لقد استطاع السيسي أن يخدع قطاعًا عريضًا من الجماهير خرجوا لتفويضه وصدقوه حين زعم أن انقلابه على التجربة الديمقراطية ووأدها في مهدها راجع إلى الخوف على الوطن من السقوط في الهاوية، وعلى الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه!
وفي الوقت الذي ضنَّوا فيه على الرئيس مرسي لاستكمال فترته الرئاسية وخرجوا عليه بعد عام واحد من انتخابه، منحوا نظام الانقلاب فرصته كاملة لأكثر من ثلاث سنوات، تحملوا خلالها الكثير من ضغوط المعيشة وسوء الحال، وتردي الأوضاع الاقتصادية، والسياسية والأمنية، حتى تم تعويم الجنيه وتحرير سعر الصرف مقابل الدولار، ورفع الدعم عن السلع الغذائية والبترولية، تنفيذًا لشروط صندوق النقد الدولي.
لقد أغلقت سلطة الانقلاب بقراراتها الأخيرة جميع نوافذ الإصلاح، وضيعت كل وسيلة لتحسين معيشة المصريين، وانكشفت وعودهم البراقة، ولم تعد تنطلي حيلهم على أحد، وخاصة الذين خرجوا بالأمس يهتفون لها بالتأييد، واستهلكوا كل فرص التغيير للأفضل وفشلوا في الخروج بالوطن إلى بر الأمان.
واتضح للجميع بأن النظام يعادي كل تطور وكل إصلاح، وأنه لم يعد ينفع معه انتظار ولا استعطاف ولا ثناء، ولم يعد هناك سوى اليقين الثوري والعودة إلى زخم الثورة كحل وحيد وناجع، عبر أمواج الثورة السلمية الهادرة لتزيح أمامها أنظمة الاستبداد والفساد.
يقول الشاعر اليمني الثائر محمد محمود الزبيري: “إن اليقين الثوري هو الأساس للثورة العميقة الصادقة، وهو العامل الأول لصمودها واستمرارها، ولن يكون اليقين يقينًا إلا بعد جهد يبذل لدراسة الموقف وتجربة كل الوسائل غير الثورية علها تنجح في إحداث التطور المطلوب، والثورة لا تكون حقًا ولا عدلًا ولا وطنية، كما لا تكون ناجحة، إلا يوم تكون ضرورة محتومة لا مفر منها”.
إن هذا اليقين الثوري ما كان ليحصل إلا بعد المرور على كل تلك التجارب الفاشلة، وإعطاء الوقت الكافي للتغيير، وإمهال النظام الفرصة بعد الفرصة! وقد وقفت معه كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، ومن خلفه وقفت دول عربية وغربية داعمة ومؤيدة بسطت يدها بالمساعدة المالية بأكثر من 80 مليار دولار، ومساعدات لوجستية وإمدادات بترولية.
ومع كل هذا الدعم، وكل تلك المساعدات، باء النظام بالفشل، بعدما لعب بكل أوراقه، وتبين بأنه لا يملك حلًا، ولا يعرف طريقًا للخلاص من الأزمات التي تضرب الوطن والمواطن!
يقول الزبيري: “ولقائل أن يقول: لو أنكم ترفقتم بهم أو أرضيتم غرورهم لتطورت البلاد على أيديهم في سرعة ويسر، ولجنبتم البلاد كل ما أصابها من الآلام والأحزان والخراب والموت من جراء الحركات الثورية التي تتابعت وراء دعوتكم”، ويجيب: “ولن يكون بأيدينا مستند للرد على هذا الكلام يثبت مبلغ الجهد المترفق لولا وثائقنا في شعر المديح الذي صنعناه بأسلوب لو توجهنا به إلى الشياطين والأبالسة لربما حولناهم إلى سبيل آخر أو جعلنا منهم ملائكة وأبطال”.
ولكن كيف نظن بأن يكون هذا النظام هو الحل وهو ذاته المشكلة؟! وكيف يكون الدواء وهو الداء؟! وكيف يكون المستقبل وهو نفسه الماضي التعيس؟! وكيف يُشرق بالنور وهو نفسه ظلمات الليل البهيم؟! وكيف يَعد بالبناء وعلى بيته عشش العنكبوت وباض وفرخ؟!
ويزيد الزبيري “لقد ولدت الثورة، ومن يومئذ وجدت الموازين الثورية التي ينتقد المواطنون ويحاسبون على أساسها، لقد قرر الأحرار اليأس من الانقلابيين، وأيقنوا أن بلادهم لا يمكن أن تتغير بالوعود وأن حقوق الشعوب لا يمكن أن تُنال بالاستجداء وأن الذين ألفوا أن يكونوا آلهة فوق الشعب لا يمكن أن يسمحوا للشعب أن يفتح عينيه فيراهم على حقيقتهم، لا بد لكافة طبقات الشعب الواعية أن تقرر قرارًا حاسمًا وأن تحدد موقفها من المواعيد المعسولة التي قطعت لها ولآبائها وأجدادها منذ ستين عامًا”.
لقد طفح الكيل وشب الصغير وفهم المخدوع كذب الكلام المعسول وأنها “خدعة واحدة ذات لون واحد يواجه بها الحكام كل الأجيال منذ عشرات السنين فتخدر أعصابهم وتشل قواهم، وبهذه الخدعة وحدها تحطمت طاقات الشعب الجبار وأصبح كيانًا مفلوجًا معطلًا عن الحركة وعن الشعور عاجزًا عن ممارسة الإرادة ومجابهة الحياة”.
ويضيف الشاعر: “إنها عملية تخدير، نظرة فابتسامة فإمرار الأصابع المقدسة على الكتف الذليل فإذا بالرجولة تنهار والعقيدة تتبخر ومأساة الملايين كلها تتلاشى، وإذا بالعضو الإنساني المخدر يفقد الإحساس حتى ولو تحولت الابتسامة إلى طعنة في ضلوعه”.
والأمل معقود على الشعوب، وإنما تحتاج إلى من يغرس فيها اليقين في الثورة السلمية، وينفخ فيها من روحه الثورية، وفي هذا يقول سيد قطب: “والشعوب تملك حين تريد، تملك أن تسبب المتاعب للأقوياء ولحلفائهم من أهل البلاد، تملك أن تكلف هؤلاء وهؤلاء عنتًا دائمًا، لا يأمنون معه الاندفاع، ولا يحمون معه ظهورهم من الاضطراب والانتقاض، ولقد آن للشعوب أن تضع حدًا لذلك العبث الآثم، الذي يزاوله حكامها والمستغلون فيها، وأن تقرر مصائرها بأيديها، وتقطع كل يد تعبث بهذه المصائر، لغاية خاصة لا تعني هذه الشعوب”.
ويضيف عن هؤلاء الغلابة:” إن الشر ليس عميقًا في النفس الإنسانية إلى هذا الحد الذي نتصوره أحيانًا، إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء، فإذا آمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية، هذه الثمرة الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن في جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم وعلى حماقاتهم كذلك، وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون”.
ولعلي بعد ذلك لا أكون مسرفًا في الخطأ ولا مبالغًا في التصور حين أقول ما قاله مصطفى كامل أن: “من تساهل ولو مرة واحدة في حقوق بلاده عاش طول حياته مزعزع العقيدة، سقيم الوجدان”.