“حد له شوق في حاجة.. عصر الشهادات والوظائف انتهى مبقاش يأكل عيش، إحنا في عصر تفتيح المخ.. إحنا بالصلاة عالنبي حلوين قوي مع بعض، لكن ساعة الغلط بنطرطش زلط، يعني لحمنا جملي مكندز مانتكلش، وإن إتكالنا عضمنا ركب ماننقرش، وإن اتقرشنا نشرخ في الزور وما نتبلعش، ولو بلعتني، هتلاقينى مر علقم وهتطرشني…” أقوال وعبارات خلدت اسم الفنان الراحل محمود عبد العزيز، والذي وافته المنية مساء أمس السبت عن عمر يناهز الـ70عامًا، وأعطته جواز السفر نحو الجماهيرية والشعبية الجارفة، والتربع على عرش قلوب الملايين من محبيه في مختلف الدول العربية، فأستحق عن جدارة أن يكون “ساحر السينما العربية وفارسها”.
من إبراهيم الرومانسي الحالم في “الدوامة”، إلى جلال الشاب المتزن في “الحفيد” ، قبل أن يصبح أحمد الفارس الوسيم في “حتى آخر العمر”، بعد أن سيطرت عليه المخدرات وعشق الغناء ليكون المزجنجي في “الكيف”، ليشفى بعدها على عز الدين الضابط الوطني في “إعدام ميت”، قبل أن تتلاعب به الدنيا ليتحول إلى سمير الموظف سائق التاكسي في “الشقة من حق الزوجة”، ثم منصور الفوضوي في “الساحر”، إلى أن استقر به الحال ليصبح عبدالملك زرزور البلطجي في “إبراهيم الأبيض”، رحلة طويلة من الإبداع والتألق قضاها الفنان صاحب البسمة الباكية والضحكة الباسمة، والقفشات المميزة والحضور البرّاق.
حياته
وُلد الفنان محمود عبد العزيز في 4 من يونيو 1946، بمدينة الإسكندرية، لأسرة متوسطة، تلقى تعليمه الأساسي بمدارس الحي، قبل أن ينتقل إلى كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية، وهناك بدأ يمارس هواية التمثيل من خلال فريق المسرح بكلية الزراعة.
حصل محمود عبد العزيز على درجة البكالوريوس، ثم درجة الماجستير في تربية النحل، إلا أن علاقته بمجال دراسته كان ينتابها الفتور، حيث سيطرت عليه أحلام التمثيل والدخول إلى عالم الفن، ليتشبث بأول فرصة تأتي له، حيث أسند له المخرج نور الدمدراش دورًا في المسلسل التليفزيوني القديم “الدوام” مع محمود ياسين ونيللي، وذلك في بداية السبعينات، ليدخل بعدها عالم السينما والدراما التليفزيونية من أوسع أبواها مسطرًا اسمه بأحرف من نور في سجلات الفن العربي.
على مدار 40 عامًا كاملة من العمل السينمائي والتليفزيوني، نجح محمود عبد العزيز في إثراء مكتبة السينما العربية بنحو 84 فيلمًا، قام فيها بدور البطولة، بينما أخرج فيلمًا واحدًا هو “البنت الحلوة الكدابة”، وقد تنوعت هذه الأفلام ما بين الرومانسية والكوميديا والواقعية، إضافة إلى عدد من المسلسلات الدرامية، أبرزها “رأفت الهجان”.
للسياسة حضور مميز
لم تغب هموم الوطن ومشاكله وأحزانه وأفراحه عن مخيلة الفنان الراحل، حيث كان لها نصيب بارز في أعماله سواء كانت سينمائية أو تليفزيونية، عكست بشكل كبير جزءًا من الحياة السياسية التي عاشها المصريون في فترات مختلفة، وهو ما جسدته عدد من الأعمال أبرزها “إعدام ميت” و”رأفت الهجان” و”البرئ”.
البداية كانت مع الفيلم السينمائي “إعدام ميت” من إنتاج عام 1985، بطولة محمود عبد العزيز وفريد شوقي ويحيى الفخراني وبوسي وليلى علوي، حيث قام فيه الفنان الراحل بدورين، الأول لضابط مخابرات مصري، والثاني لجاسوس فلسطيني يعمل لحساب المخابرات الإسرائيلية.
ثم يأتي دوره في مسلسل “رأفت الهجان” الذي يعد أحد أبرز الأعمال الدرامية الوطنية في تاريخ الدراما المصرية، والمسلسل يتكون من ثلاثة أجزاء، من إخراج يحيى العلمي وبطولة محمود عبد العزيز ويدور حول ملحمة وطنية في ملفات المخابرات المصرية عن سيرة الجاسوس المصري رفعت علي سليمان الجمال الذي تم زرعه داخل المجتمع الإسرائيلي للتجسس لصالح المخابرات المصرية، وكان له دور فعال في الإعداد لحرب أكتوبر، بدأ العمل على إنتاج أول جزء في عام 1987.
أما فيلم “البرئ” والذي كان من إخراج عاطف الطيب، وإنتاج 1986، بطولة الفنان الراحل أحمد زكي وجميل راتب وصلاح قابيل، فيعد من العلامات البارزة التي تطرقت إلى فضح الفساد السياسي لفترة ما بعد الانفتاح، تحديدًا خلال فترة ما سميت بانتفاضة 17 و18 يناير 1977، حيث تناول الفيلم سياسات القمع والتعذيب التي كان يتعرض لها أبناء الشعب المصري على أيدي الجلادين من أبناء الجيش والشرطة الفاسدين.
أبرز محطاته الفنية
نجح الفنان الراحل محمود عبد العزيز خلال مشواره الفني الممتد طيلة أربعين عامًا في تجسيد واقع الناس ونقل آلامهم وهمومهم من خلال أعماله الفنية، إيمانًا منه أن الفن الصادق هو مرآة المجتمع الحقيقية التي يعكس من خلالها أحلام الناس ومشاكلهم، ويعمل على تناولها بشكل موضوعي بغية حلها، وهو ما انعكس في العديد من أدواره المقدمة، سواء كانت اجتماعية أو فكرية أو سياسية.
وعبر مسيرة فنية أثرت مكتبة السينما العربية بـ84 فيلمًا، كان أولها فيلم “الحفيد” في 1974، وآخرها “إبراهيم الأبيض” في 2009، إضافة إلى 9 مسلسلات درامية، أولها “الدوامة” في 1973، وآخرها “الغول” في 2016، كانت هناك بعض المحطات الهامة والتي كان لها دور مؤثر في حياة الراحل الفنية.
الدوامة والحفيد.. وأهمية البدايات
ترسم البدايات في الغالب ملامح ما يمكن أن يكون عليه مستقبل الفنان، فهي البوابة التي سيتعرف من خلالها الجمهور عليه، وهو ما حدث مع الساحر محمود عبد العزيز، والذي استطاع مع أول فرصة له أن يسجل اسمه ضمن قائمة الكبار في الفن المصري والعربي، وهو ما أهله لأن يكون قبلة للمخرجين والمنتجين بعد ذلك.
البداية تعود إلى عام 1973، فمن حسن حظ الراحل أن تكون بدايته مميزة لدرجة كبيرة، حيث ساقته الأقدار إلى أن يكون أول عمل له مع مخرج التليفزيون الأشهر – آنذاك – نور الدمرداش، الذي اختاره للمشاركة في عمل حقق نجاحًا وانتشارًا كبيرًا إلى يومنا هذا، هو “الدوامة” مع عدد كبير من نجوم تلك الفترة، منهم محمود ياسين ونيللي ويوسف فخر الدين.
ولم يمر سوى عام واحد فقط على النجاح الذي حققه عبد العزيز في “الدوامة” ليجد نفسها مطلوبًا بالاسم من قبل المخرج المتألق عاطف سالم، والذي رشحه للوقوف للمرة الأولى أمام كاميرا السينما، في فيلم “الحفيد” عام 1974، بمشاركة كوكبة من النجوم أبرزهم الراحل عبدالمنعم مدبولي وكريمة مختار ورفيق دربه نور الشريف.
ما أجمل أن تكون الأقدار في صف الفنان، ففي الوقت الذي كان يبحث فيه المنتج رمسيس نجيب عن فنان ذي حضور مميز، للقيام ببطولة فيلم “حتى آخر العمر” والذي كان من المقرر أن يتم عرضه تزامنًا مع انتصارات حرب أكتوبر، استقر به الاختيار على الفنان حسين فهمي لبطولة العمل، إلا أنه اعتذر في اللحظات الآخيرة، ما دفع نجيب إلى ترشيح محمود عبد العزيز للقيام بهذا الدور، وبالفعل قدمه بنجاح لفت أنظار الجميع، وكان ذلك في عام 1975.
الثمانينات ونضج الموهبة
ما يقرب من 25 عملاً سينمائيًا قام بها الراحل محمود عبد العزيز خلال سبع سنوات فقط، بدءًا من 1973 وحتى نهاية السبعينات، وبالرغم من ثراء هذه الفترة من حياة الفنان، إلا أن عقد الثمانينات كان الأبرز في تاريخه الفني بشهادة النقاد، حيث نضجت موهبته، وقدرته على اختيار أفلامه بعناية فائقة، والتي عكست قضايا المجتمع حينها.
في عام 1982 قدم فيلم “وكالة البلح”، والذي حاول فيه الابتعاد تمامًا عن فكرة الشاب الوسيم، حيث أدى دور “عبدون” رجل يعاني من مشاكل في النطق والحركة، يهيم عشقًا بالمعلمة نعمة الله، ويرضى بمعاملتها الجافة مقابل أن يظل إلى جوارها، إصافة إلى قيامه ببطولة فيلم “المعتوه”، حيث القيام بدور شاب مهووس بالنساء، ثم يصاب بعجز جنسي بسبب حادث سيارة، فيقرر الانتقام من المرأة التي تسببت في هذا الحادث.
الكيف.. مزاجنجي السينما
يعد فيلم “الكيف” من أبرز العلامات في حياة محمود عبد العزيز خاصة والسينما العربية عامة، كونه الفيلم الأكثر حضورًا في حياة المصريين، لما به من كمية كبيرة من الجمل والعبارات والألفاظ غير المفهومة والتي فرضت نفسها على حديث الشباب في الشوارع والميادين منذ منتصف الثمانينات وحتى الآن.
والفيلم يناقش قضية المخدرات وتأثيرها على المجتمع من كتابة محمود أبو زيد وإخراج علي عبد الخالق وبطولة يحيى الفخراني ومحمود عبد العزيز ونورا، من إنتاج عام 1985، وتدور قصته عن شقيقين من أسرة محافظة لأب تربوي، نجح الشقيق الأكبر (صلاح أبو العزم – يحيى الفخراني) في حياته العلمية والعملية حيث تخرج في كلية العلوم قسم الكيمياء وعمل بإحدى الشركات الحكومية بعد حصوله على درجة الدكتوراة، يعيش حياة هادئة مع زوجته وابنه الوحيد، وبرغم ظروف المعيشة القاسية وراتبه الحكومي الذي يقضي احتياجاته الشهرية بصعوبة بالغة لكنه قانع بما قسمه الله له، أما الشقيق الآخر (جمال أبو العزم – محمود عبد العزيز) فشل في حياته العلمية بعد أن تم فصله من كلية الحقوق فلم يجد غير طريق الضياع مع الموسيقيين والأفراح الشعبية وتجار المخدرات وأصبح مدمنًا للحشيش الذي لا يفارقه أينما ذهب.
كلمات الفيلم خاصة تعبيرات وجمل المزاجنجي، ما زالت تردد حتى الآن، ويصنع منها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي “الكوميكس”، كما أن الأغاني التي قدمها في الفيلم ما زال الجمهور يحفظها عن ظهر قلب.
إبراهيم الأبيض..المحطة الأخيرة
ودع الفنان محمود عبد العزيز حياته السينمائية بدور صغير في فيلم “إبراهيم الأبيض” للمخرج مروان حامد، وبطولة أحمد السقا عمرو واكد وهند صبري، إنتاج عام 2009.
أن تصل لمرحلة من الإبداع تجعلك ترضى الظهور بدور صغير، لكنك تعرف بخبرة السنين أنه سيؤثر في الجمهور، مسألة صعبة، تحتاج لفنان واثق جدًا من قدراته، يعرف أن يفرق بين الغث والسمين، هذا ما حدث مع محمود عبد العزيز في فيلم “إبراهيم الأبيض”، عندما قدم شخصية عبد الملك زرزور، ليختتم بها مشواره السينمائي.
لم يتوقف عطاء الفنان الراحل عند محطة “إبراهيم الأبيض” السينمائية فحسب، بل انتقل إلى نافذة أخرى تروي ظمأه الفني، وتبقيه على قيد الحياة وسط محبيه وعشاقه، فكان التوجه صوب الدراما التليفزيونية.
من العلامات البارزة في مشوار عبد العزيز الدرامي مسلسل “رأفت الهجان” ثم توقف بعدها 12عامًا دون أي عمل تليفزيوني جديد، إلى أن خرج لجماهيره بمسلسل “محمود المصري”، ثم تغيب عن الدراما التليفزيونية لـ8 سنوات، حتى أعاده مسلسل “باب الخلق” عام 2012، وفي 2014 قدم شخصية أبو هيبة في “جبل الحلال”، وكان آخر ظهور له في رمضان الماضي 2016، من خلال مسلسل “رأس الغول”.
الفن والثقافة ينعون المزاجنجي
جاءت وفاة الفنان الساحر محمود عبد العزيز بمثابة الصدمة للكثيرين من النقاد والفنانيين والمثقفين، وبالرغم من معاناته مع المرض لفترة طويلة، إلا أن الخبر جاء فاجعًا للجميع، وهو ما تجسد في نعي المقربين والمحبين له.
الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل في نعيه قال: “محمود عبد العزيز، فنان عظيم في تاريخ السينما العربية، لأنه كان يتميز باختياراته الدقيقة للأدوار والمواقف الإنسانية ذات الطابع الفكري والفلسفي والجمالي”، مضيفًا: لقد أبدع محمود عبد العزيز إلى أقصى مدى في الأدوار الوطنية والدينية والشعبية، كان التنوع هو السمة الأساسية في تجسيداته للنماذج البشرية العاتية، وكان يقدم في هذه التجسيدات مشاهد لا يمكن للمتلقي أن ينساها، بطريقة عبقرية تجعله من صناع الصورة السينمائية المتميزة وأصحاب الأدوار الخالدة، مثل شخصية الشيخ حسنى في “الكيت كات”، وشخصية رأفت الهجان، وشخصياته في المسلسلات التليفزيونية تدخل تاريخ الشاشات العالمية.
وقال الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد: “حزين جدًا لأن محمود عبد العزيز من أجمل الفنانين المصريين، وهو برأيي ظاهرة لن تعوض، فهو من الجيل العظيم، الذي لا يعوض بأي حال، وهو أيضًا إنسان لم يعرف عنه إلا كل خير في علاقاته مع البشر”.
أما الشاعر الكبير إبراهيم داود فقال: “على المستوى الشخصي كنت أقدره جدًا، وكنت دائمًا ما أرى أنه فنان قضى حياته من أجل موهبته، ولم يدع أي شيء إلا أنه ممثل يعرف حدوده، فلم يكن من المطبلين، أو ممن يمشون فى الزفة”.
الكاتب الدكتور يوسف زيدان نعاه قائلاً: “وداعًا محمود عبد العزيز السكندرى المبدع، الفنان والإنسان الجميل، كل الأحبة يرتحلون، فترحلُ عن العين شيئًا فشيء، ألفةُ هذا الوطن”.
كما نعاه الفنان خالد أبو النجا قائلًا: “يا عزيز الفن ستبقى محبوبًا محمودًا أبدا، مصدوم أنني لن أتعلم منك تنصحنى ثانية، مع أنني أتعلم منك بكل مشهد خالد، صدقت وصدقناك عن الموت، البقاء للحب”.
وأخيرًا نعاه الناقد الفني طارق الشناوي قائلاً: “إن عبد العزيز كان فنانًا مبدعًا وأحد صناع البهجة، ممن فتحوا شهية المصريين والعرب على الحياة”، مضيفًا أن الراحل كان عنوانًا مضيئًا في السينما والمسرح والتليفزيون، لما يتمتع به من مساحة إبداع مترامية الأطراف”.
وأشار إلى أن عبد العزيز من القلائل الذين امتلكوا قدرة على الأداء بتنوع متناهٍ وقدرته الجماهيرية الساحرة مع الجمهور كانت حالة خاصة جدًا، فهو فنان بدأ من الصفر حينما كان يتقاضي 4 جنيهات فقط في أول عمل فني له مع نور الدمرداش في أدوار قصيرة.
وهكذا وبعد مسيرة عملاقة من الأعمال السينمائية والتليفزيونية التي أثرت المكتبة الفنية العربية، استطاع من خلالها الفنان محمود عبد العزيز أن يخلد اسمه في قلوب الملايين من عشاقه ومحبيه في ربوع الوطن العربي، رحل الساحر الضاحك الباكي، رحل المزاجنجي صاحب الكيف، رحل الملك زرزور، وأبوهيبة، رحل بجسده لكن أعماله وإبداعاته لا زالت باقية لتحفر اسمه بمداد من ذهب في ذاكرة الأمة الفنية.