ما زالت الصدمة تخيم على أجواء الشارع الأمريكي عقب الإعلان عن فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية التي جرت أول أمس الثلاثاء، ليصبح الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأمريكية، في مفاجأة من العيار الثقيل وصفها البعض بـ”الكارثية”.
خسارة كلينتون وأنصارها من الديمقراطيين في هذه الجولة البائسة ليست الخسارة الوحيدة التي لحقت بالمجتمع الأمريكي، بل هناك حزمة مثقلة من الهزائم والسقوط المدوي رافقت هذه الخسارة المفجعة، كان أبرزها سقوط استطلاعات الرأي، والتي تنبأت طيلة الشهور الماضية بتقدم كلينتون بفارق ليس بالقليل على ترامب، وهو ما تكشف كذبه داخل صناديق الاقتراع مع الساعات الأولى من بدء التصويت، حيث الانتصار الكاسح للمرشح الذي وصف بـ”المجنون” و”كاره النساء” و”العنصري”، ليبقى السؤال: كيف أسقطت نتائج استطلاعات الرأي المرشحة الديمقراطية؟ ولما هذا التناقض الواضح بين ما تم نشره عبر وسائل الإعلام وشاشات الفضائيات ومراكز الأبحاث، من تقدم لصالح هيلاري في مواجهة ترامب، وبين أوراق الاقتراع داخل صناديق الانتخاب؟
ليست الأولى
سقطة جديدة في سجلات استطلاعات الرأي تقلل من شأنها وتفقدها المصداقية لدى الكثير من المتابعين والمحللين، لكنها ليست الأولى كما يتوهم البعض، فخلال السنوات الأخيرة منيت هذه الاستطلاعات بسقوط تلو الآخر، كانت البداية من داخل بريطانيا، حيث أكدت نتائج استطلاعات الرأي خسارة حزب المحافظين في الانتخابات البرلمانية البريطانية العام الماضي، وهو ما لم يحدث، حيث حقق الحزب فوزًا غير مسبوق في تاريخه.
وبعدها بوقت ليس بالكثير، تعرضت استطلاعات الرأي لهزة جديدة، ففي الاستفتاء الذي جرى بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أكدت استطلاعات الرأي حينها رفض الشعب البريطاني للخروج وتصميمه على البقاء داخل هذا التحالف، ومع ذلك خرجت نتائج الاستفتاء منافية تمامًا لتوقعات استطلاعات الرأي، حيث طالب أكثر من نصف البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
وفي سلسلة استطلاعات الرأي غير الصائبة، استفتاء الشعب الكولومبي مطلع أكتوبر الماضي، للموافقة على اتفاق السلام الذي عقدته حكومة البلاد مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية “الجيش الشعبي فارك”، حيث أكدت استطلاعات الرأي أن الشعب الكولومبي سيوافق على اتفاق السلام مع فارك، إلا أن نتيجة الاستفتاء جاءت عكس ذلك.
الاستفتاء يكذب استطلاعات الرأي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
الاستطلاعات والانحياز لـ “كلينتون”
القارئ الجيد لنتائج استطلاعات الرأي الأخيرة التي جرت عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية يجد أنها بلا استثناء انحازت بصورة واضحة للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، فبحسب نتائج الاستطلاع، الذي أجرته شبكة “NBC” التلفزيونية بالتعاون مع شركة “Survey Monkey“ المختصة في تصميم البرامج الإلكترونية لتحليل المعلومات، ونشرت نتائجه مساء الإثنين، 7 نوفمبر، تقدمت كلينتون على ترامب بفارق 6 نقاط مئوية، حيث دعم 47% من المستطلعين المرشحة الديمقراطية، في ردهم على السؤال “من المرشح الذي ستصوتون لصالحه في حال إجراء انتخابات الرئاسة 2016 اليوم؟”، بينما أيد 41% دونالد ترامب.
وبالتزامن مع ذلك، توصل الاستبيان الذي أجري من قبل شركة “Selzer” بطلب من وكالة “Bloomberg” الإخبارية الاقتصادية، ونشرت نتائجه، مساء الإثنين أيضًا، إلى استنتاج مفاده أن هيلاري كلينتون تتفوق حاليًا على منافسها الجمهوري بفارق 3 نقاط مئوية على مستوى كامل الولايات المتحدة.
وحصلت هيلاري كلينتون على أصوات 44% من المشاركين في الاستطلاع، بينما أيد 41% دونالد ترامب، وذلك في وقت قال فيه 4% إنهم سيصوتون لصالح غاري جونسون، و2% دعموا جيل ستاين، فيما امتنع 8% عن تحديد المرشح المفضل بالنسبة لهم.
وأوضحت الوكالة أن نتائج الاستطلاع الذي شمل 799 مواطنًا أمريكيًا وأجري بين 4 إلى 6 نوفمبر، تشير إلى أن كلينتون تتقدم على ترامب من حيث الشعبية، بشكل خاص بين الناخبين من أصول إفريقية ولاتينية، وكذلك الشباب.
وفي نفس السياق، أكد استبيان آخر أجري من قبل صحيفة “Washington Post” وقناة “ABC News“ أن المرشحة الديمقراطية تتقدم على دونالد ترامب على مستوى البلاد، موضحًا أن الفارق بينهما يبلغ 4 نقاط، حيث حصدت كلينتون أصوات 47% من المستطلعين، بينما حصل المرشح الجمهوري على دعم 43% من الناخبين المحتملين.
صحيفة لوس أنجلوس تايمز وجامعة كارولينا الجنوبية، هما الجهتان الوحيدتان اللتان لم تخطئا في استطلاعات الرأي داخل الولايات المتحدة
وأكد الاستطلاع أن ترامب يتقدم على كلينتون بين السكان البيض، حيث يدعمه 53% مقابل 37% يؤيدون المرشحة الديمقراطية، لكن الأخيرة تحظى بدعم الأغلبية الساحقة بين الأمريكيين من أصول إفريقية (89% مقابل 7%) والمنحدرين من أمريكا اللاتينية (71% مقابل 19%)، وشمل الاستبيان، الذي أجري من 2 إلى 5 نوفمبر، باللغتين الإنجليزية والإسبانية، 1937 ناخبًا محتملاً.
وبنظرة تحليله نجد أن صحيفة لوس أنجلوس تايمز وجامعة كارولينا الجنوبية، هما الجهتان الوحيدتان اللتان لم تخطئا في استطلاعات الرأي داخل الولايات المتحدة، حيث أجرتا 6 استطلاعات للرأي قبل شهر من موعد الانتخابات، فصحيفة لوس أنجلوس رجحت فوز ترامب في جميع استطلاعاتها، وفي آخر واحد أشارت إلى فوزه بفارق 3 نقاط على منافسته كلينتون، كذلك استطلاعات الرأي التي أجرتها جامعة كارولينا الجنوبية.
مصادر وجهات استطلاعات الرأي التي أكدت فوز كلينتون بفارق كبير على منافسها ترامب، ليست كلها أمريكية كما يتوقع البعض، حيث المحاباة للمرشحة الديمقراطية صاحبة التاريخ والخبرة السياسية، بل إن العديد من المراكز البحثية والصحف الأوروبية والآسيوية بل والإفريقية توصلت إلى نفس النتيجة تقريبًا من خلال بعض استطلاعات الرأي التي أجرتها في بلدانها.
نتائج الاستطلاعات زادت كلينتون ثقة في الفوز بالانتخابات
فقدان المصداقية
عقب الإعلان عن فوز ترامب وخسارة كلينتون، وجهت عديد من الاتهامات صوب مراكز استطلاعات الرأي، متهمة إياها بالكذب والتضليل وافتقاد الدقة والمصداقية، وهو ما أكدت عليه الدكتورة سميرة موسى أستاذ الصحافة والرأي العام بجامعة كفر الشيخ، والتي سلطت سهام نقدها صوب المنهج المستخدم في إعداد هذه الاستطلاعات من قبل المراكز ووسائل الإعلام الأمريكية المختلفة، مشيرة أنها تفتقد لأبجديات دراسات الرأي العام المتعارف عليها.
موسى أشارت إلى أن انحياز وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية للمرشحة الديمقراطية على حساب الجمهوري جاء بنتيجة عكسية، ومن ثم ترتب عليها رد فعل سلبي، فالمبالغة في تأييد كلينتون ومدحها والإطراء عليها، وأنها المرأة القوية القادرة على قيادة أمريكا، في الوقت الذي يكال لمنافسها الفضائح والاتهامات فضلاً عن حملات التشويه والسخرية الممنهجة ضده، تسببت في تعاطف نسبة كبيرة من الأمريكان معه، ما كان له أثر قوي في دفعهم للتصويت له كونه الطرف الأضعف في المعادلة، وهو ما تجلى في نتائج التصويت، والتي جاءت على عكس المتوقع.
أما السيد الربوة، المحلل السياسي والكاتب الصحفي فكان له رأي آخر، حيث أكد أن خسارة هيلاري لا تعني بالضرورة كذب استطلاعات الرأي، مشيرًا أن قياسات الرأي العام وظيفتها نقل نبض العينة (الشارع) تجاه ظاهرة أو حدث أو شخص بعينه، لكن ليس بالضرورة أن يتحول هذا النبض إلى سلوك فعلي وتحرك عملي مثل اللجوء إلى صناديق الاقتراع للتعبير عما يجيش بداخلي من اتجاهات.
الربوة لـ”نون بوست” اتفق مع موسى فيما يتعلق برد الفعل العكسي جرًاء المبالغة في تأييد كلينتون، إلا أنه أشار أن هذه المبالغة أصابت المؤيدين للمرشحة الديمقراطية بالكسل، وأفقدتهم الحماس وروح التحدي، حيث جاءت معظم الاستطلاعات لتؤكد على حجم الفارق الكبير بين هيلاري وترامب، مما دفع الكثيرين إلى التيقن من فوز مرشحتهم صاحبة التأييد الواسع، وأن المسألة ليست سوى ساعات قليلة وتصبح المرشحة الديمقراطية هي سيدة العالم الأولى، وهو ما تسبب في عدم مشاركة الكثيرين من أنصار هيلاري في العملية الانتخابية، إيمانًا منهم بأن العملية قد حسمت بالفعل.
خسارة هيلاري لا تعني بالضرورة كذب استطلاعات الرأي، فقياسات الرأي العام وظيفتها نقل نبض العينة (الشارع) تجاه ظاهرة أو حدث أو شخص بعينه، لكن ليس بالضرورة أن يتحول هذا النبض إلى سلوك فعلي وتحرك عملي
وفي المقابل عزف ترامب على فكرة المجد لأمريكا، في محاولة لاستقطاب البيض من الأمريكان، وهم النسبة العظمى التي تهتم بصورة أكبر من غيرهم بمستقبل بلادهم، والعمل على تعزيز فرص الارتقاء بمستواهم المعيشي، وهو ما كان له أبلغ الأثر في تحفيز وحيوية وحماسة هذه الشريحة للنزول والمشاركة في هذا الماراثون، لذا جاءت النتائج كما خرجت للجميع، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن التغيرات التي طرأت على عقل الناخب الأمريكي.
تقدم هيلاري على ترامب في آخر استطلاعات الرأي حسب رويترز وإبسوس
الناخب الأمريكي 2016
المراقبون لسير الحملات الدعائية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أكدوا أن أبرز أسباب سقوط هيلاري ونجاح ترامب، هو قدرة الأخير على فهم طبيعة المواطن الأمريكي الجديدة في 2016، ونجاحه في فك طلاسم المشهد السياسي والإعلامي والاقتصادي للعقلية الأمريكية المحدثة، والتي طرأ عليها كثير من عوامل التغيير بسبب التطورات التي يشهدها العالم في الآونة الأخيرة.
عزف ترامب على وتر كشف الحقائق بوضوح أمام المواطن الأمريكي سواء بالداخل أو الخارج، في الوقت الذي تيقن فيه – بحسه الاقتصادي – أن الناخب الأمريكي يروق له حديث المصالح والمنافع والخدمات أكثر من الشعارات التي يرفعها المرشحون هنا وهناك، لذا جاءت معظم وعوده للمواطنين بزيادة دخولهم وتقليل الضرائب، والبحث عن منافذ ثروات جديدة، تنعكس بصورة جيدة على المواطن الأمريكي، وترفع من مستواه المعيشي، كما عزف أيضًا على عنصر الأمن، متعهدًا بمكافحة الإرهاب وغلق كافة أبوابه في الداخل والخارج، ما كان له أبلغ الأثر على عقلية الناخب مقارنة بما كانت تعتمد عليه هيلاري من شعارات أخلاقية وسياسات خارجية وأهداف بعيدة المدى لا يجني المواطن الأمريكي حصادها في الوقت القريب.
السوشيال ميديا.. كلمة السر
في الوقت الذي كانت تركز فيه حملة المرشحة الديمقراطية على المؤتمرات والندوات واللقاءات الجماهيرية، مستعينة بجيش جرار من وسائل الإعلام هنا وهناك، كان لأنصار المرشح الجمهوري رأي آخر، حيث سعوا إلى مخاطبة الجمهور مباشرة دون وسيط، وذلك عبر توظيف مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الإلكترونية المختلفة، التي تسمح بالنقاش والحوار المباشر بين المواطنين وأعضاء الحملة للإجابة عما يدور برأس الناخبين من تساؤلات واستفسارات.
وبحسب دراسة صادرة عن شركة EzyInsights الهولندية المتخصصة في دراسة المحتوى، قبيل موعد الانتخابات الرئاسية، كشفت أن انتشار ترامب وحملته، وحضوره الفعال على مواقع السوشيال ميديا يؤهلانه لأن يكون الرئيس القادم، مقارنة بما كانت عليه منافسته هيلاري كلينتون.
الدراسة أشارت إلى نجاح فريق دونالد ترامب في توظيف التطبيقات الموجودة على مواقع التواصل الاجتماعي في خدمة أهدافه الانتخابية، وفي مقدمتها البث المباشر على الفيسبوك والذي حقق نسب مشاهدة عالية جدًا، لما فيها من تفاعل قوي بينه وبين الناخبين، إضافة إلى آلاف التغريدات التي بثها عبر تويتر والتي كان لها أثر كبير في إقناع المواطنين بأفكاره ومعتقداته.
وفي المجمل فإن نتائج استطلاعات الرأي ليست وحدها من أسقطت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، لكنها لعبت دورًا كبيرًا في إيهام الكثيرين من أنصارها بفوز مزيف، ومن ثم تراجع منسوب الحماس لدى البعض في ترجمة التأييد بالاتجاه إلى التأييد بالصوت الفعلي داخل صناديق الاقتراع، وفي المقابل، فإن العزف على وتر التقرب من المواطنين بصورة مباشرة، وفهم عقلية الناخب ومكنونه الشخصي الداخلي، والتعهد بتلبية طموحاته بالشعارات القريبة منه، مستفيدًا من السياق العام لمجريات الأحداث في الداخل والخارج، أثبت بما لا يدع مجالاً للشك قدرته على حسم الأمور في الوقت المناسب، وهو ما يجعل قضية إعادة تقييم استطلاعات الرأي والاعتماد عليها، محل نقاش خلال المرحلة المقبلة.