“كان نفسي أنزل !!” جملة غير مفهومة باغتني بها عم سعيد صاحب الستين عاما، والذي يعمل بأحد مقاهي منطقة صفط اللبن الشعبية بمحافظة الجيزة، ردا على سؤالي له عن رأيه فيما حدث خلال اليوم الجمعة، بعد دعوات النزول للشوارع فيما عرف إعلاميا وشعبيا باسم “ثورة الغلابة”، وبدت معها الشوارع فارغة، اللهم إلا بعض جنود الأمن والقوات المسلحة التي ملأت الميادين والشوارع الرئيسية استعدادا لأي طارئ.
غياب التوجيه
“..أنا بصراحة مستبيع، ومعنديش استعداد أكمل باقي حياتي بشحت.. ضهري خلاص بقى للحيط.. ومفيش مفر.. زهقنا ومش لاقيين ناكل .. إيه يعني لو نزلت ومت.. بس أنزل مع مين ” أكمل عم سعيد.
السؤال الأهم الآن، كيف وصل الحال بعم سعيد وغيره الآلاف ممن هم بعيدون عن السياسة، أو لنقل بعيدون عن المعارضة إلى هذا الحد؟ وكم منهم نزل إلى ميدان التحرير في أقصى أيام شهر رمضان حرارة ليفوض السيسي، وأغمس سبابته في الحبر الفوسفوري أكثر من مرة لتأييد الرجل ودستوره ومجلس شعبه على أنغام “تسلم الأيادي” كم شخصًا منهم تحول إلى عم سعيد خلال الفترة الأخيرة؟ ولماذا لم تحسن الثورة استغلالهم؟
ماذا حدث اليوم؟
ما حدث اليوم أو بمعنى أكثر دقة مالم يحدث اليوم يوضح بما لا يدع مجالا للشك أن كل اللاعبين الحاليين في المشهد المصري يريدون التغيير كل بطريقته، فهاهو النظام يسعى لتحسين صورته التي تطارده بتاريخه القمعي وفشله السياسي والاقتصادي، ويسعى لأي تغيير ربما يكون محدودا، يحسن به صورته، أمام العالم بعد أن استنفد كل سبل الدعاية الإعلامية الزائفة، لذلك لم يهاجم ما سمي بثورة الغلابة، وحاول فقط التقليل من أهميتها، وتأمين الشوارع ضد أي خروج عن النظام.
النظام هنا يسعى لصناعة معارضة أو شبه معارضة تتجاذب معه أطراف العملية السياسية، دون أن تحدث فيها تغييرا حقيقيا، وبتخفيف القبضة الأمنية والإفراج عن كثير من سجناء الرأي، مقابل صفقة سياسية يعود الآن ليستنسخ عهد حسني مبارك، وهو ما بادر به السيسي خلال مؤتمر الشباب الأخير بشرم الشيخ.
انقسام معهود
أما الجانب الآخر فتعيش فيه القوى الثورية في حالة الانقسام المعهودة بعد ثورة يناير، الكل يخون الكل، فنجد شباب 6 إبريل وعدد من القوى الليبرالية والشبابية، يخونون الإخوان بسبب أحداث محمد محمود، فيما يرد الإخوان باتهام تلك الجماعات بالتورط في دم آلاف الشهداء برابعة، وحتى الآن لم يستطع أو يحاول كل منهم أن يتجاوز سيئات الآخر؛ للاتفاق على وجهة نظر واحدة، حول كيفية التصدي لقمع النظام الحالي.
شيطنة المعارضة
أما المواطن العادي – عم سعيد نموذجا -، فمع أنه قوة ضخمة ورقم لا يُستهان به، إلا أن طبيعة الشعوب عامة تجعل نظرها مركزا على مصالحها الآنية والمعيشية قبل كل شيء، وحين تجد قناعتها في قضية ما تتجه إليها بكل تضحية، لكن من يوجه عم سعيد وأمثاله. هنا تكمن المشكلة، فهؤلاء فقدوا الثقة في جميع القوى المحركة على الأرض، ونجح النظام في شيطنة المعارضة أمام الجميع.
بذرة الحرية
صحيح أن اليوم ومر وانتهى بيسر وسهولة، كما مرت “ثورة المصاحف” الوهمية يوم 28 نوفمبر 2015، التي انتهت بصدور حكم ببراءة مبارك، بعد أن أحكمت قوات الأمن السيطرة على الشوراع، ولم يحتاج الجيش المصري لأن “يفرد على البلد خلال 6 ساعات” كما قال السيسي، لكن صحيح أيضا أن الرعب ساد إعلام السيسي وشرطته، وهو نفسه حينما هدد ضمنا بقوله “لو البلد وقعت لا هتنفع لينا ولا لغيرنا”.. ما يعني إمكانية أن تكون شرارة اليوم برغم ضآلتها مرحلة ثورية جديدة، من مراحل المد الثوري، الذي يظهر ويخبو، أو ربما بداية لثورة شعبية قوامها الفقراء والغلابة ستظهر قريبا، يبداها “عم سعيد” وغيره.
الواقع الآن يقول إن هذه الدعوات ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها عشرات الدعوات ما بين الحين والآخر، سواء كانت بمناسبة أو دون مناسبة، إلى الحد الذي فقدت فيه مصداقيتها لدى الشعب، وباتت السخرية واللامبالاة هي رد الفعل الأكثر حضورا حيال مثل هذه الدعوات من قبل الجميع، مؤيدين لها قبل معارضيها، ممن فقدوا الثقة في قياداتهم، وباتوا في وضع لا يسمح لهم بدفع المزيد من دمائهم وأموالهم وحرياتهم، للاستجابة لدعوات تفتقد للتخطيط، وغير محسوبة العواقب!
الخلاصة
فعلا الشارع المصري في حالة غليان، وأمثال عم سعيد المواطن البسيط يعانون الأمرين مع ارتفاع الأسعار، وغياب الخدمات، ورفع الدعم، واختفاء أية مبشرات للعدالة الاجتماعية، وانتشار الفساد والمحسوبية والظلم، لكن في المقابل هذا المواطن البسيط “عم سعيد”، لم يجد بعد من يثق فيه للنزول معه إلى الشارع، ولم يجد القوى المعارضة الواضحة التي تقنعه بوجهة نظرها، بل أنه فقد الثقة في الجميع وعاد الليلة إلى منزله لمشاهدة “إعلام السيسي” وهو يحتفي بهاشتاج “#ماحدش_نزل”.