لم تتمكن الحكومة المصرية من إنجاز أي شيء اقتصادي يذكر سوى إنجاز الحصول على أكبر قدر من القروض في تاريخ مصر خلال وقت قياسي، الحكومة لا تعتبر هذا الأمر سبه أو أزمة، بل إنها تعتبره دليلاً على نهضة اقتصادية كبيرة وثقه عالمية في قدرة الاقتصاد المصري على النهوض في الأجل المتوسط، برغم ما يمر به من أزمات، فهل الحكومة محقة في ذلك أم أن الاقتراض دائمًا ما يرتبط بالانهيار؟
في البداية يجب العلم أن المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي أقرضت دولاً وهي تعلم تمام العلم أن اقتصادات هذه الدول تنهار، ولكنها دعمت هذه الدول ودفعتها لدفع الفاتورة باهظة، وليست تجارب اليونان والبرازيل والأرجنتين ببعيدة، بالإضافة إلى قبرص وبولندا وإيرلندا وغيرها من الدول التي لجأت لمزيد من القروض لتمنع إعلان إفلاسها بعد العجز عن السداد.
مصري يحتضن رغيف العيش
إذا لا يمكن القول إن الحصول على القروض دليل ثقة، بزعم أن المؤسسات تقرض مصر لأنها تتوقع نهضة وانتعاش قوي في اقتصاد البلاد خلال الفترة القادمة.
عمومًا عندما ننظر إلى وضع القروض الخارجية في مصر خلال الأيام الأخيرة سنجد العجب، فمصر تقترض من أجل تسهيل الحصول على قرض تارة، وتقترض لسداد قرض آخر تارة أخرى، وبين هذا وذاك نجدها تقترض مرة ثالثة من أجل دعم الاحتياطي النقدي وزيادة رقمه، وهو منطق لا أفهمه في الحقيقة، فأي زيادة في الاحتياطي لا تأتي من الإنتاج الصناعي والتكنولوجي والزراعي ومصادر العملة الأساسية ستكون عبئًا على الاحتياطي وليست إضافة.
وعندما ننظر إلى القروض في آخر 24 ساعة نجد أن آخر ما أعلنت عنه وزارة المالية هو اقتراض 4 مليارات دولار من خلال طرح سندات دولية في بورصة إيرلندا لصالح البنك المركزي المصري، حيث تم إصدار سندات بقيمة 1.360 مليار دولار بعائد سنوي قدره 4.62% تُستحق في الـ10 من ديسمبر 2017، كما أصدرت المالية سندات بقيمة 1.320 مليار دولار بعائد سنوي قدره 6.75% تستحق في الـ10 نوفمبر 2024، وأخرى بقيمة 1.320 مليار دولار بعائد سنوي قدره 7% تستحق في الـ10 من نوفمبر 2028.
خان الخليلي أشهر أسواق القاهرة
وفي نفس اليوم أعلنت الوزارة عن بدء الترويج لسندات دولارية بقيمة 2.5 مليار دولار في لندن وبروكسل ودبي نهاية الشهر الجاري، بحسب ما قاله مسؤول كبير في وزارة المالية نقلت عنه النسخة المصرية لوكالة رويترز “أصوات مصرية”، مشيرًا إلى أنه من المنتظر أن تدخل حصيلة هذا الطرح الدولاري للبلاد قبل نهاية العام الحالي.
ولم ينته اليوم إلا وقد أعلن صندوق النقد الدولي أنه سيعطي مصر شريحة أولى من القرض قيمتها 2.75 مليار دولار اليوم وذلك على افتراض تصويت مجلس الصندوق لصالح الموافقة على البرنامج البالغة قيمته 12 مليار دولار، وقال المتحدث باسم الصندوق جيري رايس، إن تصويت مجلس الصندوق يأتي في الوقت الذي ستسهم فيه الصين والإمارات العربية المتحدة ومجموعة السبع في توفير تمويل ثنائي تصل قيمته إلى ستة مليارات دولار لبرنامج مصر.
البيانات الثالثة التي خرجت خلال الساعات الماضية تكشف التوجه المصري القوي نحو الاقتراض وبشراهة عجيبة، ربما يكون الهدف من موجة الاقتراض تلك ما أعلن عنه طارق عامر محافظ البنك المركزي، قبل عدة أشهر من أنه يستهدف الوصول باحتياطي مصر من النقد الأجنبي إلى ما يتراوح بين 25 و30 مليار دولار قبل نهاية 2016، إذا كان هذا هو الهدف فما فائدة هذه القروض التي لن تجلب سوى مزيد من الالتزامات، بالإضافة إلى فوائد هذه القروض.
كل هذا تزامنًا مع مفاوضات مصرية لاقتراض 9 مليارات دولار من مؤسسات أخرى منها البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية، إذا الحكومة معتمدة بشكل أساسي على سياسة الاقتراض الخارجي وكأن الاقتراض هو وظيفة الحكومة الأساسية في وقت تتزايد في الالتزامات.
لا شك أن الوضع الحالي حساس وشديد الخطورة، فالأزمة تكمن في أن سياسة القروض التي تتبعها الحكومة خلال العامين الماضيين، هي مجرد مسكنات لن تلبس أن تصبح آفات قاتلة للأجيال القادمة التي ستتحمل الفاتورة باهظة، لأن هذه القروض لا تذهب إلى المشاريع الإنتاجية التي تساعد على تعافي الاقتصاد، بل تتجه إلى سد عجز الميزانية العامة للدولة، والتوسع في هذه السياسة يدفع اقتصاد مصر نحو الانهيار.
الاقتراض في الأصل فرصة جديدة ومنحة للحصول على الأفضل في المستقبل، ولكن بشرط أن يكون هذا الاقتراض يحرك عجلة الإنتاج والتنمية وتشغيل الشباب وإنشاء المشروعات الصناعية وتطوير البنية التحتية والعمل على مستقبل أفضل للأجيال القادمة، فستكون نتائج الاقتراض إيجابية، حيث إن عوائد القروض ستكون أعلى كثيرًا من سعر الفائدة الذي قد ندفعه.
ولكن إذا استمرت الحكومة في الاقتراض من أجل سد العجز وتغطية فشلها في إعادة موارد البلاد، وتغطية فاتورة الاستيراد، ورفع رقم الاحتياطي، دون أي عائد يذكر على المواطن المصري المنوط به سداد هذه القروض فإن هذه السياسة سيدفع المصريون ثمنها باهظًا، في الوقت ذاته فإن الديون الخارجية تضع البلاد في دائرة مغلقة تقترض لتنتج ثم تنتج لسد فوائد القروض فتفشل، ثم تلجأ للاقتراض مرة أخرى، فيما تعتبر هذه المشكلة المالية سببًا في تغيير العلاقات وتوجيهها وفق ما تمليه المصلحة العامة للدول الدائنة.
أخيرًا، إذ لم تنجح مصر في التحرر من أسر هذه القروض، فإنها ستظل في موقف التابع والخادم لأعباء هذا الدين وفوائده، حيث إن الفوائد المدفوعة على هذه القروض تستنزف اقتصاد البلاد وتجعلها خادمة للدول المقرضة، وكل من يتحدث عن نهضة اقتصادية معتمدة على هذه الديون، بالتأكيد لا يتكلم عن الواقع بل يغرد بعيدًا عما تعيشه مصر.