترامب وهو يطالب بفرض حظر على دخول المسلمين للولايات المتحدة، وحذر هذا الفيديو من أن أمريكا ستصبح غدا أرض الفصل الديني و”معسكرات تجميع المعتقلين” مثل ما حصل في ألمانيا النازية.
واحدة من بين أبرز التعهدات التي قطعها ترامب في حملته الانتخابية كانت إعادة التفاوض بشأن النووي مع إيران، ويؤكد وليد فارس، مستشار ترامب للشؤون الخارجية “أن دونالد ترامب لن ينفذ الاتفاقية كما هي”. إذ أن هنالك مؤاخذات منطقية لبنود الاتفاق، ولكن رفض تنفيذه للاتفاق بكليته سوف يكون في الواقع بمثابة هدية لإيران، وهو ما يؤكده كريم سجادبور، المتخصص في الشؤون الإيرانية في معهد كارنجي لأبحاث السلام، حيث يقول: “إن القوى المتشددة في إيران تبحث عن طريقة لإجهاض هذا الاتفاق دون أن تكون هي الملامة على ذلك، لذلك فإن تصرفا مماثلا من ترامب سيكون فرصة ذهبية بالنسبة لها، حيث سيقول الإيرانيون للأمريكيين لقد تخليتم عن تعهداتكم ولذلك سنقوم بإعادة تفعيل برنامجنا النووي”.
وفي شهر تموز/ يوليو شن ترامب أغرب هجوم له في ما يتعلق السياسة الخارجية، إذ أعلن أنه في حال تعرض دول البلطيق الأعضاء في حلف الناتو إلى هجوم فإنه سوف يقرر ما إذا كان سيدافع عنها أم لا، بناء على مدى تأديتها لواجبها تجاه أمريكا”.
وقد سألت رئيس إستونيا توماس هاندريك إلفيس حول ما فهمه من هذه التصريحات، وقد رفض الرئيس الاتهامات بأن بلاده لم تقم بواجبها تجاه حلف الناتو، وقال: “إستونيا لم تجلس في مكانها منتظرة حلفائها ليأتوا ويدافعوا عنها، في الواقع ونسبة إلى حجمنا فإن بلادنا هي واحدة من أبرز المساهمين في مهام الناتو في أفغانستان”.
ودون إشارة إلى اسم ترامب حذر رئيس إستونيا من أسلوب الارتجال في معالجة ملفات السياسة الخارجية، وخاصة في ما يتعلق بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقال: “اعتداء روسيا على أوكرانيا وتأثيرات السياسات الروسية وممارساتها على البلدان المجاورة لها، كشفت عن ثغرة في السياسة الأمنية الأوروبية، تعكس انتهاء روح الثقة في منظومة ما بعد الحرب الباردة”.
بعد أن كشف ترامب عن تردده بشأن التزامات أمريكا حيال حلف الناتو، قمتُ بزيارة في مدينة أرلينغتون بولاية فرجينيا، لمؤسسة راند البحثية المعروفة بحيادها الحزبي. طورت مؤسسة راند، خلال الحرب الباردة، قدرة فائقة على محاكاة سيناريوهات الحرب ودراسة السيناريوهات كما هي في الواقع، وحاز أربع من أعضاء هذه المؤسسة ومحلليها على جائزة نوبل لجهودهم في مجال محاكاة الواقع. وقد قال دافيد شلاباك، المدير المساعد لمركز راند لألعاب المحاكاة : “إن اللعبة هي نوع من النظرة المسبقة لما سيأتي من أحداث”.
وقال شلاباك في ربيع سنة 2014 بعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم: “لقد عادت المسألة لتطفو على السطح، ما الذي يمكن لروسيا أن تفعله للناتو إذا حدثت مواجهة بين الجانبين؟ ولاختبار هذه الفرضية نظمت مؤسسة راند سلسلة من ألعاب محاكاة الحرب، برعاية البنتاغون، قد شملت عددا من المسئولين العسكريين وخبراء الإستراتيجية، من أجل دراسة ما يمكن أن يحدث إذا هاجمت روسيا أضعف ثلاثة دول في الناتو؛ وهي دول البلطيق إستونيا وليتوانيا ولاتفيا”.
وكانت المفاجأة أن عملية المحاكاة أظهرت تقدم القوات الروسية وبينت إمكانية وصولها إلى مشارف عواصم إستونيا ولاتفيا في وقت قياسي لا يتجاوز 36 ساعة. ولكن الصدمة الأكبر كانت حجم الدمار الذي سيحدث، حيث أن القوات الأمريكية التي سيتم تحريكها من ألمانيا وإيطاليا ومناطق أخرى ليست مسلحة بشكل كاف، لذلك فإن هذه المواجهة ستؤدي إلى موت عدد من الأمريكيين خلال 12 ساعة يفوق عدد ضحايا الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان مجتمعتين خلال الست عشرة سنة الماضية.
وقال شلاباك: “خلال 12 ساعة سيخسر سلاح الطيران الأمريكي طائرات أكثر من تلك التي خسرها في كل المواجهات التي دخلها منذ حرب فيتنام مجتمعة. في هذه الحالة التي نحن بصددها سيكون بإمكان الروس الدفع بحوالي 450 دبابة للقتال، فيما لن يتمكن الناتو من إرسال أي واحدة، وبذلك ستكون المعركة بين الفولاذ واللحم البشري”، وبناء على هذه المحاكاة، نصحت مؤسسة راند بأن يقوم حلف الناتو بوضع ثلاثة وحدات عسكرية مجهزة بأسلحة ثقيلة في دول البلطيق.
طرحت سؤالا على شلاباك الذي يعمل مع مؤسسة راند منذ 34 سنة، حول ما إذا كان يعتقد أن حديث ترامب عن وقف الدعم الناتو سيكون له أي تأثير بعد الحملة الانتخابية. ومع التأكيد على أن مؤسسة راند لا تتخذ أي موقف خلال الانتخابات الأمريكية، جاء جواب شلاباك كما يلي: “إن الردع مسألة نفسية بالأساس، إنها حالة ذهنية تفرضها على الخصم المفترض، وهي تقوم على معيارين أساسيين أحدهما المصداقية، بمعنى ثقة خصمك في أنه إذا ما قام بذلك التصرف الذي حذرته منه فإنك لن تتردد في تنفيذ التهديدات التي وجهتها لها سابقا”.
وبعد أن كثر الجدال بشأن إمكانية تقاعس الولايات المتحدة في الدفاع عن حلف الناتو، تبين أنه بالنسبة لغالبية الرأي العام الأمريكي فإن التزام بلادهم طويل المدى بالدفاع عن أوروبا أصبح قابلا للنقاش. ويقول شلاباك: “لقد عشنا سبعة عقود من السلام بين القوى الكبرى، وهذه أطول فترة سلام منذ اتفاقيات سلام ويستفاليا التي تلت الحروب الدينية في أوروبا خلال القرن 17”.
ويضيف شلاباك: “أظن أن أحد الأسباب التي تجعلنا نفكر في ذلك، أو لا تجعلنا ندرك قيمة هذا الأمر، هو مضي وقت طويل على آخرة مرة كنا فيها وجها لوجه مع شبح الحرب”.
وقد أدى الهجوم العنيف الذي شنه دونالد ترامب على المكسيك إلى صعود مرشح رئاسي يسميه المكسيكيون “النسخة المكسيكية من دونالد ترامب”، وهو أندرس مانويل لوباز أوبرادور، اليساري المشاكس الذي اقترح وقف التعاون الإستخباراتي بين بلاده وأمريكا. وقد أظهرت آخر استطلاعات للرأي تقدمه بشكل واضح على بقية المرشحين. ويحذر خورخي غواخاردو، الدبلوماسي السابق الذي عمل في الولايات المتحدة والصين، من أن تزايد ارتفاع منسوب العدائية من قبل طرف السياسيين الأمريكيين سوف يضعف من التزام المكسيك بمساعدة أمريكا في مكافحة الإرهاب.
ويقول غواخاردو: “منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر انتعش التنسيق الأمني بشكل كبير، وحدث في عدة مناسبات أن قامت المكسيك بإيقاف إرهابيين مطلوبين لدى الولايات المتحدة، فحين ذهب ابن معمر القذافي للعيش في المكسيك قامت السلطات بإيقافه، ولكن الناس هنا يقولون إذا انتخب الأمريكيون ترامب فإننا سوف نقول لهم اذهبوا للجحيم”.
لطالما كان ترامب أكثر ارتياحا عند التطرق لملفات السياسة الداخلية، إذ أنه على الصعيد المحلي نجح في بناء خطاب مركز، يقوم على فكرة وصفها أخيرا كما يلي: “بناء جدار حدودي جميل وقوي، وعالي وصلب، وغير قابل للاختراق، في الحدود الجنوبية”.
وإذا تناولناه من منظور جدي فهذا الكلام ليس مجرد خيال، فقد قال شرتوف الذي أشرف على بناء السياج الحدودي عندما كان على رأس وزارة الأمن الداخلي: “سيحتاج الأمر إلى وقت أطول بكثير مما أعلن عليه ترامب، ولكن في النهاية هذا الأمر ليس مستحيلا من الناحية اللوجيستية”.
إن النجاح السياسي الذي حققه ترامب أصبح مرتبطا بشكل كبير بمسألة بناء الجدار، ولذلك يعتقد مستشاروه أنه لا خيار أمامه غير الذهاب في هذه الطريق ومحاولة بنائه، وقد قال لي مستشاره غينغريش: “عليه الشروع في القيام بشيء ما في هذا الصدد وبسرعة”.
وينوي ترامب بناء جدار من الفولاذ والإسمنت المسلح، بارتفاع يتراوح بين 35 و50 قدما (لا يستطيع أي سلم الوصول إلى هذا الارتفاع)، ويكون بالعمق الكافي لمنع حفر أي أنفاق، ويمتد على مسافة آلاف الأميال، أي على امتداد نصف الشريط الحدودي( أما النصف الآخر فإن فيه موانع وحواجز طبيعية تمنع مرور المهاجرين).
قد يكلف هذا الجدار حوالي 12 مليار دولار، لكن الخبراء المستقلون يقدرون أن كلفة هذا المشروع ستصل إلى 25 مليار دولار، كما ستستغرق الأشغال أربع سنوات على الأقل.
أما بقية التفاصيل التي قدمها ترامب فهي محض وهم: مثل إجبار المكسيك على بناء الجدار، وإعلانه عن نيته مصادرة الأموال التي ترسل إلى المكسيك من قبل مهاجرين غير قانونيين، ورفع المعاليم الجمركية. ولكن العوائق القانونية والعملية التي تحول دون تطبيق هذه التعهدات التي قطعها ترامب تبدو كبيرة، والمكسيكيون تعهدوا بعدم الانصياع لهذه الإجراءات، فقد قال الرئيس السابق فيسنتي فوكس: “لن أدفع تكاليف ذلك الجدار اللعين”.
ولذلك فإن ترامب سوف يحتاج إلى موافقة الكونغرس على تخصيص الميزانية اللازمة، وإلى حد الآن لا تزال قيادات الحزب الجمهوري تعتبر أفكارا كهذه غير ذات أولوية.
ولكن رغم ذلك فإن غينغريش يقول أنه قد يستغل أجندات الاستحقاقات الانتخابية المقبلة من أجل الضغط على بعض النواب لدعم هذا المشروع. حيث قال لي غينغريش: “لا تنسى عدد النواب الديمقراطيين الذين تنتهي مدتهم النيابية في مجلس الشيوخ في العام 2018، عددهم يصل إلى 25 مرشحا، لو كنت مكانهم هل تريد فعلا أن تعود إلى ديارك بصفتك الشخص الذي منع إقامة الجدار؟ وعلى كل حال حتى لو رفضوا فإننا سننجح في بنائه بعد الاستحقاق الانتخابي المقبل، أي في سنة 2019”.
أقرب السيناريوهات للواقع هو أنه بعد مفاوضات حثيثة سيكتفي ترامب في النهاية بإضافة جزء صغير ورمزي للسياج الحدودي الذي تم بناؤه في السابق بتمويل فيدرالي. وقد تمت الموافقة على ذلك السياج من قبل مجلس الشيوخ في سنة 2006 بدعم من 26 نائب ديمقراطي من بينهم نائبة نيويورك في ذلك الوقت هيلاري كلينتون.
منذ البداية كان أكثر وعود ترامب طموحا هو أنه سوف يتخلص من 11,3 مليون مهاجر غير قانوني، عبر عمليات ترحيل واسعة النطاق وممارسة ضغوط على الناس ليغادروا من تلقاء أنفسهم، حيث قال: “يجب عليهم أن يذهبوا”. كما توقع أنه سينجح في إتمام هذه المهمة خلال سنتين، وهذا ما قد يعني زيادة عدد عمليات الإيقاف التي تقوم بها الشرطة يوميا بحوالي عشرين ضعفا، لتصل إلى حوالي 1500 اعتقال. وقد فسر ترامب فكرته عبر التعبير عن إعجابه ببرنامج ترحيل تم اعتماده في فترة حكم أيزنهاور تحت شعار “ادفعوهم نحو الجنوب ولن يعودوا أبدا”. وقال ترامب خلال مناظرة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي: “يجب النسج على منوال دوايت أيزنهاور، لا يجب أن أكون شخصا لطيفا أو ودودا معهم”.
هذه العملية التي نفذت في عهد أيزنهاور، والمسماة عملية “ويتباك”، أطلقت في حزيران/يونيو 1954، وقد قادها الجنرال المتقاعد جوزيف سوينغ، واعتمدت على طائرات مراقبة لكشف المتسللين عبر الحدود، ثم توجيه فرق من سيارات “الجيب” للتصدي لهم. وبحسب دراسة لتاريخ الهجرة غير القانونية نحو أمريكا أجراها الباحث “ماي نغاي” صدرت بعنوان “المسائل المستحيلة”، فإن هذا البرنامج أدى في الأشهر الثلاثة الأولى إلى توقيف 170 ألف شخص، وبعضهم تمت إعادتهم إلى المكسيك في سفن الشحن، وبعد اندلاع أحداث شغب في إحدى هذه الرحلات المأساوية أمر الكونغرس بفتح تحقيق انتهى إلى وصف ظروف ترحيل هؤلاء بأنها تشبه سفن جلب العبيد في القرن الثامن عشر، وبأنها رحلات مثل الجحيم تهدف لمعاقبة هؤلاء.
عمليات الترحيل عبر البر أيضا كانت مأساوية، فخلال إحدى هذه الرحلات البرية وفي حرارة بلغت 45 درجة، مات 88 فلاحا، كما تم ترحيل عدد من المواطنين الأمريكيين إلى المكسيك بالخطأ.
وأخبرتني جولي مايرز وود، التي ترأست قسم شرطة الهجرة والحدود خلال فترة بوش، بأنها فوجئت بصلابة بعض الأجزاء في مخططات ترامب بشأن المهاجرين، ولذلك حذرت جولي المنتقدين من الافتراض سلفا بأن تطبيق هذا البرنامج مستحيل: “إن السؤال ليس هل يستطيع أم لا يستطيع، بل هنالك حلول أخرى وسطية يمكن التوصل إليها لتطبيق جزء من برنامج ترامب”.
فبعد وصوله للرئاسة يمكن لترامب أن يسمح لشرطة الهجرة والحدود بالدخول إلى سجلات مصالح الضرائب التي تحتوي على عناوين المنازل، (المهاجرون غير المسجلون والذين يدفعون الضرائب، عادة ما يصرحون بعناوينهم الحقيقية حتى تصل إليهم الشيكات التي قد يحصلون عليها).
كما يمكنه تفعيل الفقرة 287 من قانون الهجرة والجنسية، من أجل تجنيد آلاف الموظفين في المدن والولايات، ورجال الشرطة، للمشاركة في عمليات الترحيل. حيث تقول جولي مايرز وود: “سيتم الأمر عبر وضع الناس في القطار، لا تعتبروا كلامي دعوة للقيام بذلك، إذ أنه يمكن أيضا اعتماد السفن لترحيلهم”.
منتدى الحركة الأمريكية، وهو مركز دراسات تابع للتيار المحافظ في واشنطن، أجرى دراسات مالية حول كيفية تنفيذ برامج ترامب، وخلص إلى أن “عمليات مداهمة المزارع والمطاعم والمصانع ومشاريع البناء سوف تتطلب أكثر من 90 ألف رجل أمن، أي أكثر بستة مرات من تعداد القوات الخاصة في الشرطة الفيدرالية. كما أن عدد الأسرّة التي سيتم توفيرها للمعتقلين من رجال ونساء وأطفال سوف يبلغ عددها 348,831، أي حوالي ثلاثة أضعاف طاقة استيعاب مراكز الإيقاف التي استخدمت لتجميع الأمريكيين من أصول يابانية خلال الحرب العالمية الثانية”.
“كما ستقوم آلاف الحافلات (طاقة استيعاب كل منها 54 راكب) والطائرات (طاقة استيعابها حوالي 135 راكبا)، بحمل المرحّلين نحو الحدود أو إلى بلدانهم الأصلية. هذا التقرير قدر الكلفة الجملية لهذا المخطط بأنها ستصل إلى 600 مليار دولار، وهو مبلغ مالي ضخم جدا.
في شهر أغسطس/آب عندما تراجعت حظوظ دونالد ترامب في استطلاعات الرأي، بدأ هذا المرشح يتحدث عن تعديل خطته حول الهجرة لتصبح أقل صرامة، إلا أن بعض مناصريه لم يرحبوا بهذا التعديل، ولذلك سارع ترامب في خطاب في 31 أغسطس/آب إلى التأكيد على أنه لا ينوي التراجع عن نواياه أو تعديلها، وتعهد بإنشاء قوة خاصة لترحيل المهاجرين، والذهاب في هذا الطريق حتى أبعد من أيزنهاور. وقال ترامب حينها: “لا يمكنك بكل بساطة أن تتسلل إلى الداخل وتختبئ في مكان ما وتنتظر أن تقوم بتسوية وضعيتك، هذه الأيام انتهت”. وقد حدد ترامب مجموعات معينة ستكون هي المستهدفة أساسا بعمليات الترحيل، يبلغ تعدادها ما لا يقل عن 5 ملايين شخص بحسب الواشنطن بوست
كما حاول ترامب إعادة صياغة مقترحه بشأن حضر دخول المسلمين، ففي تموز/ يوليو وجه خذر خان، والد الجندي المسلم الذي قتل في العراق، انتقادات حادة إلى ترامب بسبب هذا المقترح، وقد ردّ عليه ترامب بالسخرية من زوجته غزالة قائلا: “ليس لديها شيء لتقوله، ربما هي ليس مسموحا لها بالتكلم أصلا” (ولكنها لاحقا ردّت عليه بكل فصاحة).
وتحت وابل من الانتقادات اقترح ترامب عوضا عن ذلك التثبت من كل من يحملون أفكارا معادية لأمريكا وقيمها، أو الذين يعتقدون أن الشريعة أهم من القانون الأمريكي. وفي هذا السياق دعا غينغريش إلى إعادة تفعيل لجنة “مراقبة مدى وطنية الأمريكيين” التي تم تأسيسها في سنة 1938 للتحقيق في اتهامات بعدم الولاء للوطن. وقد قال ترامب: “سوف يتوجب علينا الآن اتخاذ إجراءات مماثلة، سوف نعلن الحرب على المتشددين المسلمين، وسوف نقول لهم إذا كنتم تدينون بالولاء إلى تنظيم الدولة فإنكم خونة وسوف تخسرون جنسيتكم الأمريكية”.
كما تمحورت أبرز وعود ترامب الانتخابية حول مسألة الاقتصاد، حيث أنه تعهد كرئيس للولايات المتحدة بأن يوظف خبرته في مجال الأعمال لخدمة البلاد، وقال: “سوف أحيط نفسي فقط بأكثر الناس كفاءة وجدية، وأقود الأمريكيين إلى المزيد من الازدهار الاقتصادي”.
لكن بعض مساعدي ترامب لم يساهموا كثيرا في تحسين موقفه، ولذلك اضطر ذات مرة لطرد مدير حملته الانتخابية “كوري ليفاندوفسكي” لأنه تعامل بخشونة مع مراسلة صحفية، ثم قام بطرد كبير مستشاريه “بول مانافورت”، بعد أن تلطخت سمعته بسبب اتهامات له بالتورط مع جماعات الضغط وتلقي دفعات مالية سرية من أوكرانيا.
ولمعرفة من هم الأشخاص الذين يثق بهم ترامب لتنفيذ رؤيته السياسية، اتصلتُ بستيفن ميلر، المكلف بإدارة السياسات الوطنية، والذي يقدم الخطابات الحماسية التمهيدية قبل ظهور ترامب في كل الاجتماعات الشعبية. ميلر الذي يبلغ من العمر 31 سنة يوصف بأنه شخصية سياسية صلبة لا تقبل التسويات، وربما التصقت به هذه السمعة بسبب كتاباته التي اشتهر بها أثناء دراسته الجامعية. حيث أنه أثناء دراسته في جامعة ديوك، اتهم ميلر الشاعرة والناشطة الحقوقية مايا أنجلو بجنون الارتياب العرقي، ووصف إحدى المنظمات الطلابية بأنها مجموعة قومية لاتينية متطرفة تؤمن بالتفوق العرقي.
وقد طلب مني ميلر التحدث مع عدد من مستشاري ترامب فيما يخص الاقتصاد والتجارة.
فيما يخص المشورة الاقتصادية، عينت حملة ترامب الخبير الاقتصادي ستيفن مور، الذي أسس نادي النمو الاقتصادي، وهو مجموعة ضغط تابعة للجناح المحافظ. في عمر السادسة والخمسين، يبدو ستيفن مور شخصا ودودا وتلقائيا، ومشتت الذهن شيئا ما بحسب ما يصف هو نفسه، (إذ أنه خلال الحملة الانتخابية في سنة 2000 نسي أن يدون على مفكرته دعوة تلقاها للاجتماع بجورج بوش الابن، وبذلك أضاع على نفسه فرصة الحصول على وظيفة في البيت الأبيض). وفي سنة 2012 ساعد مور المدير التنفيذي السابق لشركة البيتزا “غود فاذر”، هرمان كاين، لتطوير خطة لخفض الضرائب التي يدفعها للدولة.
وخلال سلسلة من اللقاءات قام هو وخبراء آخرين بصياغة برنامج اقتصادي لدونالد ترامب، يقوم على مبدأ زيادة رأس المال وتشجيع الإنتاج، من خلال خفض الضرائب لتشجيع الناس على العمل ورجال الأعمال على الاستثمار.
وقد ركز فريق ترامب بشكل أساسي على خفض الضرائب على الشركات. فيما قال مور: “ما أنصحه به هو أن يقوم بتنشيط الاقتصاد عبر اعتماد هذا المبدأ والشروع في تطبيقه خلال المائة يوم الأولى”. وقد جاءت ردود أفعال خبراء الاقتصاد متنوعة حيال هذا الطرح، حيث أن “بول كروغمان”، اليساري الحائز على جائزة نوبل، اعتبر أن هذه النظرية الاقتصادية القائمة على تشجيع الإنتاج وزيادة رأس المال، غير ناجعة لسبب بسيط وهو أن وتيرة خلق فرص العمل كانت أعلى تحت رئاسة بيل كلنتون وباراك أوباما، مما كانت عليه تحت رئاسة جورج بوش الابن.
النصف الآخر من نظرية ترامب الاقتصادية يظهر من خلال قوله: “نحن بصدد قتل أنفسنا عبر إبرام اتفاقيات اقتصادية ليست مفيدة لنا”. وبعد وصوله للرئاسة سوف يتمتع ترامب بالصلاحيات القانونية للانسحاب من اتفاقية الشراكة بين دول المحيط الهادي، واتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية، وسيفرض تعريفات جديدة على أنواع من السلع القادمة من الصين. أما إذا رفضت منظمة التجارة الدولية هذه الإجراءات، فإنه سوف لن يتردد في الانسحاب من هذه المنظمة أيضا، تماما كما قام بوش بالانسحاب من اتفاقية الحد من الصواريخ البالستية في سنة 2002.
إلا أن اللقاءات الصحفية التي أجرتها وسائل الإعلام مع مستشاري ترامب للتجارة، لا تترك أي شك في أن كل ما عبر عنه خلال حملته الانتخابية لا يعدو كونه تمثيلية أو خدعة، سوف تمكنه من تحقيق أهدافه دون القيام فعليا بزيادة التعريفات الجمركية.
ففي سنة 2006، واجهت مؤسسة “نيوكور”، وهي أكبر منتج للفولاذ في الولايات المتحدة، مشاكل عديدة بسبب المنافسة الصينية، فقام المدير التنفيذي لهذه الشركة “دان ديميكو”، بإصدار كتاب بعنوان “سرقة مستقبل أمريكا، دعوة مدير تنفيذي للتسلح”. وقبل سنوات عديدة من تفطن الجمهوريين إلى الانعكاس السلبي لاتفاقيات التجارة الحرة، كتب ديميكو في 2006: “إنه من العار على حكومتنا أنها ترفض أن توفر لنا أرضية مناسبة للمنافسة العادلة مع الآخرين”.
وقد استعمل ديميكو، الذي ينحدر من مدينة نيويورك، منصبه ونفوذه للظهور في وسائل الإعلام لإيصال هذه الرسالة، فسارع ترامب للاتصال به، وقال ديميكو: “لقد تحدثنا حول الصين والتجارة والغش وكل هذه المشاكل”، والآن أصبح هذا الرجل عضوا في مجلس المستشارين الاقتصاديين لدونالد ترامب وأدى زيارة في نيويورك، وهو يفتخر بأنه قدم للرئيس الجديد نصائح غير تقليدية. ويقول ديميكو: “للتعامل مع الصين يجب على الولايات المتحدة أن تتصرف مثل مريض عنيف في عيادة طبيب الأسنان، هكذا يتعامل المريض مع الطبيب، يجلس على الكرسي ويمسك بالطبيب ويقول له “إذا جعلتني أتألم سأجعلك تتألم”.
كما ضم ترامب إلى فريق مستشاريه بيتر نافارو، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، ورغم أن نافارو لا يتحدث الصينية ولا تجمعه علاقة وثيقة بالباحثين في الشأن الصيني، إلا أنه قام بإخراج عدة أشرطة وثائقية حول هذا الموضوع، من بينها “الموت على يد الصين”، وألف كتبا من بينها “الحروب القادمة مع الصين”. وقد أخبرني نافارو أثناء لقاء جمعني به في مؤتمر الحزب الجمهوري أنه يؤمن بالحاجة إلى “تعديل الميزان التجاري مع الصين وتلافي العجز”، إذا قمنا بذلك بكل بساطة سوف نطلق مجموعة من التفاعلات التي ستؤدي لتسريع النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل ورفع الأجور، وهو ما سيغرق الخزينة الحكومية بزيادات كبيرة في مداخيل الضرائب، وسوف يكون بإمكانها تحمل تكاليف تجديد البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والدفاع بعد سنوات من تجاهل هذه الاحتياجات. إذا ركزنا على العجز في الموازنة التجارية بين أمريكا والصين فإن أشياء جيدة سوف تحدث، هذه هي فلسفة ترامب.
وقد أصدرت وحدة الأبحاث الاقتصادية، وهي مؤسسة تقوم بتحاليل اقتصادية وجيوسياسية، تقريرا يصنف إمكانية فوز ترامب بالرئاسة على أنها واحدة من أكبر 10 مخاطر يواجهها الاقتصاد العالمي. وتوقع “لاري سامرز”، وهو أستاذ بجامعة هارفرد ووزير مالية سابق، بأن سياسات ترامب الاقتصادية والتجارية سوف تؤدي إلى وقوع انكماش اقتصادي بعد مرور 18 شهرا، وحتى لو تخلى ترامب عن فكرة فرض تعريفة جمركية، فإن مجرد التفكير في أنه سوف يواصل اعتماد سياساته القومية المتشددة سيكون له مفعول سلبي على الثقة في الاقتصاد العالمي، وسوف يؤدي لزيادة المخاطر المالية في الأسواق الصاعدة.
إذا تمسك ترامب بما يعتزم القيام به فيما يخص التعريفات، فإن التأثيرات ستكون أكبر. حيث يتوقع “مارك زاندي”، المستشار الاقتصادي الذي عمل مع الديمقراطيين والجمهوريين ويشغل حاليا منصب كبير الخبراء في مؤسسة “مودي” للأبحاث الاقتصادية، أن المخطط التجاري الذي وضعه ترامب قد يؤدي لحرب اقتصادية، ستؤدي لخسارة أربعة ملايين أمريكي لوظائفهم، وتكلف الاقتصاد حوالي ثلاثة ملايين وظيفة كان بالإمكان خلقها في غياب ترامب.
إلا أن ترامب على الأرجح لن يحتاج لاتخاذ هذه الإجراءات من أجل إحداث تأثير قوي على الاقتصاد، إذ أن إيمانه بقوة تأثير التهديد، وهو الأسلوب الذي اعتمده في إدارة أعماله الخاصة، سوف يأخذ أبعادا جديدة بعد وصوله لمنصب رئيس الجمهورية، خاصة فيما يتعلق بالدين الوطني. ففي أيار/مايو الماضي قال ترامب الذي لم يتردد في إعلان إفلاسه في أربع مناسبات خلال مسيرته في عالم الأعمال: “لقد قمت في السابق باقتراض المال وأنا على علم بأنه بإمكاني في المستقبل الحصول على تخفيضات ودفع أقل مما هو متخلد بذمتي، لأنه عندما تأتي الأزمات الاقتصادية يصبح الناس مستعدين لعقد تسويات مختلفة”. وهذه الفكرة التي تقوم على إمكانية إجبار الدائنين على القبول بتخفيض الأموال المستحقة لدى الحكومة أدت لاندلاع أزمة. وتحت وابل من الانتقادات أوضح ترامب خلال لقاء مع وول ستريت جورنال أن “التزامات الولايات المتحدة أمر مقدس”. إلا أنه لم ينجح في الحد من تأثيرات ذلك التصريح الصادم على الأوساط المالية.
كما أخبرني “أنثوني كايداكيس”، الخبير الاقتصادي في مؤسسة “ميلر تاباك”، أن فوز ترامب ينظر إليه على أنه تطور سوف يؤدي لتقويض الاستقرار في الأسواق المالية، وإذا ألمح ولو بشكل جزئي إلى أنه سوف يقوم بإعادة التفاوض بشأن الدين، فإن تصنيف الائتماني للولايات المتحدة سيتعرض للتخفيض، وهذا بدوره سيؤدي إلى عملية هروب جماعي للمستثمرين الأجانب.
ولأكثر من سنة، شجع ترامب مناصريه على النظر إليه على أنه شخص مرن يمكنه التفاوض بشأن أي شيء، وهذا الغموض في شخصيته هو ما قاده في النهاية لأبواب السلطة. إلا أن توقع ما ستكون عليه الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب لم يكن يحتاج للكثير من الخيال، إذ أن الرجل عبر بكل فخر عن أولوياته، وكشف مصادر إلهامه، وحتى الدوافع التي تحركه، والأحكام التي يحملها حول أولئك الذين سوف ينفذون أفكاره. ففي كتابه “ترامب فكّر مثل الملياردير”، أورد ترامب مقولة للكاتب “ريتشارد كونيف”، جاء فيها: “الشخصيات الناجحة هي تلك التي تعبر عن أفكار متفردة وتفرض رؤيتها على العالم، حتى لو كان ذلك من خلال معتقدات غير عقلانية وأهداف غير منطقية تصل أحيانا إلى حدود الجنون”.
رؤية ترامب، وحتى “إيمانه غير العقلاني بأهداف غير منطقية”، لم يكن شيئا غامضا. إذ أنه في السنوات الأولى من هذا القرن، أثبت الأمريكيون أن أكبر الأخطاء التي قمنا بها كان سببها هو فشلنا في استخدام خيالنا، مثل فشلنا في تخيل أن الإرهابيين المتواجدين في كهوف بعيدة بإمكانهم توجيه ضربات داخل الولايات المتحدة، أو تجاهلنا للتحذيرات المتكررة بشأن ما ستؤول إليه الأوضاع في حال غزو العراق.
أما ترامب الآن فهو يقدم لنا خطرا معاكسا تماما، إذ أنه فوزه لا يعني فشلا في استخدام مخيلتنا، بل سيدفعنا للولوج لعالم الخيال، علّنا نقنع أنفسنا بأن فترته الرئاسية ستجري بشكل مختلف عن حملته الانتخابية التي أوصلته للبيت الأبيض.
المصدر: نيويوركر