ترجمة وتحرير نون بوست
ركز الصحفي أوسكار ريكت في عمله على إثنين من الأفلام الوثائقية التي يتمحور كلاهما حول شخصية الرئيس المنتخب دونالد ترامب. وقد أصيب ريكيت بحالة من الذهول جراء ما شاهده خلال تلك الفترة. ومن الواضح أن نفس هذه الحالة، ستجتاح البيت الأبيض قريبا.
لقد تابعت إثنين من الأفلام الوثائقية، للقناة الرابعة، حول دونالد ترامب خلال هذه السنة. وخلال إنجازي لهذا العمل، مررت بلحظات كان فيها هذا الدكتاتور البرتقالي اللون يطاردني ليس فقط في النهار بل حتى أثناء النوم، وكانت كلماته مرعبة مثل “سوف نبني جدارا عظيما في الحدود”، وحركاته المخيفة، مثل إشارته إلى بعض الأشخاص بإصبعي السبابة والبنصر مكونا شكل دائرة؛ مشهدا لا يفارق مخيلتي.
أنا متأكد من أنني لست الشخص الوحيد الذي تطارده هذه الأفكار، فالعالم الآن أصبح بين يديه، هذا المخلوق الذي كان يفترض أن يكتفي بمطاردة الناس في أحلامهم مثل الشبح، سوف يبدأ قريبا في التجول بين غرف وأروقة البيت الأبيض.
خلال الفيلم الأخير، “الرئيس ترامب: هل بإمكانه فعلا الفوز؟”، زار مراسلنا مات فراي مدينة مينغو المنسية والمهمشة في ولاية أوهايو. وشاهدنا كيف أن الفولاذ الذي يصنع في الصين يأتي عبر السكك الحديدة إلى هذه المدينة، التي كانت إلى حدود سنة 2009 تفتخر بمصنعها الضخم لإنتاج الفولاذ.
ولهذا فإن السكان المحليين الذين لم يسبق لهم التصويت في حياتهم، قالوا إنهم سيشاركون هذه المرة في الانتخابات لأجل ترامب، لأنه لن يسمح لأمريكا بأن تتعرض لهذه المنافسة الشرسة في المستقبل، ولأنه سيعيد فتح مصنع الفولاذ في مينغو.
التلاعب بالقوانين
على امتداد الولايات المعروفة باسم “الحزام الصدئ”، تبخرت مواطن الشغل وانتقلت إلى بلدان أخرى، ولم يتم تعويضها بأي شكل من الأشكال. كما أن الناس الذين كانوا في الماضي يكسبون المال الوفير من خلال العمل في المصانع، أصبحوا الآن، يعيشون في ظروف سيئة. وفي كل الاجتماعات الانتخابية التي نظمها، تحدث ترامب عن سلبيات اتفاقيات التجارة الحرة التي أضرت بالعامل الأمريكي.
أحد أبرز مقاطع الفيديو التي تعود إلى تلك الفترة، ظهر فيها مدير شركة كارير التي تصنع أجهزة التكييف، وهو يقول أمام تجمع كبير لعمال المصنع في إنديانا إن “مصنعهم سوف يغلق أبوابه وينقل نشاطه إلى المكسيك”.
لقد خيّبت الرأسمالية الليبرالية الجديدة، أمل العديد من الأشخاص، ولكن في الوقت الذي أصرت فيه هيلاري كلينتون على مواصلة الدفاع على هذه المنظومة، فإن دونالد ترامب عرف من أين تُأكل الكتف. فهذا الرجل الذي صنع ثروته من استغلال العمالة الرخيصة والتهرب الضرائبي عبر الاستفادة من الثغرات القانونية، نجح في تحويل ماضيه من ماض مخجل يشوه صورته إلى مصدر فخر يجعل الناس يثقون به. وكان غالبا ما يردد أمامهم “أنا أعرف كيف أتحايل على النظام القائم، حتى أبطل آثاره السلبية”.
وفي واحدة من أكثر اللحظات سخرية في اجتماعاته الانتخابية، قال ترامب للحاضرين، “أنا أمثل صوتكم”. في هذه الأرض التي لا يشعر فيها أصحاب المليارات بالخجل من تصرفاتهم، لا يزال الحلم الأمريكي يفرض سلطته، ولذلك فإن وحشا رأسماليا مثل ترامب يقول للأمة إنه بإمكانه أن يكون متوحشا، وأنهم بإمكانهم أن يعلقوا عليه آمالهم ويقبلوا بسلطته ويؤمنوا بأنه سيحقق انجازات لصالحهم.
هزيمة أولئك الأقل قوة
ولكن أولئك الأمريكيين الذين خذلتهم العولمة لم يكونوا بمفردهم ليوصلوا ترامب للبيت الأبيض، إذ أن نظرة عملاق العقارات إلى الطبقة العاملة في بلاده كانت مرتبطة بهوية العرق الأبيض، وقد لعبت حملته الانتخابية على المخاوف الثقافية والاقتصادية، على الرغم من أن كلا العنصرين غالبا ما يكونان متداخلان.
كما أن حضور ترامب وهيلاري كلينتون في المرحلة الأخيرة من السباق الانتخابي يخبرنا عن تآكل الديمقراطية الأمريكية، بسبب الثراء الفاحش.
أصبح السود، المسلمون، واللاتينيون، وبقية العرقيات غير البيضاء من الأمريكيين، في عرضة للتهميش أو الهجمات المباشرة. كما تم تجاهل مخاوفهم ومشاغلهم ومحو هويتهم المميزة لهم، إذ أن نظرة ترامب للعالم تعكس عقيدة الزعيم السابق لمنظمة “كو كلوكس كلان” العنصرية. ويظهر ذلك من خلال الشعار الذي تبناه ترامب “أمريكا أولا”، والذي يصفه البعض بأنه يقصد منه إثارة النعرات العنصرية لدى البيض.
في هذه الإمبراطورية التي يخشى فيها الناس فقدان القوة، تمكن الزعيم الدكتاتور من تحقيق الصعود من خلال رسالة بسيطة، قال فيها “سوف نفوز مجددا، سوف نصبح سعداء مرة أخرى”. هذا الانتصار يستوجب إلى حد ما؛ إلحاق الهزيمة بأولئك الذين هم أقل قوة في الدولة الأمريكية. وتتمثل هذه الفئة “الأقل قوة” أساسا في الأقليات العرقية والمهاجرين واللاجئين، وكل من هو غير مستعد لقرع طبول الفكر القومي المتشدد.
ولو أن ترامب واجه في هذه الانتخابات مرشحا أفضل لما كانت البلاد الآن في هذا المأزق. ولكن وجود ترامب وهيلاري كلينتون في المرحلة النهائية من السباق الرئاسي يخبرنا بالكثير عن مدى تعرض الديمقراطية الأمريكية للتآكل بسبب الثراء الفاحش.
وعموما، فإن ترامب يمثل الوهم الكبير والكاذب للديمقراطية، فهو المرشح الذي اقتحم مجال السياسة مستفيدا من شهرته والمال الذي ورثه، وبدأ بإطلاق الشعارات مرتبطة أساسا بأهداف المواطنين البسطاء. لكن في واقع الأمر، يعاني هذا المرشح من اختلالات نفسية وينتابه جنون العظمة.
الروبوت في مواجهة المتمرد
رغم كل الجدية التي أظهرتها، والخبرة التي تتمتع بها، ورغم أن انتصارها كان ليعتبر ذو دلالة هامة للنساء في كافة أنحاء العالم، فإن هيلاري كلينتون أظهرت مرة أخرى أنها ليست سياسية بارعة ولا تحسن خوض الحملات الانتخابية، وأنها تفتد للروح وتشبه الروبوت في أدائها. ولذلك فهي غير قادرة على إيصال رسالتها وملامسة هموم الناخبين، إذ أنها متورطة أكثر من اللازم في المنظومة السياسية والمالية التقليدية، ولذلك تقلص الدعم الجماهيري لها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن خسارتها لكثير من الأصوات في صفوف النساء البيض المثقفات هو أمر صادم بالتأكيد، رغم أنه يخبرنا أيضا بالكثير حول نوع خاص جدا من التمييز ضد المرأة، الذي لا يزال متواجدا في باطن الشعب الأمريكي رغم كل شيء.
كما أن بيرني ساندرز، السياسي الحقيقي والذي يملك أفكارا واقعية ورغبة في خدمة المصلحة العامة، كان قد كشف مرات عديدة خلال الانتخابات التمهيدية، عن نقاط ضعف هيلاري. أما ترامب الذي كان بعيدا هو أيضا عن أن يكون سياسيا حقيقا، فإنه رغم بعده الكبير عن خدمة المصلحة العامة؛ فقد نجح في استغلال عيوب كلينتون.
وقد أخبرتنا كيلين كونواي مديرة حملة ترامب، بأن “مرشحها كان بارعا جدا في لعب دور المتمرد الدخيل عن عالم السياسة، الذي جاء لتدمير المؤسسات التقليدية في واشنطن ووال ستريت”.
وقالت لنا أيضا إن “حملة ترامب لديها مشروع غير معلن، يسمى “ناخب ترامب المتخفي”، والذي يستهدف الناخبين الذين سوف يصوتون له في يوم الاقتراع ولكنهم لا يصرحون بذلك في استطلاعات الرأي طوال الفترة السابقة”. والآن يبدو أن كلامها لم يكن مجرد مناورة.
وعلى الصعيد الخارجي ستكون كيفية تعامل ترامب مع روسيا أمرا مصيريا، إذ أن الديمقراطيين كانوا مخطئين حين ركزوا على نظرية المؤامرة، وحاولوا ربط مرشح الحزب الجمهوري بالرئيس الروسي بأي شكل من الأشكال. في حين كان ترامب يؤكد أنه يرى في فلاديمير بوتين أملا في إرساء علاقات جيدة بروح إيجابية.
ومن جهته، فإن بوتين يرى على الأرجح في ترامب، مجرد أمريكي غبي ومجنون، يمكن التلاعب به كما يشاء. وفي الوقت الذي تتكثف فيه التوقعات بتزايد التوتر في الدول المجاورة لروسيا، وبالإضافة إلى إصرار ترامب على أن تغير المناخ هو مجرد كذبة لخداع الناس؛ فإن فكرة اقتراب هذا العالم من الدمار الشامل أصبحت الآن أكثر وضوحا، ويمكننا تخيلها بكل سهولة.
وفي شهر تموز/ يوليو من هذه السنة، تحدثت مع موظف سابق لدى ترامب أكد لي أن دونالد لم يكن ينوي أن يكون هو مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات، إذ أنه دخل هذا السباق منذ البداية بهدف الحصول على الشهرة، إلا أن الأمور سرعان ما تطورت بشكل غير متوقع، ليجد نفسه في المرحلة النهائية من السباق.
وفي الختام؛ إذا كانت هذه التصريحات صحيحة، فإن هذه المخاطرة البهلوانية التي قام بها ترامب قد تطورت بشكل جيد لدرجة أنها باتت مخيفة. ورغم أن ترامب لن ينفذ الكثير من وعوده المتطرفة التي أطلقها في الحملة، إلا أن نبرته قد تكون كافية لمزيد تأزّم الأوضاع في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعاني الآن من الانقسام الذي لطالما عانت منه في الماضي لوقت طويل.
المصدر: صحيفة ميدل إيست أي