ترجمة وتحرير نون بوست
تتواصل عملية تحرير ثاني أكبر مدينة في العراق بهدف تحريرها بالكامل، لكن في الأثناء ما زالت مدينة الموصل ترى تاريخها الذي يبلغ عمره ثلاثة آلاف سنة يداس تحت أقدام عناصر تنظيم الدولة.
من يجد حلاً لهذا اللغز؟ هذه المدينة التي تجمع بين قبور الأنبياء (عليهم السلام)، وتمثل مصدر إلهام الرسام الفرنسي ديلاكروا، وتنتج أفخر أنواع القماش، وفي نفس الوقت هي أكثر المدن حزنًا في العالم؟ الإجابة نراها يوميًا في الصحف وهي طبعًا: مدينة الموصل، وقليلة هي تلك المدن التي تتميز بتاريخ عريق مثل الموصل.
ولكي نغوص في تاريخ هذه المدينة، علينا أن نرجع ثلاثة آلاف سنة إلى الخلف، عندما كان يطلق على الموصل اسم “نينوى” ما يعني أننا نتجه نحو نهاية حضارة بلاد ما بين النهرين (دجلة والفرات)، وبداية الحضارة الآشورية التي ازدهرت كثيرًا بين القرنين الثامن والتاسع قبل الميلاد.
تم تسمية الحضارة الآشورية بهذا الاسم نسبة لمدينة آشور (شمال العراق حاليًا)، وقد أسست عاصمتها في الطرف الأيمن من نهر دجلة، حيث نجحت بعد ذلك في التوسع على حساب عدة ممالك أخرى، أهمها مملكة يهوذا في فلسطين، لتصل إلى مصر، ووقع ذكر مدينة الموصل في الكتب المقدسة، حيث إنها تعتبر مسقط رأس سيدنا يونس عليه السلام، أين عاش ودفن فيها وقبره موجود في مسجد “يونس”، الذي دمرته أيادي تنظيم الدولة.
ويعتبر “آشور بانيبال” أقوى إمبراطور آشوري، وقد حكم تقريبًا بين 669 – 626 ق. م، وقد لقب بملك العلم لاحتواء بلاطه الملكي على قرابة 200 ألف دفتر علمي، إضافة إلى ذلك كان الإغريق يكرهون هذا الإمبراطور الآشوري إلى درجة أنهم وصفوه بالديكتاتور الفاسق والمخنث، وبعد وفاته بعدة قرون وقع تخليد ذكراه في اللوحة الفنية الشهيرة “موت ساردانبال” للرسام الفرنسي “ديلاكروا”.
مات الإمبراطور “آشوربانيبال” تاركًا مملكته عرضة لهجمات خارجية، حيث قام “سايروس” ملك الفرس بغزو الإمبراطورية الآشورية سنة 539 قبل الميلاد، ثم تلاه “الإسكندر المقدوني” سنة 331 ق.م، ثم الأشكانيون والرومان، قبل أن يسترجعها الفرس مرة أخرى.
نحن الآن نعيش بين القرنين الرابع والخامس ميلادي، تحديدًا عندما اتخذت روما المسيحية كديانة رسمية لها، لكن لم تنجح الكنيسة الرومانية في لم شمل باقي مسيحيي الشرق تحت رعايتها، نتيجة تضارب التخمينات في حقيقة العقيدة المسيحية، مثل هل مريم أم لإله أم لا؟ وهل المسيح إله وبشر أم إله فقط؟ هذه النزاعات العقائدية تسببت في انشقاق مسيحيي الشرق عن الغرب فأسسوا كنيستهم الخاصة.
والآن بعد احتلال مدينة الموصل من قبل تنظيم الدولة، بات هذا التنظيم جزءًا لا يتجزأ من تاريخ هذه المدينة، فأول أهداف “الخليفة” أبو بكر البغدادي هو تدمير تاريخ الموصل العريق، ولشدة تأثر سكان الموصل بتاريخهم كانوا يطلقون على الطائفة المسيحية المقيمة بالموصل اسم الآشوريون، وكان يقع تشبيه الطقوس المسيحية بالطقوس السريانية، نسبة إلى اللغة الأرمينية التي تعتبر أقدم اللغات السامية لعصور ما قبل الميلاد.
وخلال القرن السابع الميلادي، قام العرب بغزو نينوى التي أطلقوا عليها بعد ذلك اسم “الموصل”، وكانت هدفًا مهمًا للعرب بسبب موقعها التجاري المهم، حيث كانت الموصل تربط بين عدة طرق تجارية إضافة إلى أنها كانت مدينة مزدهرة اقتصاديًا ومشهورة بإنتاج الأقمشة الفاخرة، والمصدر الأول في ذلك الوقت للنسيج القطني نحو العالم الغربي، بعد ذلك عاشت المدينة تحت الحكم العباسي، ثم تحت الوصاية التركية قبل أن تجد نفسها في مرمى هجمات المغول، إلى أن تستقر خلال القرن السادس عشر تحت حكم الإمبراطور العثماني سليمان القانوني.
عاشت المدينة تنوعًا ثقافيًا وعقائديًا كبيرًا خلال الحكم العثماني، حيث أصبحت الموصل وبغداد والبصرة أكبر المدن العراقية وموطنًا لجاليات يهودية وأخرى مسيحية إضافة إلى الأغلبية المسلمة من السنة، مع وجود طائفة شيعية، دون أن ننسى الأكراد الذين يعتنقون الإسلام لكنهم ليسوا عربًا.
وكما حصل سابقًا للإمبراطورية الرومانية، فإن الإمبراطورية العثمانية لم تقو على مجاراة هذا التنوع الإثني الذي تسبب بنشوب نزاعات داخلية، وساهم في تراجع السيطرة العثمانية على هذه الأقاليم.
وبعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، قام الفرنسيون والإنجليز بتقاسم الأقاليم العراقية سنة 1916 بموجب اتفاقية “سايكس بيكو”، التي جعلت مدينة الموصل تحت الهيمنة الفرنسية، لكن بعد نهاية الحرب ضم الإنجليز مدينة الموصل لباقي المدن التي احتلوها كالبصرة وبغداد، ليعلنوا بعد ذلك رسميًا احتلالهم لكامل العراق، ونجح الإنجليز في إسقاط الموصل للظفر بمخزونها النفطي، معتمدين على أحد عملائهم في المخابرات العسكرية وهو المسمى “بلورنس العرب”، الذي رأى أنه يسهل إشعال الفتنة في مدينة يعيش فيها سنة وشيعة وأكراد ويهود ومسيحيين مع بعضهم البعض.
المصدر: صحيفة نوفال أوبسرفاتور