ارتبط فهم توجهات السياسة الخارجية الأمريكية بثلاث مقاربات متمايزة، وهي مرتبطة بخصوصية الحالة الأمريكية في حد ذاتها، أما الأولى فهي المقاربة المؤسساتية والتي ترى أن السياسة الخارجية الأمريكية هي محصلة لإدارة العلاقة بين مجموعة من المؤسسات أو المساومة البيروقراطية كما يقول المنظرون.
فالنظام السياسي الأمريكي هو بنظام بالغ التعقيد في بنائه المؤسساتي، وكل تفاصيل هذا البناء لها تأثيرات متنوعة في رسم توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، ومنها رئاسة الجمهورية والكونغرس ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي وأجهزة الاستخبارات، وصحيح أن العلاقة بين هذه المؤسسات المختلفة هي علاقة محكومة بأطر قانونية يوضحها الدستور الأمريكي، إلا أن هذه العلاقات لها بُعد سياسي أيضًا، إذ يوجد صراع بين هذه المؤسسات يرتبط بمصالح المؤسسة في حد ذاته، ولذا يلاحظ أن شخصيات أمريكية كثيرة تغير من مواقفها في السياسة الخارجية بمجرد تغيير المؤسسة التي تعمل في إطارها، فأفكار هيلاري كلينتون في السياسة الخارجية عندما كانت تشتغل في وزارة الدفاع ليست هي نفسها عندما أصبحت وزيرة للخارجية.
كما أن البُعد السياسي للعلاقة بين هذه المؤسسات يظهر أيضًا من خلال الصراع للسيطرة على المعلومات، ومن ذلك الصراع بين وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات المختلفة، بل الأكثر من ذلك فإنه قد يحدث صراع داخل فروع المؤسسة الواحدة ومن ذلك الاختلاف بين وزير الدفاع وقادة الفروع العسكرية، وحتى وإن كان الرئيس الأمريكي يحتفظ بحق التحكيم بين هذه المؤسسات من الناحية الدستورية إلا أن هذا التعقيد المؤسساتي وفقًا للمقاربة المؤسساتية أكبر من أن يمكن السيطرة عليه.
أما المقاربة الثانية التي تشرح توجهات السياسة الخارجية الأمريكية فهي المقاربة الفكرية، والتي ترى أن فهم توجهات هذه السياسة يرتبط بطبيعة التيار الفكري المسيطر في الإدارة الأمريكية من مرحلة إلى أخرى، حيث توجد في الولايات المتحدة أربعة تيارات رئيسية: التيار الواقعي والذي يؤمن بسياسات القوة والتقليل من أهمية الطبيعة الداخلية لأنظمة الحكم في صنع السياسة الخارجية، والتيار المحافظ الجديد والذي يرى أن القوة العسكرية للولايات المتحدة يجب أن تكرس لنشر المنظومة القيمية للمجتمع الأمريكي، وأن المكانة الدولية للولايات المتحدة تفرض عليها مسؤوليات خاصة تجاه الأمن الدولي، بالإضافة إلى ضرورة عدم الثقة في قدرة المؤسسات الدولية والقانون الدولي.
كما يؤمن هذا التيار أن السياسة الخارجية للدول تعكس طبيعة أنظمة الحكم ولذا فإنه لتغيير السياسة الخارجية لأي دولة يجب تغيير طبيعة نظام الحكم فيها، أما التيار الليبرالي فهو يعارض الاستناد إلى سياسات القوة في السياسة الخارجية الأمريكية ويفضل نشاط هذه السياسة في إطار نظام دولي يستند إلى القانون والمؤسسات، أما التيار الرابع فهو التيار القومي والذي يبني نظرة ضيقة للسياسة الخارجية الأمريكية تميل نحو تكريس الطابع الانعزالي.
وهناك مقاربة ثالثة في تفسير السياسة الخارجية الأمريكية وتسمى المقاربة التاريخية وهذه المقاربة ترى أن التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية الأمريكية هي توجهات ثابتة مهما اختلفت الإدارات والمراحل، لأن هذه التوجهات مرتبطة بطبيعة نشأة الدولة الأمريكية في حد ذاتها، أي أن هذه المقاربة ترى بأن خصائص نشأة الدولة الأمريكية تنعكس بشكل مباشر ومستديم في سياستها الخارجية بالشكل الذي حول هذه الخصائص إلى خصائص بنيوية ملازمة لتطورات السياسة الخارجية الأمريكية في كل الأوقات.
ومن هذه الخصائص البنيوية أن الولايات المتحدة نشأت كموطن ولم تنشأ كوطن، أي أنها نشأت كفضاء مفتوح، ولذا أصبحت السياسة الخارجية الأمريكية تنظر هي الأخرى إلى بقية العالم على أنه فضاء مفتوح لا يجب أن يصطدم بأي نوع من أنواع العوائق، ومن ذلك أيضًا أن الولايات المتحدة نشأت كارتباط بتوظيف دور المال، فالاتحاد الفيدرالي الأمريكي اشترى أكثر من ولاية أمريكية من دول أوروبية مختلفة، فالمال الذي لعب دورًا هامًا في نشأة الدولة الأمريكية أصبح له أيضًا دور هام في ممارسة السياسة الخارجية الأمريكية، وما يؤيد ذلك أن الميزانية الوحيدة التي لا تتعرض للتقليص هي الميزانية المخصصة للمساعدات والتي توظف سياسيًا بشكل كبير، ومن تلك الخصائص أيضًا أن الولايات المتحدة نشأت في فضاء جغرافي لا يعرف تهديدات مباشرة على الحدود لم تمتلك أبدًا نظرية للأمن القومي بقدر ما امتلكت نظرية للمصالح القومية.
ماذا عن ترامب الآن؟ من وجهة نظري فإن التوجس من وصول ترامب مرتبط بكونه سيكرس سياسة خارجية أمريكية لن ترتبط بأي إطار مرجعي تقليدي لفهمها وتفسيرها، فالمقاربة المؤسساتية ستكون عاجزة لأن دونالد ترامب يبدي نظرة نقدية للتعقيد المؤسساتي الذي يعرفه النظام الأمريكي، ولذا فإن نسقه العقيدي باعتباره شخصية مستقلة سيكون له دور كبير في التقليص من السلبيات التي يراها موجودة في هذا التعقيد بالنسبة إلى رسم توجهات السياسة الخارجية الأمريكية.
كذلك المقاربة الفكرية فستكون عاجزة هي الأخرى لأن ترامب لا ينتمي لأي تيار فكري، من التيارات الأربع، فمن عند الواقعيين يأخذ ترامب مبدأ أمريكا أولاً، ومن عند المحافظين الجدد يأخذ ترامب أهمية توظيف القوة العسكرية في السياسة الخارجية، ومن عند القوميين ينجذب ترامب إلى فكرة الانعزالية بالمعنى الذي يفيد أن الولايات المتحدة يجب أن تنتقي بصرامة القضايا التي تهتم بها في سياستها الخارجية أما ما عداها فيجب أن تخضع لمبدأ العزلة.
وبعد ذلك أيضًا تبدو المقاربة التاريخية عاجزة هي الأخرى لأن دونالد ترامب يشكك في كل الحتميات واللزوميات التي كرسها تطور الدولة الأمريكية، ومن ذلك أن توظيف المال في السياسة الخارجية الأمريكية يجب أن يخضع بالنسبة إليه إلى شروط صارمة، كما أن ترامب لا يؤمن بفكرة الفضاء المفتوح ويرى أن هوية المجتمع الأمريكي مرتبطة بمكون محدد أما ما عداه فهم سكان وليسوا مواطنين أمركيين، كما أن ترامب يرى أن هناك تهديد مباشر للأمن القومي الأمريكي يأتي من تدفق المهاجرون من أمركيا اللاتينية وهذا يعني أن ترامب سيبني مقاربة للأمن القومي الأمريكي مرتبطة بهذا التهديد على عكس ما تم التعود عليه تاريخيًا.
وبعد كل هذه التفاصيل قد نتصور تبلور مقاربة تفسيرية جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية نجتهد في وصفها بالمقاربة الشعبوية وهو الاتجاه الذي بدأ يتشكل في المجتمعات الغربية، وهذه المقاربة تظهر الخصائص التالية للسياسة الخارجية الأمريكية:
♦ الديمقراطية المباشرة هي التي يجب أن تحكم توجهات هذه السياسة وليس التعقيد المؤسساتي والمساومة البيروقراطية.
♦ الفوضى المنتشرة في العلاقات الدولية الراهنة هي أكثر ما يجلب تحديات أمنية للولايات المتحدة وبالتالي ما يجب التركيز عليه هو دعم الاستقرار حتى وإن كان على حساب الديمقراطية.
♦ الولايات المتحدة ليست مجبرة على ربط سياساتها بالمؤسسات المتعددة الأطراف، عسكريًا مع حلف الشمال الأطلسي، وسياسيًا مع منظمة الأمم المتحدة واقتصاديًا مع المنظمة العالمية للتجارة.
♦ السياسة الخارجية الأمريكية ليست مجبرة على الاندماج في كل القضايا والأزمات العالمية حتى وإن كانت مكانتها الدولية تسمح بذلك.