منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، واستقبال الرئيس المصري الراحل أنور السادات لشاه إيران محمد رضا بهلوي بعدما رفضت أغلب دول العالم استقباله، والعلاقات بين القاهرة وطهران تكاد أن تكون مقطوعة، وزاد التوتر بين البلدين عندما أطلقت إيران اسم خالد الإسلامبولي على أشهر شوارعها تيمناً بأحد كوادر حركة الجهاد الإسلامي الذي اغتال السادات في عرض عسكري عام 1981، وظلت الأوضاع على هذا النحو بين الدولتين الإقليميتين حتى قيام ثوة يناير 2011، ورحيل حسني مبارك الذي كان يعتبر الحديث عن أي تقارب بين البلدين من المحرمات.
وبعد وصول الرئيس محمد مرسي إلى سدة الحكم عام 2012، عاد الحديث مرة أخرى عن ضرورة تقارب مصري إيراني لحاجة المنطقة إلى ذلك التقارب، لكن التدخل الإيراني في سوريا إضافة إلى عدة ملفات أخرى بعضها يتعلق بالخليج جعلت الفكرة مرفوضة من الأساس، حتى جاء انقلاب يوليو 2013، وأربك ملف العلاقات الخارجية المصرية بسب بحث قائده عبد الفتاح السيسي عن تأييد دولي وإقليمي ومن ثم لم يعد هناك شكلا واضحاً للسياسة الخارجية المصرية.
في هذا الإطار ارتبطت علاقة مصر مع دول المنطقة بالمصالح المباشرة العائدة على النظام الحاكم دون وجود أي بعد استراتيجي لأي تقارب، ومن ثم انعكاس هذا التقارب على ثوابت السياسة الخارجية المصرية، ومنها ما حدث بين القاهرة والرياض الداعم الأول للنظام المصري بعد الانقلاب العسكري، بسبب تقارب ملموس بين مصر وطهران، عدو الرياض الأول مما تسبب في ظهور الخلاف بين مصر والسعودية للعلن، ومن ثم التنبؤ بتوتر جديد بين البلدين بسبب هذا الملف، وهذا ما سنحاول رصده في هذه الورقة حول حقيقة التقارب المصري الإيراني وتداعياته ومستقبله.
أولاً: مؤشرات التقارب:
1ـ الموقف في مجلس الأمن:
مثل تصويت مندوب مصر في مجلس الأمن لمشروع قرار قدمته روسيا حول الوضع في سوريا ويتعارض من التوجهات السعودية والعربية حول بشار الأسد، صدمة للمتابعين للشأن الخليجي، فأول ردود الفعل جاءت من مندوب الرياض الدائم في مجلس الأمن “عبد الله المعلمي” والذي اعتبر أن هذا التصويت أن موقف القاهرة حول تباعد بشكل كبير عن الإجماع العربي، وكان النقد الأكثر حدة من سلمان الأنصاري رئيس اللوبي السعودي في أميركا أو ما يعرف بـ (سابراك) عن استياء وصل حد التشكيك بمكانة مصر في البيت العربي.
ارتبطت علاقة مصر مع دول المنطقة بالمصالح المباشرة العائدة على النظام الحاكم دون وجود أي بعد استراتيجي لأي تقارب، ومن ثم انعكاس هذا التقارب على ثوابت السياسة الخارجية المصرية، ومنها ما حدث بين القاهرة والرياض
هذا الانتقاد هو الأول من نوعه على المستوى الدبلوماسي منذ وصول الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، والذي ظلت الرياض داعمة له بشكل واضح حتى وصول الملك سلمان إلى سدة الحكم في الرياض عام 2015، وبدء عملية عاصفة الحزم التي كانت ترغب الرياض مشاركة مصرية فعالة في هذه العلمية إلا أن الموقف المصري بعدم التدخل لاقى غضباً سعودياً مكتوماً ومنذ لك الحين والعلاقات بين البلدين ليست على ما يرام.
2ـ طلب ظريف حضور مصر في مفاوضات حول سوريا:
طبقا لصحيفة الجارديان البريطانية في شهر أكتوبر فإن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مارس ضغوطاً كبيرة على نظيره الأميركي جون كيري من أجل حضور وزير الخارجية المصري سامح شكري مفاوضات بشأن سوريا مما مثل تغييراً جديداً في الموقف المصري حيال الأزمة السورية، وبالفعل حضرت القاهرة المفاوضات إضافة إلى العراق وتركيا وقطر والسعودية.
هذا الموقف أثار ريبة وحفيظة دول الخليج ولاسيما السعودية التي اعتبرت أن القاهرة باتت في معسكر مناوئ لها فيما يخض الأجندة السورية، كما كشف هذا الموقف عن تنسيق كبير بين مصر وإيران فيما يخص مستقبل بشار الأسد الحليف الأهم لإيران.
3ـ دعم الحوثيين:
على مدار 20 شهراً شن الرياض حرباً ضروساً على الحوثيين وحلفائهم في اليمن من أنصار الرئيس المخلوع على عبد الله صالح، وحتى الآن لم تحسم المعركة، بسبب الدعم المقدم للحوثيين عسكرياً من إيران ودول عربية منها مصر بحسب تقارير صحفية أشارت إلى إمداد القاهرة الحوثيين بزوارق بحرية خلال الأشهر الماضية3، إضافة إلى التعاون الاستخباراتي الكبير بين مصر والحوثيين، فضلاً عن استقبال وفود من الحوثيين أكثر من مرة في القاهرة في ظل الحرب الدائرة مع السعودية وحلفائها.
في صراعها المستمر مع السعودية منذ عقود تحاول إيران أن تفكك خريطة التحالفات التي تنشئها السعودية
وتأتي أهمية الدعم المصري للحوثيين في إطار الابتزاز السياسي والمناكفة مع السعودية، وأيضا فتح علاقة مع إيران باعتبارها حليفاً مهماً للحوثيين وكذلك استخدام التقارب كورقة ضغط في وجه دول الخليج لتقديم مزيداً من الدعم السياسي والاقتصادي له.
4ـ الموقف المصري في سوريا:
منذ الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، وتغيرت نظرة النظام المصري لما يحدث في سوريا، فتحولت السياسة المصرية من داعم للثورة في عهد الرئيس محمد مرسي الذي كان يدفع في اتجاه رحيل بشار بأي شكل من الأشكال، إلى حليف وداعم لبقاء الأسد منذ تصدر عبدالفتاح السيسي المشهد في مصر حتى قبل وصوله للرئاسة عام 2014، فعقب الانقلاب في مصر مباشرة شددت القاهرة إجراءات دخول اللاجئين السوريين بعدما كانت مفتوحة للجميع في عهد مرسي، كما قام نظام السيسي بتقديم دعم عسكري للنظام الأسد في شكل أسلحة خفيفة وذخيرة وهو ما كشفته الصور بعد تحرر بعض المناطق في مدينة حلب من بقايا نظام الأسد إذ عُثر الثور على صناديق من الذخيرة الحية تابعة لمصانع الإنتاج الحربي المصرية.
هذا التغير الواضح في الموقف المصري حيال سوريا رغم أنه بالأساس يخدم فكرة بقاء نظام عبد الفتاح السيسي الذي يحاول أن يرسل رسائل تهديد للمعارضة المصرية وللقوى الإقليمية مفادها أنه في حال ما اذا تم التفكير في عسكرة الثورة المصرية سيصبح الوضع بها أسوأ من سوريا التي تموج بالعنف منذ 5 سنوات، وفي نفس الوقت لا زال نظام الأسد يتمتع بنوع من القوة، لكن في نفس الوقت يعد هذا التطور في الموقف المصري مؤشراً مهماً على تفاهم ما بين طهران والقاهرة لا سيما حول هذه القضية.
5ـ الخلاف بين القاهرة والرياض:
لا يمكننا عزل التوتر الأخير بين القاهرة والرياض عن حقيقة التقارب بين مصر وإيران، فالسعودية بلا شك تعلم أن مصر بقيادة السيسي ترهن سياستها الخارجية على فكرة الاعتراف بالنظام القائم والذي جاء عبر انقلاب عسكري، كما أن إيران تسعى أن تكسب النظام المصري في صفها ولو بشكل تكتيكي من أجل تسجيل نقطة في صراعها مع السعودية ومن هنا يأتي حقيقة التوتر بين السعودية ومصر إضافة إلى عدة ملفات وليس الملف الإيراني فقط.
ولذا يمكننا القول إن التوتر القائم بين السعودية ومصر في الأسابيع الأخيرة، هو مؤشر على تقارب مصري إيراني، كما أنه في نفس الوقت قد يصبح هذا التوتر نتيجة لميل القاهرة إلى معسكر إيران وروسيا في المنطقة.
ثانياً: أهدف التقارب:
ما هي الأهداف التي يسعى الطرفان لتحقيقها من هذا التقارب؟
أهداف إيران:1ـ مناكفة السعودية:
في صراعها المستمر مع السعودية منذ عقود تحاول إيران أن تفكك خريطة التحالفات التي تنشئها السعودية، من أجل خلخلة الصف الذي تتزعمه الرياض، ومن هنا تأتي رغبة طهران في التقارب مع نظام عبدالفتاح السيسي فالقيادة السياسية في إيران وجدت أن الفرصة الآن سانحة من أجل إفشال المحور الذي أعلنت عنه السعودية في مطلع عام 2015 مع وصول الملك سلمان إلى سدة الحكم، ومن هنا وجدت إيران أن توتر العلاقة بين القاهرة والرياض يصب في صالحها، إذا ما نجحت في ضم النظام المصري الحالي المتعطش لأي علاقات جديدة مع دول قوية مثل إيران يضمن بها بقاءه ولو لفترة قصيرة.
فإيران تدرك تمام الإدراك أن التحالف مع النظام المصري القائم الآن هو بشكل تكتيكي ولن يكون تحالفا استراتيجياً، ومن ثم خطوة لابد منها من أجل إحداث مزيد من الضغط على السعودية الخصم اللدود لها.
2ـ دعم النظام السوري والحوثيين:
ثمة أهداف أخرى تسعى إيران إلى تحقيقها في تقاربها مع نظام عبدالفتاح السيسي وهي مزيد من الدعم المعنوي والسياسي والاقتصادي لحليفها بشار الأسد، فطهران تحاول أن تجد داعمين جدد لنظام بشار الأسد الذي أرهق الخزانة الإيرانية التي تعاني بالأساس من أزمات اقتصادية حادة بسبب الحصار الاقتصادي المفروض عليها منذ 2003، وكذلك انخفاض أسعار النفط والتي تسببت في خلل كبير في ميزانيات الدول المنتجة له، ومن ثم تسعى طهران إلى إيجاد داعم جديد، وربما هذا الأمر لم ينطبق على نظام السيسي المنهار اقتصادياً في ذلك الوقت، ولكن الدعم السياسي يعد عاملاً مهماً لطهران التي تحاول أن تروج لفكرة أن قتالها في سوريا ليس على أساس مذهبي، ولكن من أجل محاربة الإرهاب المتمثل من وجهة نظر إيران في الفصائل السنية المسلحة التي تقاتل الأسد، ومن يظل دخول عنصر عربي سني جديد إلى المعادلة في سوريا مكسباً مهماً لإيران التي خسرت كثيراً في الفترة الماضية بسبب دعمها اللامحدود لنظام الأسد.
كذلك الحال فيما يتعلق بالمعركة في اليمن والتي يقودها الحوثيون وأنصار الرئيس اليمني المخلوع علي صالح، فإيران رغم أن مشاركتها في اليمن تقتصر على الدعم السياسي والعسكري، عبر تهريب السلاح للحوثيين، لكن لا يوجد مقاتلين إيرانيين داخل اليمن بشكل واضح حتى الآن، وهي لا ترغب في التدخل في الوقت الحالي بشكل واضح لعدة اعتبارات أبرزها وقف المزيد من العداء من الدول السنية لها، كما أنها منشغلة في الحرب السورية، ومن هنا تأتي أهمية النظام المصري القائم الذي ترغب طهران في جعله رأس حربة لمعركتها في اليمن عبر الدعم السياسي واللوجستي للحوثيين وأنصار صالح لكسب المعركة أو على الأقل لإطالة المعركة لفترة كبيرة تستنزف فيها موارد وطاقة السعودية.
3ـ نشر التشيع:
قد يكون هذا الهدف أكثر أهمية للإيرانيين خاصة وأن أحد أهداف الثورة الإسلامية عام 1979، هي تصدير الفكر الشيعي المغلف بالشعارات الثورية والإسلامية، فمصر بالنسبة لإيران هدف مهم في هذا الإطار لاسيما لوجود أثار آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم والذين تعتبر طهران الحامي الأول للمقدسات التابعة لآل البيت، مثل مسجد الحسين والسيدة زينب وغيرهما من المساجد التابعة لآل البيت.
أيضا للقاهرة تاريخ طويل مع الحركات الصوفية التي تتشابه إلى حد كبير مع الفكر الشيعي فيما يتعلق بالطقوس الدينية وغيرها، ومن هنا يعد نشر الفكر الشيعي من وجهة نظر طهران أمراً ميسوراً في مصر التي تنتشر فيها البدع بشكل كبير لاسيما في الأرياف والأقاليم والتي يتنشر فيها الجهل بشكل كبير.
ففي حال عودة العلاقات بين مصر وإيران قد تصبح زيارة الأماكن الدينية في مصر على رأس أولويات السياحة الإيرانية والتي تنفق عليها عشرات المليارات من الدولارات كل عام في بلاد مثل العراق مثلا، وفي ظل حالة الرغبة لدى النظام المصري القائم في البحث عن موارد اقتصادية ولاسيما في مجال السياحة فقد يسهل على طهران اختراق مصر بهذا الهدف.
لكن ثمة عامل قد يجعل تحقيق هذا الهدف بالكامل أمراً صعباً وهو انتشار الفكر السلفي الرافض للشيعة وأي تقارب نحو إيران بشكل كبير في مصر، وحتى لو وافقت القيادة السياسية على دخل الزوار الشيعة يظل الرفض الشعبي عاملاً مهماً في هذا الاتجاه.
أهداف عسكر مصر:
1ـ ابتزاز دول الخليج:
منذ تغيرت نظرة دول الخليج لنظام عبدالفتاح السيسي منذ عامين تقريباً لعدة أسباب منها ما هو متعلق برفض مصر الدخول في عاصفة الحزم بعد الدعم الكبير من السعودية لنظام السيسي، وكذلك تراجع أسعار النفط بشكل كبير، مما أثر على الدعم الاقتصادي المقدم من تلك الدول إلى السيسي، إضافة إلى رفض الحليف الأهم بالنسبة للسيسي وهي الإمارات أن يخوض السيسي الانتخابات الرئاسية وأن يظل في منصبه المحصن وزيراً للدفاع، والنظام المصري يتعامل مع دول الخليج بمنطق الابتزاز السياسي، فتارة يلوح بفكرة التقارب مع إيران وأخرى يدعم منصات دينية مثل مؤتمر جروزني الذي تسبب في إحراج المملكة العربية السعودية وأثار غضب الكثيرين، وغيرها من المواقف التي قام بها النظام المصري لتوجيه رسالة إلى داعميه السابقين إما الدعم السياسي والاقتصادي وإما التحالف مع العدو اللدود لكم وهو طهران.
2ـ ضمان الدعم السياسي:
اتسمت الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأميركي باراك أوباما بالنأي عن الأزمات التي يعاني منها الشرق الأوسط، والتدخل المحدود في الصراعات الدائرة الآن مثل سوريا أو اليمن، في نفس الوقت أفسحت المجال أمام التوغل الروسي في الشرق الأوسط، والذي بلا شك عظّم دور إيران على حساب السعودية التي توترت علاقاتها بالولايات المتحدة مؤخراً بسبب قانون جاستا، ومن هنا تأتي رغبة النظام المصري في الاعتماد على حليف إقليمي قوي، مثل إيران بعد اعتماده على قوة دولية كبيرة مثل روسيا، ومن ثم يرى السيسي في إيران ضالته التي باتت تتمتع بوضع إقليمي مغاير بعد الاتفاق مع القوى الغربية على تسوية الملف النووي، وأيضا بات السيسي ينظر إلي إيران باعتبارها داعم سياسي قوى ولا تتخلي بسهولة عن حلفائها وهذا متمثل في نظام الأسد الذي تدرك طهران أنه ساقط لا محالة ولكنها في ذات الوقت تقف وراءه بكل ما أوتيت من قوة.
منذ عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وتحاول القاهرة أن ترسم سياستها الخارجية بعيداً عن التقارب مع إيران لما يمثله من حساسية بالغة لدى دول الخليج
فالسيسي يحاول أن يستنسخ نظام بشار الأسد في مصر فإذا ضمن وقوف إيران وراءه بقوة مثل النظام السوري وهذا أمر مستبعد، قد يضرب بمطالب الدول الإقليمية وخاصة الخليج عرض الحائط، بعدم ترشحه لفترة رئاسية جديدة في 2018، وكذلك الحديث عن فكرة استبدال السيسي قبل أن تنتهي مدته الرئاسية بسبب تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في مصر، ومن تأتي رغبته في التقارب مع إيران.
3ـ الدعم الاقتصادي:
يُدرك نظام السيسي أن التسوية التي وقعتها إيران مع الدول الغربية حول ملف طهران النووي في عام 2015، قد غيرت من نظرة الغرب إلى إيران التي كانت توصف بمحور الشر وراعية الإرهاب، وكذلك ما يتعلق برفع العقوبات الاقتصادية عنها، فذلك بات يشغل الكثير من الدول التي ترغب في التعاون الاقتصادي مع بلد نفطية مثل إيران متعطشة لفتح أبوابها للاستثمارات الأجنبية وكذلك التعاون الاقتصادي مع دول العالم.
من هنا تأتي أهمية التقارب المصري مع إيران لرغبة نظام السيسي في البحث عن داعم وممول اقتصادي جديد خاصة فيما يتعلق بالمحروقات التي بات نقصها يمثل أزمة كبيرة للدولة المصرية خاصة بعد وقف شركة أرامكو السعودية لمد مصر بالنفط منذ سبتمبر 2016، وهنا يسعى السيسي للبحث عن داعمين جدد.
ثالثاً: تداعيات التقارب
- إثارة غضب دول الخليج ووقف الدعم
منذ عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وتحاول القاهرة أن ترسم سياستها الخارجية بعيداً عن التقارب مع إيران لما يمثله من حساسية بالغة لدى دول الخليج التي تعتبر أن أي تقارب مصري مع إيران يمثل لها تهديداً كبيراً لاسيما السعودية، التي تعتبر أن إيران هي مصدر الخوف الأول لها، ولكن النظام المصري الحالي الذي يسعى بكل قوة للبقاء دونما تقدير للموقف الإقليمي أو الدولي أو ما يمثله هذا التقارب من توتر في العلاقات مع دول الخليج التي باتت مصدراً مهماً لبقاء النظام المصري لما تقدمه من دعم اقتصادي وسياسي له.
فبلا شك أن التقارب بين القاهرة وطهران سينعكس بالسلب على العلاقات المصرية الخليجية التي لا يمكن للسيسي أن يستغني عنها في الفترة الحالية، نظراً لما تمر به مصر من وضع اقتصادي متأزم، ومن ثم تعد فكرة التقارب بحد ذاتها خطراً كبيراً على مستقبل النظام الحالي رغم ما يبدو أن هذا التقارب في الأساس أحد ضمانات بقاء النظام نظراً للدور الحيوي الذي تلعبه إيران في المنطقة.
- استفزاز مشاعر السلفيين:
ظهر التيار السلفي في مصر بقوة منذ أواخر عهد مبارك والذي راهن على أفكار هذا التيار التي لا تولي اهتماما للعمل السياسي وتركز بشكل كبير على العمل الدعوي والخيري، من أجل تقسيم التيار الإسلامي حتى لا يصبح خطراً على مستقبل حكمه، ولكن أصبح هذا التيار يمارس العمل السياسي، متمثلاً في حزب النور وغيره من الأحزاب التي اتسمت بالطابع الإسلامي منذ ثورة 25 يناير 2011 وحتى الانقلاب العسكري في يوليو 2013، وبعد ذلك مارس نظام السيسي عمليات القتل والاعتقال داخل الصف الإسلامي بحجة الإرهاب لكنه في نفس الوقت حاول إيجاد تمثيل للصوت الإسلامي ولكن تحت سيطرة النظام وهذا ما تمثل في حزب النور الذي ظل على وضعه وبعيدا عن الحظر السياسي مقابل مشاركة رمزية في الاستحقاقات الانتخابية المصري فيما بعد 3 يوليو.
لكن التيار السلفي ينضوي تحت طياته العديد من الفرق والقيادات السلفية ذات التوجه المتعارض في بعض المواقف مع حزب النور، وهذا التيار قد مارس ضغطاً شديداً على النظام المصري إبان حكم الرئيس محمد مرسي من أجل عدم التقارب مع إيران، لما تمثله من تهديد للهوية مصر السنية بحسب أراءهم، ومن هنا يمكن القول أن هذا التقارب مع إيران في حال وقوعه فسوف يستفز مشاعر التيار السلفي، ومن ثم يُصبح في خصومة جديدة مع النظام، وحتى حزب النور نفسه الذي لا يتعارض مع نظام السيسي قد يبدي اعتراضه على مثل هذا التقارب لاسيما وأن المملكة العربية السعودية أحد الداعمين لهذا الحزب نظراً لتقاربه الفكري مع المذهب الوهابي.
- غضب أميركي وإسرائيلي:
رغم أن الولايات المتحدة الأميركة باتت في الفترة الأخيرة تنأى بنفسها عن التوترات التي تضرب المنطقة إلى أن التقارب المصري مع إيران قد يمثل إلى حد كبير تهديداً في المصالح الأميركية الراسخة، فواشنطن تعلم جيداً أن انتقال القاهرة من المعسكر الحليف لها إلى المعسكر الإيراني الروسي، قد يعقد المشهد الإقليمي، كما أنه سيعتبر بوابه لروسيا للتوغل على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وكذلك ما يتعلق بالمؤسسة العسكرية المصرية المكون الأهم لواشنطن في مصر، خاصة وأن تحول مصر إلى المعسكر الشرقي فيما يتعلق بالتسليح قد يزعج الإدارة الأميركية بشكل كبير، أيضا هذا التقارب قد يثير غضب الإسرائيليين الحليف الرئيس لنظام عبدالفتاح السيسي، الذين يعتبرون أن إيران وحلفاءها مثل حزب الله والفصائل الفلسطينية المسلحة هي التهديد الكبير على بقائها، ومن ثم دخول مصر على نفس الخط قد يربك المشهد ويتسبب في خلط الأوراق الإقليمية وهذا ما لا تريده إسرائيل على الأقل في الوقت الراهن.
- تفكك في النسيج المجتمعي لمصر:
تميزت مصر منذ دخولها الإسلام بأنها تتبع المذهب السني إلا في الحقبة الفاطمية التي حاول الحكام فيها بنشر المذهب الشيعي إلا أن صلاح الدين الأيوبي نجح في إعادة المصريين إلى مذهبهم الأصلي، ولكن في حال حدوث هذا التقارب بشكل كامل سيكون أحد مطالب إيران من النظام المصري هو السماح للجماعات الصوفية القريبة من الفكر الشيعي من ممارسة دورها وحلقاتها في المساجد الإسلامية التاريخية والتي قد تتسب في وقوع خلافات بين المسلمين في مصر عندما يتطور الأمر إلى نشر التشيع عبر المراكز الثقافية والدينية الإيرانية التي ستعتبر أحد شروط عودة العلاقات مع القاهرة، ومن ثم يتحول النسيج المصري الواحد إلى عدة مذاهب فكرية ودينية مثل العراق وسوريا من ثم يصبح الوضع أكثر خطورة على مستقبل البلاد.
رابعاً: سيناريوهات هذا التقارب
- السيناريو الأول: تقارب كامل بين البلدين وعودة العلاقات
يستند هذا التصور على أن كلا الطرفان اتفقا على عودة العلاقات بشكل كامل بينهما وانتقال مصر إلى الحلف الإيراني الروسي، ومن ثم الاعتماد على إيران بشكل كامل على حساب التخلي عن دول الخليج التي اعتبر السيسي أنها أصبحت بلا فائدة لنظامه.
تدرك طهران أن الخلاف بين القاهرة والرياض القائم الآن لن يستمر لكون عدم رغبة السعودية في التخلي عن السيسي الآن على الأقل
كذلك استندا إلى هذا التصور قد يقبل السيسي بكامل الطلبات الإيرانية من أجل عودة العلاقات بينهما مثل مشاركة فعالة ودعم قوي لنظام الأسد حتى لا يسقط نهائياً، وكذلك التدخل المباشر في الأزمة اليمنية عبر مناكفة الرياض داخل الحدود اليمينة وتقديم دعم عسكري ولوجيستي للحوثيين، حتى يتمكنوا من حسم السيطرة على اليمن بالكامل، أيضا كل ما يتعلق بالتشيع في مصر قد يوافق السيسي على دخول عشرات المراكز الثقافية الإيرانية إلى مصر ومن ثم تساهم بشكل كبير في نشر التشيع وسط المجتمع المصري.
هذا التصور قد يكون منطقياً بسبب رغبة النظام المصري في ترسيخ مكانته، ومن ثم يمكن أن يقدم أية مطالب للأطراف الخارجية، لكن يظل تحقق هذا السيناريو أمراً مستحيلاً نظراً لما يترتب عليه من أضرار قد تهدد بسقوط النظام نفسه.
- السيناريو الثاني: تقارب محدود
يقوم هذا السيناريو على تقارب ملحوظ بين القاهرة وطهران ولكنه بشكل محدود، بمعني أن يُقيم الطرفان علاقات دبلوماسية، وأن يتفقا في بعض الملفات، لاسيما فيما يتعلق مثلا بالدعم الاقتصادي والموقف في سوريا، وذلك بأن يتزرع النظام المصري بأن يرفض التدخل العسكري المباشر في سوريا لكنه قد يقدم دعماً سياسياً لنظام بشار الأسد، وأيضا فيما يتعلق باليمن فلن يتدخل بشكل مباشر، ولكن قد يحاول أن يقدم دعم مخابراتي ولوجيستي للحوثيين تحت مظلة مؤيدي على عبدالله صالح التي تقاتل بجوار الحوثيين بشكل واضح، ولكن في نفس الوقت يرفض النظام المصري الموافقة على نشر التشيع عبر عدم اعتماد أية مراكز ثقافية أو دينية تابعة لإيران، لكنه يمكنه أن يوافق على استقبال السياحة الدينية من إيران لما يعود على الدخل المصري المتأثر بالأزمة الاقتصادية.
قد يكون هذا التصور قريباً للتحقق لكن الورقة تستبعده، لكونه سيمثل عداءً كبيراً لدول الخليج التي ستقرر في حال ما تقارب نظام السيسي مع طهران على التخلص من السيسي، كما فعلت مع الرئيس محمد مرسي عبر دعم الحركات المناوئة، له ودعم بعض العسكريين في الجيش المصري الذين تربطهم علاقات مع دول الخليج، أو ربما مغازلة الإخوان المسلمين وتقريبهم، وهذا قد يزعج السيسي ويوثر على نظام حكمه، فمن هنا يتم استبعاد هذا التصور.
- السيناريو الثالث: الاتفاق في بعض الملفات دون تقارب
يستند هذا السيناريو على أن الاتفاق الظاهر الحقيقي بين القاهرة وطهران لن يحدث، ولكن ربما يكون هناك بعض التفاهمات حول عدد من الملفات ذات العلاقة بينهما مثلا قد تتوافق الأجندة المصرية مع الإيرانية في عدم التخلي عن نظام بشار الأسد لما يعتبره السيسي أن سقوط بشار قد يكون بداية لسقوط النظام العسكري في مصر، لكن ما يتعلق بالوضع في اليمن سوف يظل السيسي محافظاً على الرابط مع دول الخليج، وربما يقدم دعماً قوياً لدول الخليج في هذا الملف حتى لا يخسرها ويعاديها، في نفس الوقت أن الملف اليمني ليس بذات أهمية كبرى لدى إيران مثل الملف السوري.
وأيضا ما يتعلق بالمركز الثقافية الإيرانية ودخولها مصر، يرى هذا التصور أن الطرفين لن يقدما على هذه الخطوة لحساسية هذا الأمر بالنسبة لقطاع كبير من الشعب المصري ومن ثم ربما تفتح إيران السياحة إلى مصر لكن بشكل محدود فيما يحقق مصالحها المؤقتة، في نفس الوقت قد تساهم إيران في حل الأزمة المتعلقة بالمحروقات المصرية من باب المنفعة الاقتصادية والبيع للقاهرة بسعر السوق العالمي، وهكذا في عدة أمور مشتركة بين البلدين مع ضرورة التعامل مع الحساسيات التي تخص الطرفان.
قد يكون هذا التصور الأقرب للتحقق لعدة أسباب منها، أن كلا البلدين يعلم أن التحالف بينهما تحالفاً تكتيكاً وليس استراتيجياً، كذلك لا يمكن للنظام المصري معادة دول الخليج بأي حال من الأحوال لمدى التأثير النافذ.
- السيناريو الرابع: بقاء الوضع كما هو عليه
الفكرة العامة لهذا التصور تعتمد على أن العلاقات بين طهران والقاهرة ستظل على وضعها الحالي دون الدخول في أي تقارب حقيقي بين البلدين حتى ولو بدت التصريحات بينهما مغلفة بالمغازلة، لعدة اعتبارات أولها أن طهران تعتبر أن النظام المصري القائم لا يمكن له أن يستمر في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية المضطربة، ومن ثم لا يمكن لها الرهان عليه خاصة إذا اقدم على تقارب حقيقي معها، فإن دول الخليج وعلى رأسها السعودية ستعجل بالتخلص من النظام القائم مثلما ساهمت في سقوط نظام الرئيس محمد مرسي، وكذلك فإن نظام السيسي نفسه يعرف أن إيران غير جادة في حدوث تقارب مع القاهرة على الأقل في الفترة الحالية، فلا يمكن له أن يغامر بعدائه للخليج بشكل واضح ومن ثم يفقد الداعم والحليف الأهم في تلك الفترة الحرجة التي يمر بها نظام 3 يوليو.
أيضا طهران تدرك تماماً أن الخلاف بين القاهرة والرياض القائم الآن لن يستمر لكون عدم رغبة السعودية في التخلي عن السيسي الآن على الأقل، حتى وإن كان هناك خلاف بين البلدين في عدد من الملفات لكون ارتباط النظام المصري بدول الخليج ارتباطا مصيراً وأن سقوط نظام السيسي سيمثل نجاحاً للثورة المصرية ويعيد الزخم الثوري في المنطقة، وهو ما ترفضه دول الخليج ولن تلجأ له في الفترة الحالية بأي شكل من الأشكال.
منذ الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، وتغيرت نظرة النظام المصري لما يحدث في سوريا، فتحولت السياسة المصرية من داعم للثورة في عهد الرئيس محمد مرسي الذي كان يدفع في اتجاه رحيل بشار بأي شكل من الأشكال، إلى حليف وداعم لبقاء الأسد منذ تصدر عبدالفتاح السيسي
ورغم واجهة هذا التصور، ومن ثم إمكانية تحققه بشكل كبير، لاسيما بعد الحديث عن رغبة مصرية للتصالح من النظام السعودي، وما كشفته وسائل الإعلام عن وجود وساطات إماراتية لرأب الصدع الذي طرأ على العلاقة بين القاهرة والرياض إلا أن هذا السيناريو يأتي في المرتبة الثانية في فرص التحقق.
خلاصة
مرت العلاقة بين نظام السيسي والسعودية في الفترة الأخيرة بعدة تقلبات، بسبب اختلاف الأجندة المصرية عن الخليجية في سوريا واليمن وكذلك فيما يتعلق بالعراق، ولهذا الاختلاف زاد الحديث عن تحرك مصر وإيران نحو تعزيز العلاقات بينهما وزيادة التقارب فيما يخص بعض الملفات، لكن المتابع للشأن الخليجي يجد من الصعوبة بمكان أن تتحول القاهرة في يوم وليلة إلى الحلف الآخر متحملة أعباء ومخاطر معادة دول الخليج في حال تقربها من إيران.
أيضا طهران هي الأخرى ليست متعجلة في تقارب مثل لهذا لتوقعها بأن النظام المصري الحالي ربما لن يستمر حتى نهاية الفترة الرئاسية الأولي لعبد الفتاح السيسي والتي ستنتهي في 2018، ومن ثم يصبح الرهان عليه رهاناً خاطئاً. لكن بلا شك أن الفترة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والتغيرات السريعة التي يشهدها الإقليم قد تحمل في طياتها الكثير في الفترة المقبلة.
المصدر: المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية