هل الإسلام مجرد كتاب تاريخي يتجاوزه الزمن ولا يصلح لكي نتخذه مرجعًا في عصر التكنولوجيا الذي نعيش فيه الآن؟ إنه عصر العلم والسرعة، ولهذا سيتعارض مع الدين بشكل كلي في حالة تقدم العلم وتطور المجتمعات وتمدينها، ولهذا سيتحول الدين من كينونته المقدسة إلى تاريخ، أو لمجرد فلسلفة يتبعها من يتبعها، لا يعتبر هذا الرأي المذكور موجودًا في الألفية الحديثة فحسب، بل يمتد إلى عام 1877 وقتما وُلد الشاعر الهندي “محمد إقبال”.
وُلد محمد إقبال في الـ9 من نوفمبر/ تشرين الثاني في عام 1877 لعائلة من التجار في الهند البريطانية في ولاية بنجاب الهندية، لم يكن إقبال مجرد شاعر، بل درس الفلسفة بجامعة كامبيردج في المملكة المتحدة، ليتأهل بعد ذلك في مجال المحاماة في لندن، ومن ثم حصل في نهاية مساره الأكاديمي على شهادة الدكتوراة من جامعة ميونيخ عن أطروحته الخاصة بتطور ما وراء الطبيعة في بلاد فارس.
كانت أوروبا محطة شديدة الأهمية في مسار حياة الشاعر محمد إقبال، حيث غيّرت في كثير من مواقفه وآرائه السياسية وكذلك الدينية، كان من الممكن أن يحفز وجود إقبال في أوروبا على تأثره بالأفكار الاستعمارية وانحيازه المستقبلي لها، إلا أن ما حدث معه بالفعل كان يخالف ذلك تمامًا، حيث وجد في نفسه القدرة على تحمل مسؤولية الدعوة إلى الإسلام من جديد في خضوع العديد من الأقطار المسلمة حول العالم تحت حكم الاستعمار الغربي، الذي رآه الشاعر تهديدًا لا يستهان به للقضاء على الثقافة الإسلامية في تلك الأقطار بشكل جذري.
مال إقبال في شعره إلى التركيز على القومية الهندية، إلا أنها كانت هي الأخرى من المواقف التي قضت عليها فترة وجوده في أوروبا، حيث تغيّر موقفه كليًا تجاه مبدأ القومية بشكل عام، وآمن بأن نهاية القومية هي الإمبرالية لا محالة، والتي ستؤدي بالتبعية إلى الفاشية المدمرة كما يراها الشاعر الهندي.
بدأ إقبال مسيرته الشعرية بعد عودته من أوروبا، واشتهرت أشعاره باللغتين الفارسية والأردية، كتب عنه الكاتب المصري عبد الوهاب عزام في كتابه “محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره” بأنه شاعر ذو فلسفة فريدة في شعره، فقال عنه بأن الفن عنده هو الذي يمد الإنسان بإلهامٍ لا ينقطع، ويقوِّي ذاتيَّته التي هي مقصود الحياة، وهذه الروح أسهمت في جعل كثير من قصائده أقرب إلى الفلسفة منها إلى الشعر.
أساس فلسفة إقبال الذاتية، تدور آراؤه على محورها، وتتفرع أفكاره من أصلها، ولكن لفلسفته أوجهًا كثيرة، منها ما أوضحه في شعره وما تجلى في دواوينه، ومنها ما أوضحه في لغة الفلسفة لا الشعر فقط، في أثناء إلقائه لمحاضراته وندواته، منها أهم ما كان يلقيه في مدارس الهند بعد عودته من أوروبا، والتي قام بتثبيتها بعنواين محددة وإلقائها في عديد من المدارس، كان من بين تلك العنوانين” العلم والدين، والوحي الديني في معيار الفلسفي، وإدراك الله ومعنى الصلاة، والنفس الإنسانية حريتها وخلودها.
تم ترجمة العديد من محاضراته ليتم قراءتها في أكسفورد، كما تم تقديمها دومًا من المحاضِرين بـ”ٌالإسلام دين يُعنى بالعمل أكثر مما يُعنى بالفكرة” بحسب ما ورد في ترجمات عبد الوهاب عزام في كتابه المذكور سابقًا، حيث اشتهرت محاضرات محمد إقبال بتجديد الفلسفة الإسلامية مراعيًا في ذلك السنن التي سنّها الإسلام بخصوص الفلسفة، وفي نفس الوقت مراعاة أحدث ما وصلت إليه المعرفة الإنسانية.
رفض إقبال فكرة تجاوز الزمن للدين، فكانت له أسئلة عن طبيعة الكون الذي نعيش فيه، وكيف لا بد لنا من أن نكون بالنسبة إليه وبأية معايير، وأي مكان نشغل؟ فكان الحل كما طرحه في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام” أن نستخدم في مباحث الدين المنهج العقلي البحت معللًا أن روح الفلسفة هي روح البحث الحر، تضع كل سند موضع الشك وقد ينتهي بحثها إلى الإنكار أو إلى جوهر الدين.
فأوضح في كتابه بأن الإيمان في حقيقته يشبه رضا النفس عن علم ومعرفة، والدين من حيث إنه عقيدة، فهو نظام أو مجموعة من الحقائق العامة ذات تأثير في تكييف الخلق، إذا صدق الاعتقاد بها، وفهمت فهمًا واضحًا قويًا.
“دعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي المتحرر مع احترام الماضي”
أوضح إقبال المهمة المطروحة على المسلم المعاصر ذات حجم لا متناهٍ، لأن عليه أن يعيد التفكير في مجمل النظام الإسلامي دون أن ينقطع كليًا مع الماضي، وهو ما ليس بالمهمة السهلة أبدًا، ليتابع بأن الطريق الوحيد أمامنا يتمثل في التعامل مع العلوم الحديثة لكن بموقف مستقل يتلاءم مع ما نؤمن به في ذلك، مع مراعاة وتقدير التعاليم الإسلامية على ضوء ما تمنحه هذه العلوم من إنارات.
على الرغم من دعوة إقبال لتلك الفلسفة منذ عقود مضت، إلا أنها تلائم ما آلت إليه الأوضاع في المناطق الإسلامية الآن، حيث أوضح الشاعر في كتابه ظاهرة السرعة الكبيرة التي ينزح بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب، حيث يميل العالم المسلم الآن وفيما قبل إلى الانحياز الكامل لمظاهر الثقافة الأوروبية التي تبدو براقة في عيون المسلمين، فعلى الرغم من تركيز الثقافة الأوروبية بل تطبيقها لكثير من المبادئ التي يحث عليها الإسلام كذلك، إلا أن الانحياز الأعمى الذي يتبعه المسلمون يجعلهم يفقدون المعنى الحقيقي للتنصل من ثقافتهم الأصلية والانحياز لثقافة لا يعرفون كينونتها الحقيقية.
ليس كل شيء مقدر كما يحب أن يقول المسلمون!
لا يؤمن محمد إقبال في فلسفته بكون القضاء والقدر عبارة عن نفاذ أمر ثابت متحجر يفعل فعله من الخارج، وإنما ذلك هو تأويل مغلوط، ليؤكد أن القدر في الإسلام هو الزمن، فهو المدى الداخلي لشيء ما ومجمل إمكانياته القابلة للتحقق، وإذا ما كان الزمن شيئًا واقعيًا، فإن كل لحظة من لحظات الحياة الواقعية ستكون أصيلة إذًا وليست شيئًا مبهمًا وثابت النفاذ.
“محمد إقبال” في أغاني أم كلثوم
أتيح ذات مرة لكوكب الشرق أم كلثوم الاطلاع على ترجمة الشيخ الصاوي شعلان لقصيدة حديث الروح من ديوان “صلصلة جرس” للشاعر محمد إقبال وقامت بغنائها في إحدى حفلاتها بعد ذلك.
تأثير أشعار “محمد إقبال” على السياسيين الإندونيسيين قبل إعلان الاستقلالية
لم يقتصر تأثير النزعة الإحيائية التي تبناها محمد إقبال على المعرفة الإسلامية فحسب بالنسبة لإندونيسيا قبل الاستقلال، فقد أثرت على كل من السياسة والأدب، حيث برزت فلسفة إقبال الإسلامية في أحاديث الساسة في إندونيسيا في مناضلتهم للسيطرة الاستعمارية، فقد كان من المألوف سماع اسم محمد إقبال في كل من الراديو والتلفاز في أوائل عام 1945 في بدايات استقلال إندونيسيا.
ساعدت أفكار الشاعر المفكرين الإندونيسين على نبذ مبادئ العلمانية التي حاول المستعمر الهولندي زرعها في المجتمع الإندونيسي، واستطاعوا بناء مجتمع إسلامي بعد الاستقلال، حيث كان اسم محمد إقبال بمثابة إلهام لهم ومنبع الحماسة لمضيهم نحو مجتمع إسلامي استطاع الحفاظ على ثقافته مع مواكبة التطور في المعارف الإنسانية دون فقدانه لهويته وأصالته.
توفي ودُفن الشاعر في الـ21 من أبريل/ نيسان في لاهور(باكستان حاليًا) في عام 1938، بعد رحلة طويلة مع المرض، وعقب ذلك بعامين صوتت العصبة الإسلامية “الحركة التي عمل بها إقبال من أجل تشكيل دولة خاصة بالمسلمين في الهند، لفكرة تأسيس باكستان التي تحولت إلى واقع عام 1947، وتم اعتبار إقبال أبا باكستان ويحتفل الباكستانيون سنويًا بيوم إقبال في ذكرى ميلاده.