أنا دانييل بلايك، بطل حفل الاختتام في مهرجان كان الأخير والحائز على سعفته الذهبية، أنا دانييل بلايك الرجل المسن والمنجز الجديد لنضالات المخرج البريطاني العجوز كين ليوتش Ken Loach ذي الثمانين حولاً، وطريقه الذهبية ليكون الرجل التاسع في قائمة من توجوا بالسعفة الذهبية مرتين، أنا دانييل بلايك وهذه حكايتي.
لا يعرف كثيرون كينيث لوتش، رغم مدونته السينمائية الثرية كمخرج، ربما لالتصاقه بالواقع البريطاني، وربما لنفوره طيلة مسيرته المهنية من هوليود رغم إغراءاتها، لكن للرجل بصمة مهمة في السينما البريطانية، في سنة 2006 حاز على سعفته الذهبية الأولى من خلال “الريح التي تهز السنابل” The wind that shakes the Barley، وكان قد رشح لها من قبل بفيلم “اسمي دجو” My name is Joe سنة 1998، ومكن خلالها الممثلَ بيتر مولان Peter Mullan من الظفر بجائزة أفضل ممثل.
للوتش مكانة كبيرة في بريطانيا، ليس لأنه مخرج سينمائي وحسب، بل لأنه من خلال السينما ظل في ملاحقة دؤوبة للعدالة الاجتماعية التي طالما حلم بتحقيقها في بريطانيا، سينما كين لوتش لا تناور كثيرًا وتمضي مباشرة نحو هدفها، أنا دانييل بلايك، ليس إلا مثالاً نموذجيًا على ذلك.
المشهد الأول للفيلم هو كل شيء تقريبًا، لا توجد مقدمة هنا، بل توجد نهاية، توجد فكرة سيحاول الفيلم تباعًا تشكيلها بالألوان، لذلك كان المشهد الأول بلا مشاهد، شاشة سوداء ومحادثة بين رجل مستنكر وامرأة باردة النبرات، تسمح هذه المحادثة القصيرة بفهم كل شيء، دانييل بلايك مريض بالقلب وأمرته طبيبته المباشرة بعدم العودة إلى عمله كنجار بمصنع قبل أن تسمح حالته الصحية بذلك، المرأة التي تخاطبه، عون صحة عمومية، تخبره أنه لا حق له في منحة المرض طالما لم يصدر قرار من طبيب المراقبة بأنه فعلاً مريض ويحتاج إلى الراحة، كان صوت دانييل بلايك حيًا وساخرًا، بينما عكس صوتُها البارد كل مشاكل البيروقراطية البريطانية.
ليس الفيلمُ كافكاويًا، ولسنا هنا في عالم “المحاكمة” المخيف، صحيح أن الفيلم يركز على البيروقراطية بشكل كبير، ولكنه يركز عليها من منظور مختلف، وإذا كان كافكا يهاجم الحداثة في إدارتها فإن لوتش يهاجم الإدارة في حداثتها، في تناسيها لمهمتها الأصلية من أجل الالتزام الأعمى بالقوانين والقواعد، لقد تجلت قيمة الفيلم أساسًا في هذه النقطة، لقد كان كل أعوان الإدارات سواء عبر الهاتف أو عبر مكتب التشغيل، عقلانيين شديدي الالتزام بالقواعد التي تعلموها، شديدي الخوف من أي تجاوز أو خروج عن جملة المتوقع، وفي المقابل كان دانييل وكذلك كاتيي Katie (أم طفلين تعرف عليها في مكتب التشغيل) عاطفيين وانفعاليين، مع ذلك، كان الخطاب البيروقراطي ذو النبرات المنهجية والعقلانية، خطابًا مجنونًا ولا معقولاً.
ـ هل تعاني من مشاكل في الرقبة؟
ـ لقد أخبرتك أنني أعاني من مشاكل في القلب.
ـ أرجو أن تلتزم بالإجابة عن السؤال سيد بلايك
ـ لا، لا أعاني من مشاكل في الرقبة.
ـ جيد، هل لك أوجاع في القدمين؟
ـ ولكن لماذا تصرين على قراءة الاستبيان كاملاً؟ أنا أعاني من مشاكل في القلب فحسب!
ـ سيد بلايك، إذا لم تتركني أنجز عملي فسأضطر لقطع المكالمة…
يجب أن ننوه هنا بالعمل الكبير الذي قام به دايف دجونز Dave Jones خلال آداء دور دانييل بلايك، لقد نقل إلينا كل الحيوية التي يتمتع بها شخص مثله، لم يكن دانييل بلايك طوال رحلة المعاناة يستدعي من المشاهد أي ذرة من الشفقة، ولقد كان هذا مهمًا، لأن دانييل بلايك سيعود إلى هذه النقطة في خطابه الأخير “أنا دانييل بلايك، لست متسولاً، ولا أنشد شفقة من أي نوع، أريد حقي”.
لم يكن يريد حقه وحده، بل كان يريد حق كل المظلومين مثله، لذلك ساند كايتي Katie في مكتب التشغيل، أما هي، فمارست دور المثيرة للشفقة بكل الطرق المعروفة، أم لولدين صغيرين، لا تملك مورد رزق، تذهب إلى بنك الأغذية لتستلم ما ينتشلها من الجوع فحسب، تهان بسبب اضطرارها لسرقة أدوات نظافة نسوية، وطبعًا تضطر إلى الدعارة.
ما يحسب لكين لوتش هنا، أنه لم يصور أيًا من هذه المواقف بشكل مفتعل، بل كانت كل المشاهد طبيعية وفي سياقها السردي المناسب تمامًا، كان أكثر المشاهد إيلامًا، هو ذاك الذي حدث داخل بنك الأغذية، حين افترس الجوع كل قدرة ذهنية تملكها، وراحت تفتح علبة الطعام السائل وتعب به فمها، قبل أن تكتشف أن مشهدها مثير للشفقة والغرابة وتنخرط في بكاء مر، ورغم أن الفكرة تبدو مفتعلة بعض الشيء (لو أن الجوع بلغ بها هذا الحد، ماكانت لتقدر على الانتظار كل ذاك الوقت، ثم هناك أغذية يمكن استهلاكها بشكل أبسط بكثير)، إلا أنها أصابت هدفها، تمثل كاتي Katie المواطن الإنجليزي المظلوم، ووجودها يمثل حالة تقابل مع دانييل بلايك، ذلك المواطن الإنجليزي المظلوم والبطل.
إن بلايك هو صورة البطل المثال الذي يقترحه كين ليوتش، البطل الذي يرفض أن يعلوَ القانون على الإنسان، وأن تسبق القواعدُ الأخلاقَ، في كل مكان يمر به بلايك، توجد تهمة تحوم حول المشهد، كلب مقطوع القدم يحاول أن يتعايش مع إعاقته في الشارع الذي لا يرحم، رجل معاق يسير على كرسيه المتحرك في مدينة ربما ليست معدة في تفاصيلها لمن أجسادهم “منقوصة”، وقوفه وحيدًا عاريًا من كل سند معنوي عند ناصية شارع أمام واجهة محل فيها لافتة عملاقة لامرأة جميلة وعبارة “Love” (حب) كبيرة، إلخ.
لا يدع كين لوتش المشاهد من دون أن يعمر أركانها بشيء يثير سخطه وما أكثر ما يثير سخطه، هكذا تحول الفيلم بكليته إلى حفلة كاريكاتور، بطالة، طبقية، دعارة، تنمية بشرية، تشغيل الشباب، الإيجار، إلخ، حتى بنك الأغذية، الذي يقوم أساسًا على التبرعات والأعمال الخيرية، لم ينجُ من نقد كين لوتش اللاذع، تقول المشرفة في البنك “ليس عندنا مواد تنظيف نسائية للأسف، المتبرعون لا يفكرون أبدًا بمثل هذه الأشياء”، لكن كين لوتش الذي لا يخفي البتة ميوله اليسارية، لا يتردد أمام طرحٍ بهذا الشكل، فهو كيساري لا يهتم بالتبرعات والأعمال الخيرية، وإنما يريد أن يغير النظام حتى لا يحتاج المرء إلى العيش على صدقات الآخرين ونزوات ضمائرهم.
ورغم جودة المشهد اللوتشي، وتعويله الناجح على البساطة والدقة، إلا أن المخرجَ في إمعانه في المباشرتية، أفقد الفيلمَ الكثير من قيمته الفنية، حتى عدا كتلة غير متجانسة من النقد الحاد الموجه إلى كل شيء تقريبا. لقد
كانت تقنيات الرجل السينمائية والسردية بسيطة وأكاديمية وعادية وليست حتمًا مما يمكن وصفه بالجرأة، أنا دانييل بلايك هو فيلم جميل ومؤثر، ولكنه قطعًا ليس أفضل أعمال مهرجان Cannes الماضي، إنه لمن المؤسف حقًا أن يفوز “أنا دانييل بلايك” في مهرجان لم يفز فيه طوني إيردمان Toni Erdman إلا بحماس النقاد.
يجب علينا أن نفهم أخيرًا أن قيمة العمل الفني لا تتعلق بالمضمون بقدر ما تتعلق بالشكل، إن الفن هو أولاً وأخيرًا تعبيرة إبداعية جمالية، لذلك تكتسي هذه التعبيرة قيمتها الأبرز من خلال مدى وعيها ببيئتها الراهنة في مستواها الجمالي، إن هناك عمل جمالي لا بأس به في شخصية دانييل بلايك، وكذلك في مستوى الواقعية كأسلوب شديد الالتصاق بالدراما الاجتماعية، لكن كين لوتش لم يتجاوز كثيرًا هذه النقاط، أنا دانييل بلايك، ليس فيلم العام حتمًا، ولكنه صورة مختلفة لبريطانيا وأوروبا الغربية عمومًا، ولا يجب تفويته.
العنوان: أنا دانييل بلايك I, Daniel Blake
المخرج: كين لوتش Ken Loach
سنة الصدور: 2016
مدة العرض: 100 دقيقة
النوع : دراما اجتماعية
البطولة: دايف دجونز Dave Johns، هايلي سكوايرز Hayley Squires