بعد خمسة أشهر كاملة من المفاوضات والزيارات المتبادلة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي، ها هو الصندوق يعلن موافقته رسميًا على إقراض القاهرة 12 مليار دولار على ثلاث سنوات، وبالرغم من تباين التصريحات بشأن استلام البنك المركز المصري للدفعة الأولى من القرض والمقررة بـ2.7مليار دولار أمس الجمعة، أو تأجيلها إلى الأربعاء القادم 16 من نوفمبر، إلا أن حصول مصر على القرض بات واقعًا عمليًا.
حالة من التهليل اكتظت بها استوديوهات الفضائيات المصرية والصفحات الأولى للجرائد والمواقع الإخبارية عقب إعلان الصندوق موافقته على القرض، غلفتها نشوة الانتصار بهذه الخطوة التي عول عليها الكثيرون في انتشال مصر من المأزق الاقتصادي الذي تعاني منه خلال السنوات الأخيرة.
وفي المقابل قلل البعض من قيمة هذا القرض، ونعتوه بـ”انتكاسة” للوراء تزيد من معاناة مصر المستقبلية خاصة فيما يتعلق بتراكم المزيد من الديون الخارجية والتي تجاوزت حاجز 53.4 مليار دولار في مارس الماضي، فضلاً عن الآثار المترتبة على التزام القاهرة بشروط الصندوق والتي جاءت على حساب الفقراء ومحدودي الدخل، ليبقى السؤال: هل يحقق قرض صندوق النقد الدولي المعجزة ويقود مصر إلى واقع أفضل، أم أنه لا يعدو مجرد مسكن مؤقت يزيد من معاناة المطحونين من أبناء هذا الشعب؟
رحلة القرض.. محطات هامة
مرت الحكومة المصرية خلال رحلتها نحو الحصول على قرض صندوق النقد الدولي بالعديد من المحطات الهامة والحيوية، التي عكست حجم وقيمة هذا القرض بالنسبة للنظام المصري، حيث بذلت القاهرة قصارى جهدها لإرضاء الصندوق بأي ثمن استجابة للشروط الموضوعة للموافقة على القرض.
بداية الرحلة تعود إلى مساء الأربعاء 26 من يونيو 2016، حيث تأكيد صندوق النقد الدولي مساعدته لمصر حال طلبها لتمويل أو الحصول على قرض، وهو ما دفع القاهرة إلى التقدم رسميًا وبدء عملية التفاوض للحصول على قرض قيمته 12مليار دولار وذلك في 26من يوليو من نفس العام.
وبعد 24 ساعة فقط، رحب صندوق النقد بالطلب المصري، ليرسل أولى بعثاته للقاهرة من أجل التفاوض يوم الخميس 28 من يوليو، مشترطًا بعض الإجراءات الواجب اتخاذها من قبل الحكومة المصرية للموافقة على القرض، أبرزها تحرير سعر صرف العملة المحلية ورفع الدعم عن الوقود ومشتقات الطاقة والكهرباء، كذلك تخفيض رواتب العاملين وعددهم في الجهاز الإداري للدولة، إضافة إلى زيادة الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي من 19 إلى 25 مليار دولار.
وعلى الفور أعلنت القاهرة موافقتها على الشروط المعلنة، ففي 3 من نوفمبر قررت مصر تعويم الجنيه وتحرير سعر صرف العملات العربية والأجنبية داخل البنوك، وبعدها بيوم واحد فقط تقرر رفع أسعار الوقود والطاقة، إضافة إلى رفع الدعم تدريجيًا عن السلع وبعض الخدمات، وهو ما دفع مديرة صندوق النقد للتوصية بالموافقة على القرض المصري وذلك مساء الثلاثاء 8 من نوفمبر، بعد ساعات قليلة من إعلان وزير المالية المصري استكمال مصر الـ6 مليارات دولار من الاتفاقيات الثنائية وبعض الدول الأخرى، تشمل اتفاق مقايضة عملات مع الصين بنحو 2.7 مليار دولار، للحصول على قرض صندوق النقد الدولي.
وفي صبيحة الجمعة 11من نوفمبر اجتمع المجلس التنفيذي للصندوق للنظر في طلب مصر للحصول على القرض، ليوافق عليه بالإجماع، محددًا يوم الأربعاء 16 من نوفمبر كموعد محدد لوصول الشريحة الأولى من قرض الصندوق لمصر بقيمة 2.7 مليار دولار.
ما الهدف؟
بداية وقبل عدة أشهر، أعلن طارق عامر محافظ البنك المركزي، أنه يستهدف الوصول باحتياطي مصر من النقد الأجنبي إلى ما يتراوح بين 25 و30 مليار دولار قبل نهاية 2016، بأي ثمن ومهما كانت التبعات، في الوقت الذي لا يتعدى فيه الاحتياطي النقدي حاجز الـ19مليار دولار، ما يجيب على التساؤل حول كيفية تحقيق البنك المركزي لهدفه من الوصول بالاحتياطي النقدي إلى هذا الرقم المعلن عنه، وقدرته على التعامل مع تبعات هذا المسلسل المتواصل من الاقتراض هنا وهناك.
بحسب بيان وزارة المالية، فإن الحكومة تتوقع وصول ما يقرب من 11.45 مليار دولار إلى خزانة الدولة قبل نهاية هذا العام، فبعد الـ2.7 مليار دولار الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد، هناك ما يقرب من 2.7 مليار دولار من المقرر أن تحصل عليهم الحكومة من الصين من خلال اتفاق لمبادلة العملة بين البلدين، و1.5 مليار دولار من البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية قبل نهاية العام.
بحسب وزارة المالية، فإن الحكومة تتوقع وصول ما يقرب من 11.45 مليار دولار إلى خزانة الدولة قبل نهاية 2016
كما ستحصل مصر على ملياري دولار من السندات الدولية التي طرحتها في بورصة أيرلندا طرحًا خاصًا، بالإضافة إلى 2.5 مليار دولار من سندات ستطرحها طرحًا عامًا في الأسواق الدولية، ومن المنتظر الحصول على حصيلتهما قبل نهاية العام الحالي، تبعًا لما أكده مسؤولون لوكالة رويترز.
كما أصدرت المالية سندات بقيمة 1.320 مليار دولار بعائد سنوي قدره 6.75%، تُستحق في 10 من نوفمبر 2024، وأخرى بقيمة 1.320 مليار دولار بعائد سنوي قدره 7% تستحق في 10 من نوفمبر 2028.
يبدو أن الحصول على القروض بات هدفًا في حد ذاته للقائمين على أمور الاقتصاد المصري، دون أدنى اعتبار للكوارث التابعة لهذه الخطوات التي تكشف فشل الحكومة المصرية في إدارة الملف الاقتصادي بصورة فاضحة، لذا فقد اختارت لنفسها السير في مضمار الحلول السريعة السهلة التي تعتمد على مبدأ “التسكين” وليس الحل الجذري.
السيسي ومدير صندوق النقد ورحلة المفاوضات للحصول على القرض
مؤشر جيد ونظرة تفاؤلية
المتفائلون بالإجراءات التي اتخذتها الحكومة إرضاءً لصندوق النقد الدولي، من تعويم ورفع الدعم وتخفيض الأجور والعمال وغيرها، لديهم قناعاتهم الخاصة بأن نتائج هذه الخطوات ستأتي قريبًا جدًا، حيث ينهض الاقتصاد من كبوته ويعاود الصعود مرة أخرى.
هذه النظرة التفاؤلية نسبيًا عززها بيان وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني أمس الجمعة، حيث عدلت الوكالة نظرتها المستقبلية للتصنيف السيادي لمصر على المدى الطويل من سلبية إلى مستقرة.
وأبقت الوكالة على التصنيف الائتماني على المدى الطويل عند الدرجة (B-)، والمدى القصير عند (B)، وكلا الدرجتين تصفان ضمن مرحلة المخاطرة.
الوكالة قالت في بيانها إن تحول مصر نحو تحرير صرف العملة المحلية، جاء تلبية للوفاء بشروط صندوق النقد الدولي، واصفة قرار “التعويم” بأنه خطوة حيوية نحو التخفيف من حدة نقص العملة الأجنبية في مصر، وتضييق الفرق بين أسعار الصرف الرسمية وغير الرسمية وتحسن القدرة التنافسية للصادرات في البلاد.
ومع ذلك، لفتت إلى أن التصنيف الائتماني لمصر لا يزال يواجه قيودًا تتمثل في ارتفاع عجز الموازنة وارتفاع الدين العام ومستويات الدخل المنخفضة، وهشاشة النظام المؤسسي الاجتماعية، متوقعة أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في مصر 4% بحلول عام 2019.
العديد من الخبراء أشاروا أيضًا إلى أن قرض صندوق النقد الدولي، يعطي فرصة للحكومة لتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي بدون مخاطر، وسد الفجوة التمويلية، والسيطرة على معدلات التضخم، والمضاربة على العملات الأجنبية بشكل نسبي.
وكالة “ستاندرد آند بورز” ترفع التصنيف الائتماني لمصر
هل يحل الأزمة؟
من الواضح أن القرض الذي نجحت مصر في الحصول عليه سيكون له دور محوري في تخفيف حدة أزمة نقص العملات الأجنبية، من خلال ضخ سيولة دولارية بالسوق المحلية، إلا أنه من الصعب جدًا القضاء على هذه الأزمة، وهو ما أشار إليه رئيس قسم الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية، الدكتور إيهاب الدسوقي، والذي أكد أن المنح والمساعدات والقروض لا يمكنها أن تنهي على أزمة نقص الدولار.
الدسوقي أشار إلى فشل السياسات الاقتصادية للحكومة في تطبيق منظومة الإصلاح، خاصة فيما يتعلق باستقرار أسعار صرف العملات الأجنبية في مقابل العملية المحلية، ملفتًا إلى أن قرض صندوق النقد الدولي لا يعدو كونه مسكنًا مؤقتًا لالتقاط الأنفاس، وأن الحل الجذري لهذه الأزمة يكمن في وجود مصادر دائمة للعملة الأجنبية من خلال زيادة الاستثمارات المحلية والأجنبية، وزيادة نسبة الصادرات وعودة السياحة وزيادة تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وهو ما تتقاعس الحكومة عن تنفيذه على حد قوله.
الرهان على أن قرض الصندوق سيتيح شهادة ثقة دولية للاقتصاد المصري، تسمح بتوافد الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة لشراء أذون وسندات الخزانة المصرية سبق وأن سقط في الاختبار
وشاطره الرأي الخبير الاقتصادي الدكتور محمد سعيد، الذي أكد أيضًا أن قرض الصندوق هو حل مؤقت يسمح بإجراء إصلاحات في الهيكل الاقتصادي، لكن لا يمكنه القضاء على المشكلات الاقتصادية في الدولة بصورة نهائية وفي مقدمتها نقص العملات الأجنبية.
أما المحلل والخبير الاقتصادي ممدوح الولي، فعلق على قرض صندوق النقد الدولي، بأن مصر تحتاج سنويًا إلى حوالي 60 مليار دولار تغطية لوارداتها السلعية، إضافة إلى 8 مليار دولار قيمة أقساط وفوائد ديون خارجية كل عام، فضلاً عن العجز في الجهاز المصرفي فيما يتعلق بالنقد الأجنبي لأكثر من 36 مليار دولار للعام الحالي، متسائلاً: ماذا تفعل الـ2.7 مليار دولار المتوقعة من الصندوق إزاء تلك الاحتياجات؟
أما فيما يتعلق بالرهان على أن قرض الصندوق سيتيح شهادة ثقة دولية للاقتصاد المصري، تسمح بتوافد الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة لشراء أذون وسندات الخزانة المصرية، بما يسهم في ضخ مليارات الدولارت للاحتياطي النقدي الأجنبي، فهو رهان متفاوت لا يمكن التعويل عليه بصورة كاملة، خاصة وأنه قد سبق وخسر من قبل، حينما تم خفض سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية في مارس الماضي، وتم طرح سندات دولارية من قبل البنك المركزي حيثإنه لم يحقق مبيعات سوى بعشرة ملايين دولار فقط، رغم ضمان بنكين حكوميين لهؤلاء الأجانب.
الدولار في مصر خارج نطاق السيطرة
الفقراء من يدفعون الثمن
لا شك أن سياسة الاقتراض التي تنتهجها الحكومة المصرية سترفع معدلات الديون الخارجية بصورة تهدد منظومة الاقتصاد مستقبلاً، من خلال الضغوط التي ستمارس على الدولة لأجل تسديد هذه الديون وفوائدها، إضافة إلى ابتلاعها لأي زيادات محتملة في العملات الأجنبية، وهو ما تجسد في الأرقام الصادرة عن البنك المركزي بشأن معدلات الديون الخارجية ونصيب الفرد منها.
البنك المركزي في تقرير له أشار إلى ارتفاع الدين الخارجي لمصر إلى 53.4 مليار دولار بنهاية مارس 2016، مقارنة بـ 39.9 مليار دولار في مارس 2015.
ارتفع نصيب المواطن المصري من الدين الخارجي، إلى حوالي 586 دولارًا أمريكيًا بنهاية مارس 2016، مقارنة بحوالي 448 دولارًا أمريكيًا بنهاية مارس من العام الماضي
وبالنسبة لأعباء خدمة الدين الخارجي المتوسط وطويل الأجل، أشار البنك المركزي إلى أنها قد بلغت 4.3 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2015 وحتى مارس 2016 فيما بلغت الأقساط المسددة نحو 3.7 مليار دولار والفوائد المدفوعة بنحو 600 مليون دولار، منوهًا إلى ارتفاع نسبة رصيد الدين الخارجي خلال الفترة من يوليو 2015 وحتى مارس 2016 لتبلغ 16.5% إلى الناتج المحلي الإجمالي.
ومن ثم فقد ارتفع نصيب المواطن المصري من الدين الخارجي، بما في ذلك الرُضع والشباب وكبار السن، إلى حوالي 586 دولارًا أمريكيًا بنهاية مارس 2016، مقارنة بحوالي 448 دولارًا أمريكيًا بنهاية مارس من العام الماضي، بزيادة بلغت 138 دولارًا في نصيب المواطن الواحد.
ومع إضافة القرض الجديد من صندوق النقد الدولي، إضافة إلى فوائد السندات الدولارية المطروحة في بورصات العالم المختلفة، من المتوقع زيادة حصة الفرد من الدين الخارجي عما هي عليه الآن، ليجد المواطن نفسه مثقلاً بأعباء وديون لا يعلم من أين جاءت ولا فيما أنفقت.
وبالمجمل، فإن حصول مصر على القرض الدولي إن كان يمثل انتصارًا للحكومة الحالية، وانفراجة نحو عبور الأزمة الراهنة، إلا أنه يعد اعترافًا صريحًا بالفشل والسقوط، فالحكومات التي تعتمد في بنيتها على المنح والقروض لا يمكنها مطلقًا أن تبني حضارة أو ترسي قواعد نهضة شاملة.
وفي المقابل يظل فقراء الوطن هم وحدهم من يدفعون ثمن هذا الفشل، فمن المتوقع أن تواصل الحكومة نهجها نحو دهس الغلابة ومحدودي الدخل بمزيد من الإجراءات التقشفية ورفع الأسعار من أجل ضمان الحصول على باقي دفعات القرض، ما يعني أن الأمل في خروج الفقراء من هذا المأزق قريبًا أمرًا غاية في الصعوبة، ويبقى السؤال: إذا كانت الدولة فشلت في تحقيق أي نهضة ملموسة لأبنائها من خلال ما يزيد عن 60 مليار دولار كمنح ومعونات من دول الخليج وغيرها؟ فهل تستطيع أن تقفز نحو النمو والتحسن المفاجئ من خلال 2.7 مليار دولار أو حتى قيمة القرض كاملة ما لم ترفق بسياسات واستراتيجيات اقتصادية متطورة غير المعمول بها حاليًا؟