شهدت حكومة الشاهد أول إقالة بعد أشهر معدودة من نيلها ثقة البرلمان، فعصفت الرياح القادمة من الشرق بوزير الشؤون الدينية عبد الجليل سالم علی خلفية تصريح هاجم فيه نظام الحكم في المملكة العربية السعودية واتهامها صراحة بحضانة الإرهاب من خلال نشرها للفكر الوهابي، وهو ما أثار جدلًا في الرأي العام التونسي الذي انقسم بين مدافع عن سيادة الدولة وحرية السياسي في إبداء مواقفه إقليميًا وعالميًا وشاجب ومندّد لموقف الوزير واعتباره ارتجال مجاني يزجّ بالحكومة التونسية في أتون مناكفات خارجية مع حليف استراتيجي طالما أغدق بسخاء وشجّع علی الاستثمار في تونس.
كما أنه لا يخفی علی أي متابع للشأن التونسي هشاشة الدبلوماسية التونسية، ففي شهر سبتمبر من هذه السنة قدّمت تونس اعتذارًا لدولة قطر علی خلفية شعارات رفعها مشجعو نادي الترجي الرياضي التونسي في أثناء مباراة كرة يد مع فريق لاخويا القطري، والتي دارت في الدوحة حين رفع مجموعة من المشجعين لافتة “عندكم المال وعندنا الرجال” وهو ما أثار حفيظة السلطات القطرية وسفارتها في تونس، فسارع السفير التونسي ووزارة الخارجية بتقديم اعتذار عن حادث معزول ولا يمثل الدولة رسميًا.
مشجعو نادي الترجي الرياضي التونسي في الدوحة
والغريب أن هذا الحادث تزامن مع تصريحات السفير الفرنسي أوليفيي بوافر دارفو لإذاعة RTL اعتبر فيها أن مهمته في تونس حماية مصالح آلاف الفرنسيين في تونس التي تعتبر مصدّرًا أساسيًا للإرهابيين في العالم، لتمر هذه التصريحات مرور الكرام دون تنديد أو استنكار رسمي، وهو ما ولّد حالة من الاحتقان في الشارع التونسي، الذي اعتبر أن تونس ما زالت ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، وأن تصريحات سفيرها بمثابة تصريحات مقيم عام، وكيف لا وهو الذي استشاط غضبًا بعد تصريح وزير التربية التونسي الناجي جلول بضرورة اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة ثانية بدلاً من الفرنسية، ليستدرك بعد ذلك ويطمئن السيد دارفو باعتبار اللغة الفرنسية خط أحمر لا يمكن المساس به.
الدبلوماسية التونسية مع الشقيقة ليبيا
لا نبالغ إذا قلنا إن الدبلوماسية التونسية مع الدولة الليبية هي دبلوماسية كوميدية بلون أسود قاتم، ففي سابقة تاريخية قامت وزارة الخارجية سنة 2015 بتركيز تمثيل دبلوماسي مزدوج في طرابلس غربًا لدی حكومة فجر ليبيا باعتبارها حكومة الأمر الواقع المسيطرة علی معبري رأس جدير وذهيبة وازن الحدوديين، وفي طبرق شرقًا لدی الحكومة المعترف بها دوليًا (خلافًا للسلطات المصرية التي دعمت حكومة الشرق علنًا)، وهو ما جعلها محل التندر والسخرية حيث لوّح عمر القويري وزير الإعلام في برلمان طبرق متهكمًا بالاعتراف بدولة الإرهابيين في جبل الشعانبي.
وقد مثل التذبذب سمة الدبلوماسية التونسية منذ الثورة، ولنا أن نستدلّ بصفقة تسليم للبغدادي المحمودي إلی ميليشيات ليبية اعتبرها أغلب المراقبين صفقة دبرّت بليل، ولغياب الدولة في ليبيا وجدت السلطات التونسية نفسها مجبرة علی التعامل مع فصائل وميليشيات ما فتئت تمارس سياسة الابتزاز والمقايضة، فالتفاوض مع دولة تحكمها قوّة القانون ليس كالتفاوض مع دولة متهاوية يحكمها قانون القوّة.
ففي سنة 2015 قامت ميليشيات فجر ليبيا باحتجاز سبعة دبلوماسيين تونسيين، واشترطوا لإطلاق سراحهم الإفراج عن القيادي الليبي وليد القليب الذي وقع إيقافه بمطار تونس قرطاج لورود معلومات تفيد بالاشتباه به في مشاركته بإقامة معسكرات ومعتقلات في ليبيا، ولم تكن هذه الحادثة معزولة بل كانت بداية لمسلسل الابتزاز ومقايضات مع جارٍ يتعامل مع الأوضاع في ليبيا بحذر، حيث ظلّ الدور التونسي في إدارة الأزمة الليبية باهتًا وهامشيًا، فمن المفروض أن تحتضن تونس مؤتمرات المصالحة ومحادثات السلام بين الفرقاء والفصائل الليبية المتناحرة عوضًا عن دول أخری مثل المغرب الأقصی التي احتضنت الحوار الليبي في مدينة الصخيرات.
الدبلومسية التونسية مع الشقيقة الكبری
علی رغم من تاريخية العلاقات مع الجزائر علی مرّ العصور والتي فرضتها عوامل إثنية وجغرافية، فإن العلاقات بين البلدين شهدت فتورًا بعد الثورة التونسية في فجر 2011 وربما يعود ذلك إلی توجّس جزائري من تصدير المد الثوري عبر الحدود مما جعل سلطاتها تتعامل بحذر مع حكام تونس الجدد المحسوبين علی تيار الإسلام السياسي الذي كان طرفًا في الاحتراب الأهلي الجزائري في العشرية السوداء وحصيلتها الدموية، كما أن الخارجية الجزائرية وحسب صحيفة النهار انتقدت مذكرة التفاهم التي وقعت بين الناتو وتونس في محال مكافحة الإرهاب خلال الزيارة الأخيرة للباجي القايد السبسي لواشنطن، وهو ما اعتبره أغلب المراقبين أزمة سياسية صامتة.
الرئيس السبسي في لقاء مع الاتحاد الأوروبي
الدبلوماسية التونسية في منطقة اليورو
تعتبر الدبلوماسية التونسية مع الدول الأوروبية دبلوماسية بروتوكولية بالأساس، فهي مقيّدة بالمراسيم والمعاهدات، وما زالت لم تنفتح علی البيئة السياسية والاقتصادية الفكرية في كل هذه البلدان لمد جسور التواصل خاصة مع المستثمرين ووكالات الأسفار وكبری الشركات السياحية وتشجيعهم علی الانفتاح علی السوق التونسية وتكثيف الحملات الترويجية لفائدة تونس وصورتها الحضارية استئناسًا بتجربة المغرب الأقصی الناجحة.
الدبلوماسية والإيديولوجيا
باعتبار تونس حديثة العهد بثقافة الديمقراطية ونواميسها فإن النخب السياسية لا زالت حبيسة حدودها الإيديولوجية ومغلولة بالأصفاد الفكرية الكلاسيكية، فما زالت الأحزاب الكبری مصطفة وراء معسكرات سياسية عالمية بعينها، وحتی عند وصولهم للحكم فإن هذه التوجهات تخيم بضلالها علی القرارات الدبلوماسية، وليس أدلّ علی ذلك من القرار المتسرّع الذي اتخذه الرئيس السابق المنصف المرزوقي بقطع العلاقات مع الحكم الأسدي في دمشق واحتضان فعاليات مؤتمر أصدقاء سوريا الأمر الذي عطل مصالح آلاف التونسيين في الشام وأعمالها.
وليس بخفي علی أي متابع أن كل الأحزاب التونسية الكبری مرتبطة بشكل وثيق بجهات خارجية، فإن حركة النهضة لا تنفي علاقاتها المتطورة مع تركيا وقطر والمغرب وبعض دول الخليج وبعض الميليشيات الليبية وتقرّ بعلاقاتها الفاترة مع نظام السيسي في مصر وحكام الإمارات، وفي المقابل فإن حزب نداء تونس قد بارك الانقلاب في مصر وربطته علاقات متطورة مع دولة الإمارات المعادية للإسلام السياسي، حتی إن وزير الخارجية الأسبق (قيادي في حزب النداء) الطيب البكوش في حكومة الحبيب الصيد قد سقط في مطبّ الأدلجة عندما دعا السلطات التركية إلی تعطيل العمل بتأشيرة “الجهاد” مع التونسيين.
والحال أن المواطن التونسي غير ملزم بالتأشيرة لدخول الأراضي التركية الأمر الذي دفع بالسلطات التونسية إلی الاعتذار علی خطأ مجاني من أعلی هرم دبلوماسي يجهل أبسط الحيثيات في علاقات تونس مع الدول الأخرى، زد علی ذلك بعض التصريحات المندفعة من بعض نواب البرلمان المعادية لبعض الدول وهو ما يدفع برئاسة المجلس إلی الاعتذار المتكرر وإعادة الجملة الشهيرة “إن التصريح لايلزم إلاّ صاحبه”.
أمام الوضع الأمني والاقتصادي والسياسي الهشّ، تبقی الدبلوماسية التونسية رهينة التطورات الإقليمية وموازين القوی فيها، ومرتبطة بالجهات الدولية المانحة، وكما قيل “للسياسة روح وهي الحرب، وحياة هي الدبلوماسية”، ولعل الدبلوماسية تحتاج أحيانًا إلی الجرأة والتغلب علی الهواجس وتقويض الحواجز، فكما يقول هنري كيسنجر “في الأزمات الفاصلة يكون الأكثر جرأة هو الأكثر أمانًا في أغلب الأحيان”.