عادت الغربان الأمريكية لتنعق بالمنطقة العربية من جديد، ورسم أحد تقاريرها الموجهة صورة قاتمة عن أوضاع المغرب العربي الحالية، محذرة أو متنبأة، بما وصفته بـ”موجة مدمرة” من الربيع العربي، تبدأ بموريتانا ثم الجزائر وربما يليهما المغرب.
وحذر التقرير الذي أعده مركز “إنتربرايز” نقلاً عن ضابط في الجيش الأمريكي، والمسؤول عن الجنود الذي سيتم إرسالهم إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من احتمال تعرض موريتانيا لموجة عنف وعدم استقرار، وإمعانًا في بث الرعب في نفوس المواطنين من التعاطي مع أي محاولة للتغيير أو الثورة على النظام القمعي الحالي، استتبع التقرير بيان حذرت فيه السفارة الأمريكية رعاياها من أخطار محدقة بالبلاد.
معارضة هشة
المتابع للحالة السياسية الموريتانية، يدرك أن قوى المعارضة أو تلك الراغبة في التغيير، لا تتمتع برؤية واضحة، إضافة إلى عدم انسجامها الداخلي، كما أنها تدرك مدى هشاشة النظام الاجتماعي الداخلي، ووقوفه على حافة الانهيار وربما المجاعة، ما يعني أن أي تصعيد سيشكل خطورة على الجميع المعارضين قبل النظام، لذا تسعى جميع الأطراف لمحاولة التوصل لنقطة لقاء دام انتظارها، منذ العام 2011 ، والذي شكل بدايات انتفاضة الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر، وعدد من الدول الأخرى، وتزامنت فكرة قيام “الثورة الموريتانية” على نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز، مع تلك الانتفاضات التي عرفها الشارع العربي، لكن لم يكتب لها النجاح.
أمل جديد
واليوم، وبعد ما يقرب من 5 سنوات على خروج الشباب الموريتاني في حركة 25 فبراير 2011 للشارع، جاء هذا التقرير الأمريكي حاملاً مستجدات إقليمية عربية وإفريقية وداخلية، يتشابك فيها السياسي الاقتصادي والاجتماعي، دفعًا جديدًا لقيام تغيير سياسي محتمل بشكل قريب في البلاد.
ما هو إذن دور الإسلاميين في هذا التغيير، وكيف يمكن ضمانة نجاحه بعيدًا عن أزمة الأحزاب الإسلامية والحكومات في دول الربيع العربي المجاورة؟
تاريخيًا، لم يخل قاموس السجال السياسي بين الإسلاميين ممثَّلين في حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل”، والسلطة من لفظة الحدة والتخوين، وهي الجدلية التي طبعت مسار التعاطي بين السلطة والتيار الإسلامي خلال السنوات العشرة الأخيرة.
الخريطة السياسية
اللافت في الخريطة السياسية الإسلامية في موريتانيا هو التنوع كأحزاب وجماعات ومرجعيات، غير أن حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل”، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، يبقى من أكثرها حضورًا على مستوى الخطاب والأداء والتأثير، وكانت فترة الرئيس السابق ولد الطايع من أكثر الفترات توترًا مع الإسلاميين، فقد زج بالكثير منهم في السجون والمنافي، وتم حلُّ نواديهم.
وكانت أحسن فترتين سياستين في مسار الإسلاميين هما فترة الرئيس الأسبق ولد هيداله، التي تم فيها تأسيس الجمعية الثقافية الإسلامية، وهي أبرز واجهة سياسية وفكرية وتنظيمية للإسلاميين، أما الثانية فكانت فترة الرئيس ولد الشيخ عبد الله، التي تم الاعتراف فيها بحزب تواصل، ودخل بعض أعضائه حكومة لم تعمر طويلاً، والآن يسود الترقب والتوجس في العلاقة بين الجانبين، في عهد الرئيس الحالي ولد عبد العزيز.
العلاقة الحالية بين ولد عبد العزيز والإسلاميين يمكن وصفها بالتوتر الحذر، فكلا الطرفين ينتظر سقطة الآخر، لكنه لا يستطيع المغامرة باختلاق مواجهة حاليًا، تدمر النسيج الاجتماعي المدمر أصلاً
توتر حذر
العلاقة الحالية بين ولد عبد العزيز والإسلاميين يمكن وصفها بالتوتر الحذر، فكلا الطرفين ينتظر سقطة الآخر، لكنه لا يستطيع المغامرة باختلاق مواجهة حاليًا، تدمر النسيج الاجتماعي المدمر أصلاً، وتقضي على الجميع، ويخشى الجميع من الانزلاق نحو خيار المواجهة والصدام، خصوصًا وأن خيار التحالف والتطبيع يستبعده ماضي العلاقات والثقة المهزوزة بين الطرفين.
نار تحت الرماد
إذا كان هذا هو تاريخ العلاقة بين الجانبين على مر التاريخ، فإن باقي قوى المعارضة لم تكن ذات تأثير يذكر، حتى إن رأس الحكم على مدى السنوات الماضية لم يلتفت إلى أي منها ولو بالعتاب، على أي محاولة للتأثير في الشارع، كونه يعلم تمامًا حجمها ومدى ضآلة هذا التأثير، لكن مع التقرير الأخير للمركز الأمريكي، والتنبؤات بربيع عربي قريب في موريتانيا، بدأت نار تظهر من تحت رماد السكون، وبدأت عناصر المعارضة المشرذمة في البحث عن نقاط اتفاق، علها تلحق بقطار التغيير المسرع بالمنطقة، معتمدة على تغيرات عدة داخلية وخارجية قد تدفع بالأمور إلى حيث تريد.
الفقر والفساد
وتبني المعارضة – التي تندرج معظمها الآن تحت ما يسمى “منسقية المعارضة الديمقراطية”، وهي تكتل من تسعة أحزاب تأسس نهاية 2009 ، ويضم تكتل القوى الديمقراطية والتجمع الوطني للإصلاح والتنمية الإسلامي واتحاد قوى التقدم اليساري، فضلاً عن أحزاب أخرى صغيرة، بالإضافة إلى قوى شبابية ظهرت في الساحة في العام 2011 تمثلها “حركة 25 فبراير” – طموحاتها على عامل الأزمة الاقتصادية الحالية بالبلاد، والمتمثلة في انتشار الفقر، وانعدام فرص التنمية والفساد، وجميعها كانت من أهم أسباب التغيير في كل الدول العربية التي قامت فيها ثورات الربيع العربي مؤخرًا.
وتعاني موريتانيا من الانتشار الكبير للفقر، والتضخم والارتفاع المبالغ في لأسعار المواد الأساسية والبنزين، وكذلك أزمة البطالة الحادة بين حملة الشهادات، وأصبح التظاهر لأسباب متعلقة بالظلم والفقر والبطالة، مشاهد يومية معتادة أمام “القصر الرمادي” قصر الحكم، دون أن يشعر النظام بأدنى تهديد، معولاً على أن العامل المشترك الوحيد بين تكتل المعارضة، هو عداؤها للنظام القائم، دون أن توحدها رؤية مشتركة لكيفية الخلاص منه، أو أن تكون لديها بدائل سياسية جاهزة في حالة نجاح مساعيها في الإطاحة به.
الخلاصة
نجح النظام الحاكم في موريتانيا في تخطي أزمة الموجة الأولى للربيع العربي، مستغلاً تشرذم المعارضة والانقسامات الاجتماعية والعرقية والإثنية واللغوية والإقليمية بينها، ونجح ولد عبد العزيز في بناء استقرار هشّ في البلاد، لكن هذا لا يغفل أن البلد يعاني من معوّقات كثيرة قد تدفع بها في أي لحظة للهاوية.
الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية بموريتانيا حاليًا، تؤهلها بقوة للدخول في دائرة دول الربيع العربي
وبالتالي فإن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية بموريتانيا حاليًا، تؤهلها بقوة للدخول في دائرة دول الربيع العربي، لكن في المقابل فإن ضبابية الرؤية وتشتت الجهود عند قوى التغيير والمعارضة المشرذمة وعدم انسجامها الداخلي، يمثل مصدر أمان للنظام القائم، رغم ارتفاع نبرة هذه القوى ضد النظام.. فهل يقود الإسلاميون مسيرة المعارضة نحو التوحد .. أو بمعنى آخر .. هل يكون لاختيار الحزب الإسلامي اسم “تواصل” معنى في قراراته.