أجرى الصحفي الأمريكي، “جيفري غولدبيرغ” من صحيفة الأتلانتيك، حوارا مطولا مع وزير الخارجية السابق، هنري كيسنجر، تناول فيه العديد من المسائل الحساسة والشائكة في العالم، المترتبة عن الفوز غير المتوقع للمرشح عن الحزب الجمهوري، دونالد ترامب.
حول دونالد ترامب
جيفري غولدبيرغ: ما هو رأيك الخاص في السياسية الخارجية التي وعد دونالد ترامب بتطبيقها؟
هنري كيسنجر: قدّم دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية العديد من الضمانات العظيمة للشعب الأمريكي، لكن ستواجه بعض المقترحات التي قدمها العديد من العقبات التنفيذية، لأن كلا من الكونغرس والمكسيك من المرجح، أنهما لن يقوما بتمويل مشروع الجدار الفاصل الذي ينوي بناءه.
غولدبيرغ:<ما هو رأيك أيضا في السياسة الخارجية لهيلاري كلينتون؟
كيسنجر: أنا وهيلاري، كان لدينا صديق مشترك، يدعى” أوسكار دي لا رينتا”، وكنا نجتمع في بعض الأحيان في منزله ونظرا لأنني شغلت منصبا وزاريا كانت تستشيرني، أحيانا، في بعض المسائل. لقد استمتعت كثيرا بمحادثاتي معها. وأنا أحترم كذلك ذكائها وقدراتها التحليلية القوية.
غولدبيرغ: بالنسبة لك، من هو أفضل سياسي شهدته الولايات المتحدة الأمريكية؟
كيسنجر: كان كلا من الرئيسين الأمريكيين “رونالد ويلسون ريغان” و”بيل كلينتون” يمتلكان قدرات سياسية استثنائية. كما أن السياسي نيلسون روكفلر، الذي شغل نائب رئيس الولايات المتحدة، في عهد الرئيس جيرالد فورد، كان جيدا على مستوى المحلي، ولكنه لم يستطع اكتساب شعبية وطنية.
غولدبيرغ: هل سيتسبب وصول ترامب في تسريع تراجع مستوى الولايات المتحدة؟ هل كان بإمكان هيلاري كلينتون تغيير ذلك، لأنها كانت تؤمن بفوائد نظام التحالف وبالاستخدام الإيجابي للقوة الأمريكية؟
كيسنجر: من المرجح، أن يؤدي فوز ترامب إلى حدوث صدمة، ستساهم في خلق فرصة لحدوث تراجع، واضطراب خطيريْن. كما أن عدم تيقّن كلينتون من نجاح ساندرز، المنتمي إلى الحزب الديمقراطي، من شأنه أن يسمح لها بتنفيذ ما تأمل بتحقيقه.
غولدبيرغ: إذا استطاع ترامب جذب انتباه المحللين السياسيين الأمريكيين على حين غرة، فهل سيستطيع كسب تأييد المحللين الصينيين؟
عندما كنت متواجدا في الصين في أبريل/ نيسان الماضي، تساءل العديد من المحللين الصينيين عمّا يحدث في الواقع على الساحة الأمريكية، وعمّا يحاول دونالد ترامب القيام به، وكيف سيكون ردّهم على تعليقاته، حيث لاحظت أنهم مهتمين بما يقوله ترامب حول المفاوضات الأمريكية الصينية، ويتوقعون أن يكون مصير هذه المفاوضات صادما مثل سلوكه المثير للاستهجان.
ولكن الأمر المثير للاستغراب، يتمثل في أن ترامب في بعض الأحيان، يشير إلى أنه سيقوم بإتاحة فرصة لمناقشة هذه المسألة بصفة شاملة. ولذلك هم على ما يبدو متحمسين بعض الشيء لهذه المفاوضات، على الرغم من أوجه التناقض الشديدة الذي يتمتع بها هذا المرشح.
غولدبيرغ: هل تعتقد أن ترامب قد توصل إلى فهم العولمة عبر هذه العلاقة التي يمتلكها مع الصين؟
كيسنجر: لم يطرح ترامب وجهة نظر عالمية خلال حملته الانتخابية، ولكنه يتحدث، دائما وبصفة عامة، على أنه بإمكانه حل المشاكل الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة عن طريق إبرامه لصفقة شاملة، من شأنها أن تعالج العديد من المشاكل الأخرى. ولكن من غير المحتمل أن يتمكن، في النهاية، من معالجة مسألة النظام العالمي.
غولدبيرغ: لا يبدو أن ترامب يمتلك نظرية عملية ولا إستراتيجية واضحة.
كيسنجر: تعمل السياسة الخارجية بنسق متصل مع طبيعة الفكر الأمريكي، ويكاد يكون من المستحيل وضع مخططات واضحة أثناء حملة سياسية، وأقصد بذلك موضوع التوصل إلى تفاهم مع الصينيين.
غولدبيرغ: الجميع يقول إن الصينيين يريدون فوز ترامب، نظرا لأن كلينتون اتخذت موقفا صارما وحازما فيما يتعلق بقضاياهم.
كيسنجر: أنا لا أعتقد أنهم يفضلون ترامب، لكنهم يتخدون هذا الموقف من باب الاحتياط والحذر، في حال انتُخب هذا الأخير رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.
غولدبيرغ: لا أعتقد أنهم يظنون أن ترامب سيكون متساهلا معه؟
كيسنجر: لا يعرف الصينيون شخصية ترامب الحقيقية، لكنني أظنهم يحاولون معرفة طبيعة العلاقة التي تربطنا بهم، بغض النظر عمّن سيكون رئيسنا. كما لا يمكن للصين أن تقوم بتضليلنا أو خداعنا أثناء هذا الاتفاق لأن ذلك سيساهم في زعزعة ثقتنا بها، وسينعكس سلبا عليها.
غولدبيرغ: دعنا نتحدث الآن عن المرشحين الرئاسيين، هل تدعم هيلاري كلينتون أم دونالد ترامب؟ وأرجو أن لا تخجل من التعبير عن موقفك.
كيسنجر: لن تنشر ذلك؟
غولدبيرغ: بالطبع سأنشره! أنا صحفي، وعلى الرغم من أني سأتعرض إلى العديد من الضغوط، إلا أنني سأنشره.
كيسنجر: أنا لا أؤيد وصول ترامب إلى سدة الحكم، ولن أفعل ذلك.
غولدبيرغ: إذا من المرجح، أن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها ترامب لم تنل إعجابك؟
كيسنجر: أنا لم أشارك في الحملات الانتخابية الرئاسية في الماضي، ولكنني لا أتفق مع مواقف ترامب في العديد من المواضيع، وأعتقد أن دوري، في الوقت الراهن، يجب أن يكون حياديا مع وجهة نظر الحزبين؛ الجمهوري والديمقراطي، لأن التاريخ الأمريكي يعيش حقبة حرجة، يقوم فيها المرشحون الرئاسيون بتبادل الاتهامات علنا، بدلا من مناقشة نظامنا السياسي بصفة جادة.
غولدبيرغ: هل يمكن القول، من وجهة نظرك، أن ترامب لا يرقى لمستوى شخص مؤهل لتولي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية؟ يجب أن تكون واضحا في موقفك، هل لا يصلح ترامب حقا لمثل هذه الوظيفة، كما قال العديد من الجمهوريون والمتخصصين في مجال الأمن الوطني؟
كيسنجر: أنا في عمر يناهز 94 سنة، ولا يمكنني أن ألعب دورا مهما في تغيير العديد من الوقائع أو في تنفيذ سياسة ما، ولكن لا يزال بإمكاني المساعدة عن طريق الفكر في البحث عن إستراتيجية هادفة متوافقة مع دورنا في تشكيل العالم ما بعد الحرب.
قبل دخول هيلاري في هذا السباق الرئاسي الأخير، أعترف أنني أدليت بالعديد من التصريحات المشيدة بفكر وتوجهات هيلاري، التي سُجلت في تاريخ أقوالي، ولكن مواقفي الودية معها كانت تجاهها كشخص وليست كمرشحة لمنصب الرئاسة.
غولدبيرغ: اسمح لي أن أعيد طرح السؤال، هل تعتقد أن ترامب سيتعلم أبجديات السلطة؟
كيسنجر: كل رئيس أمريكي في فترة ولايته الأولى سيتعلم شيئا جديدا بعد أن يأتي إلى السلطة. لا أحد يمكن أن يكون جاهزا تماما للأزمات التي ستعقب وصوله. لكن إذا انتخب ترامب، فإن إدارة الأمن القومي الأمريكي، هي من ستأمل أن يتعلم ترامب أبجديات سياسة السلطة الناضجة.
غولدبيرغ: هل تعلم أن ترامب سيتولى قيادة حزب ديمقراطي ليبرالي؟
كيسنجر: لقد قال أشياء شبيهة بذلك، كما قال العديد من الأشياء المتناقضة، أنا لا أريد الخوض في مثل هذه التناقضات الشخصية، بما أنني لا أعرف ترامب جيدا. كما أعتزم تقديم مساهمتي في تحسين مسار الحوار الوطني ككل. ولا يوجد أي داع بأن تجعلني أخوض في الأبعاد الخاصة لهذه الحملة.
عقيدة باراك أوباما
غولدبيرغ: كيف يمكنك أن تعرف عقيدة السياسة الخارجية للرئيس أوباما؟
كيسنجر: كتبت في تقرير لك نشرته في صحيفة الأطلسي، أن عقيدة أوباما تتعارض مع القيم الأساسية لعدد من الأماكن في أنحاء العالم، وبالتالي يمكن القول أنه من الصعب إيجاد تعريف واضح لهذا المصطلح، الذي يُعرفه أوباما كالتالي؛ “إن مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في تثبيت دعائم القيم في العالم يتحقق من خلال انسحابها من المناطق التي يمكن أن يجعل تدخلها فيها الأمور أسوأ”. لكن يجب أن نحذر من أن تصبح عقيدة أوباما السلبية المتخاذلة صفة أساسية للسياسة الخارجية.
غولدبيرغ: هل ترى أن عقيدة أوباما تسعى لحماية العالم من الولايات المتحدة الأمريكية؟
كيسنجر: من وجهة نظري، أن أوباما كان ينظر لنفسه ليس كجزء من العملية السياسية، ولكن كشخص فريد من نوعه، جاء بظاهرة فريدة من نوعها مع قدرة فريدة من نوعها. وهو يرى أن مسؤوليته هو منع عناصر حساسة في الإدارة الأمريكية من زعزعة استقرار العالم. وقد كان يخشى دائما من أن تتحول العقبات القصيرة المدى إلى عقبات دائمة، وكرجل كان يرى نفسه يتمتع بحنكة كبيرة، وكان يعتقد أنه يجب عليه المساهمة في تشكيل التاريخ لا السير على خطى سابقيه.
غولدبيرغ: كرئيس، هل يلام أقل على الخطايا التي أهملها، من تلك التي ارتكبها؟
كيسنجر: هذا صحيح، لأن الرئيس يلام على الكوارث التي ساهم في حدوثها، بغض النظر عمّن تسبب فيها.
غولدبيرغ: بصفتك رجلا دبلوماسيا، ما مدى فائدة الذهاب إلى دول أخرى والاعتراف بالخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة الأمريكية في السابق؟
كيسنجر: لا تحاسبنا الدول الأجنبية إذا قام رئيسنا بإفشاء أسرار بلاده على ترابهم. وعموما، هم يظنون أن هذه الزيارات تهدف إلى تحقيق طموحات أخرى، لا من أجل إعادة صياغة الماضي. في اعتقادي، أنه في حال تم تقييم الجهود الرئاسية على مدار التاريخ، يجب أن يكون ذلك على يد الشعب الأمريكي لا غير.
غولدبيرغ: ولكن ماذا عن الحجة العملية؟
كيسنجر: ينبغي موازنة تأثير الإجراءات الحكومية وتأثير الأفراد على السياسة. ولكن هل يجب على كل موظف عمومي أمريكي أن يهتم بكيفية مساهمة وجهات نظره في تشكيل ملامح تاريخ الأربعين سنة المقبلة وسياسة الحكومات القادمة؟ وهل تملك كل وزارة خارجية الحق بالاطلاع عمّا حدث في العقود الماضية؟
غولدبيرغ: أعتقد أن هيلاري كلينتون تشبهك أكثر من باراك أوباما، أقول هذا لأنني أعتقد أن هيلاري كلينتون تقول أن الأشياء التي فعلتها الولايات المتحدة في الحرب الباردة كانت تستحق زوال الاتحاد السوفيتي، وتبرر التجاوزات والتدخلات التي قامت بها، وما تقوله يتلاءم مع فهمك الخاص للعالم. هل ذلك صحيح؟
كيسنجر: هذا ليس لطفا منك أن تقول ذلك عنها، ولكنني لا أظن أنها تقصد ذلك بكلامها، ولا أعتقد أنه، في هذا السياق، يمكن أن تُؤدّي كلمة تجاوزات المعنى الحقيقي.
غولدبيرغ: أنا لا أهتم إن قيل عني لطيف أم لا.
كيسنجر: ولكنك بذلك سوف تطلق العنان لجناح سندرز المتطرف لشن هجوم عليها.
غولدبيرغ: أعتقد أن الفرق الأساسي بين أوباما وكلينتون هو أنها يمكن أن تصلح كمحاربة في الحرب الباردة، ولكن أوباما يصلح بأن يكون مقاتلا لفترة ما بعد الحرب الباردة الذي لا يهتم سوى بمشاغل البلدان النامية.
كيسنجر: من الذي لم يكن محاربا في عهد الحرب الباردة؟ كانت توجد استمرارية رائعة، في تلك الفترة، بين إدارات السياسة الخارجية تحث على فكرة احتواء الاتحاد السوفيتي.
في البداية، في سنة 1948، كان هناك نقاش شديد حول المعارضة الشديدة التي شكلها ولاس ولكن بعد أن هزم الاتحاد السوفيتي، لم يعد هناك أي اختلاف حول الأهداف الإستراتيجية للسياسة الخارجية. كما قال العديد إننا قد أخطأنا عندما قمنا بالإطاحة برئيس وزراء إيران السابق، محمد مصدق.
غولدبيرغ: وأظن أن أوباما كان سيقول ذلك أيضا.
كيسنجر: في المقابلات الشخصية التي قمت بها مع أوباما، أشار العديد من المرات ضمنيا إلى أن هناك الكثير من الأماكن في العالم، حيث يجب أن تتدخل القوات الأمريكية، ولكن لا يمكننا ذلك بسبب السياسات التي اعتمدناها في الماضي. على سبيل المثال، حكم مصدق قد جعلنا مكبلي الأيدي لمدة 70 سنة في إيران. في المقابل، تسامحنا معه كان يعتبر خطأ إلى حد ما. لكن عدم تسامحنا أيضا مع هذا النظام قد أحدث ضجة كبيرة في العالم.
ويحدث نفس الشيء اليوم مع كل من مصر وتركيا اليوم، نحن لا نعرب عن معارضتنا، علنا، للسياسات الداخلية التي يتبعونها، على الرغم من أننا نختلف كثيرا معهم.
غولدبيرغ: ولكن أوباما في هذا السياق، هل يمكن القول أن أوباما يهدف إلى تحقيق غرض استراتيجي، وراء سكوته عمّا تفعله العديد من الدول الأخرى؟
كيسنجر: هذا سؤال وجيه، البعض في الإدارة الأمريكية كانوا يقولون إن مشاركة أوباما في رفع الحظر المفروض منذ عقود على مبيعات الأسلحة الأمريكية للفيتنام، كانت خطوة رمزية تعبّر عن موقف اتخذته الولايات المتحدة منذ 40 سنة.
ولكن لا أعتقد أن القادة الفيتناميين يرون هذه الخطوة كما يراها هو بمنظوره الخاص. أنا متأكد من أنهم رحبوا فقط برفع هذا الحظر لأنهم يرون أنه يمثل دعما ضمنيا من الولايات المتحدة لمحاربة عدوهم المشترك الصين. ولكن هذه الأخيرة لم تعر اهتماما للخطر المحدق بها.
كما لا أعتقد أن الغالبية العظمى من بقية العالم فهموا رمزية الخطوة التي اتخذها أوباما أو إدارته. كما أشك أن العالم كان يعلم بالحظر المفروض على بيع الأسلحة في الفيتنام.
غولدبيرغ: كانت تلك الخطوة التي قام بها أوباما مثيرة للاهتمام ومهمة بالنسبة لي، لكني تفاجأت أنك تراها ذات قيمة رمزية فقط.
كيسنجر: ربما كان أوباما يهدف من خلال المشاركة في رفع هذا الحظر إلى التأكيد للصينيين أنه ليس لدينا نية لبيع الأسلحة للفيتنام. لا أعرف هدفه الحقيقي، لكنه سيكون من المثير للاهتمام أن أعرف.
غولدبيرغ: قال لي أوباما، في إحدى الحوارات، أشياء أثارت قلقي حول روسيا وأوكرانيا اللذين تمثلان مصلحة أساسية. ولكن تعدّ، أوكرانيا، بالنسبة لأمريكا، مصلحة ثانوية، مضيفا أن المصالح الأساسية الرابحة دائما هي الثانوية، ولذلك لا ينبغي أن نعتقد غير ذلك. وهذا ينطبق على أسس نظريته المتعلقة بالقادة؛ التي تقول إن تداخل المصالح هو عامل إيجابي يشجعنا للعمل معا. وإن لم تكن لنا نفس المصالح المشتركة، فلا يمكن أن نعمل معا، مشيرا إلى أن كل اللقاءات الرسمية وغير الرسمية بين رؤساء الدول هي بالأساس حول المصالح. ومن المرجح أن هذا هو السبب وراء أوباما الذي يرى نفسه رجلا سياسيا واقعيا يمتلك نفس تفكير برنت سكوكروفت، ولكنني أظن أنه يشاركك أيضا نفس الميولات الواقعية.
كيسنجر: إن تصوّر أوباما حول كيفية عمل المصالح الوطنية صحيح، ولكن الإدارة الأمريكية يجب أن لا تنظر إلى أن هذه المصالح ثابتة، ومحددة على المستوى الإقليمي لأن المصلحة الوطنية هي ديناميكية وليست ثابتة، كما أنها عالمية وليست إقليمية، وفي الواقع إن المصالح الإقليمية هي التقسيمات الفرعية لمفهوم النظام العالمي.
وأما فن السياسة الخارجية، فهو يتمحور حول دمج المصالح التي تبدو هامشية مع تلك الأساسية، وذلك من أجل تحقيق الأمن العالمي. إلى حد ما، ينبغي أن تسعى السياسة إلى دمج جوهر المصالح المتنافسة من أجل تحويل المواجهة إلى تعاون بين الدول؛ وأما تقييم تطور التوجهات السياسية المستقبلية سيكون عن طريق معرفة الفرق بين ما هو ثابت وما هو متحرك، وبين الدبلوماسية السلبية والدبلوماسية الاستباقية.
غولدبيرغ: أحد نقاط التشابه بينك وبين أوباما تتمثل في وجهة النظر الوستفالية لحقوق الإنسان التي يتبناها كلاكما، حيث أنكما لا تعيران هذه المسألة أهمية كبيرة في السياسة الخارجية.
كيسنجر: تعتبر رؤية أوباما السلبية هي جزء من التاريخ، على الرغم من أن هناك جانبا مثيرا للحيرة في تصرفاته يتمثل في كيف يمكن لشخص ذكي جدا أن يتحدث بازدراء عن نظرائه في المقالات التي نشرتها. هذا محير حقا، لأن شخصا وصل إلى مكانته، لديه شعور بالتواضع.
مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم
غولدبيرغ: ماهي الأشياء التي تنصح الرئيس 45 للولايات المتحدة الأمريكية أن يقوم بها؟
كيسنجر: يجب أن يسأل الرئيس القادم نفسه “ما هي الأشياء التي نسعى لتحقيقها؟؛ وما هي الأشياء التي نحاول تجنبها، حتى لو كان يجب عليه محاربتها وحده؟ والأجوبة على هذه الأسئلة هي الركائز الأساسية لسياستنا الخارجية، والتي ينبغي أن تُشكل أساس القرارات الإستراتيجية التي يتخذها أي رئيس.
يعيش العالم في حالة من الفوضى، حيث أن الاضطرابات الأساسية التي تحدث في أجزاء كثيرة من العالم في آن واحد، خُلقت معظمها بسبب المبادئ المتباينة للأطراف المتنازعة. ولذلك، فإننا نواجه مشكلتين: أولا، كيف يمكننا الحد من الفوضى الإقليمية؟ ثانيا، كيف يمكننا خلق نظام عالمي متماسك يقوم على أساس المبادئ المتفق عليها والتي تعتبر ضرورية لعمل النظام العالمي بأكمله؟
غولدبيرغ: أليس ذلك صحيحا، أن العديد من الأزمات تحدث دائما، قبل أن يجد الرؤساء الوقت لخلق نظام عالمي متماسك؟
كيسنجر: عموما، تبحث جميع الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط وكذلك في الصين وروسيا، وإلى حد ما في أوروبا، على قرارات إستراتيجية كبرى.
غولدبيرغ: وما الذي ينتظرونه؟
كيسنجر: ينتظرون تسوية أوضاعهم. فعلى سبيل المثال، تنتظر الصين البت في طبيعة المكانة التي تحظى بها في العالم؛ أما روسيا، فتبحث عن الأهداف التي ترمي لتحقيقها عن طريق دخولها في العديد من المواجهات. أما أوروبا، فتبحث عن الغرض وراء قيامها بسلسلة من الانتخابات. بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فهي تبحث عن معنى الاضطرابات الحالية التي تعيشها في أعقاب الانتخابات.
غولدبيرغ: ما هي المصالح الثابتة والدائمة للولايات المتحدة الأمريكية؟
كيسنجر: أود أن أبدأ بالقول، أن الثقة بأنفسنا هو شرط أساسي في العملية السياسية، حيث لا يمكن أن نختزل مفهوم السياسة عن طريق اتخاذ سلسلة من القرارات التكتيكية البحتة أو عن طريق تبادل الاتهامات فيما بيننا.
وهنا يمكن أن نتذكر السؤال الاستراتيجي الأساسي في إتباع أي سياسة أو في اتخاذ أي قرار، ما هو الشيء الذي لن نسمح بأن يحصل؟ بغض النظر عن كيفية حدوثه، وعن مدى شرعيته.
غولدبيرغ: أتعني بكلامك هذا، أن فلاديمير بوتين يريد غزو لاتفيا في سنة 2017؟
كيسنجر: نعم فعلا أقصد ذلك، هنا يجب أن نطرح السؤال الثاني للسياسة الخارجية الأمريكية وهو: ما الذي نحاول تحقيقه؟ نحن لا نريد أن تقع آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط تحت سيطرة بلد معاد واحد، في حين أن هدفنا يتمثل في تجنب هذا العداء. ووفقا لمنظوري الخاص حول أوروبا والشرق الأوسط، وآسيا، فإنه ليس في مصلحتنا أن تقع أي من هذه المناطق تحت سيطرة أية قوة في العالم.
غولدبيرغ: ألا تظن أن هذا المنظور الذي اتبعته الولايات المتحدة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد لا يكون فقط أوباما هو من اتبعه؟ ومن وجهة نظرك، أي الأربعة المرشحين النهائيين لهذا العام؛ تيد كروز، ودونالد ترامب، وبيرني ساندرز، وهيلاري كلينتون؛ يتبع النموذج التقليدي للسياسة الخارجية؟
كيسنجر: أظن أن كلينتون هي الوحيدة التي تلائم هذا النموذج التقليدي للسياسة الخارجية.
غولدبيرغ: ماذا تقصد بالضبط بكلامك هذا؟
كيسنجر: هذه المرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي لم تستطع فيها الولايات المتحدة الأمريكية الحسم في طبيعة علاقتها المستقبلية مع العالم.
غولدبيرغ: تعتبر هيلاري كلينتون أكثر تقليدية، في الواقع، من باراك أوباما، بشأن المسائل المتعلقة بالمسؤوليات الدولية والضرورية، لكن هل تظن أن فهم الأمريكيين للأولويات الأمريكية قد تغير، حيث أن انتخاب رئيس كهيلاري كلينتون يمكن أن يقيدها بضوابط ستحد من إمكانياتها؟
كيسنجر: بالنسبة لكثير من القادة في جميع أنحاء العالم، لا يزال أوباما لغزا محيرا حتى بعد توليه لثماني سنوات لمنصب الرئاسة الأمريكية. وأما إذا فازت هيلاري، ستتمتع بميزة لم يحظ بها غيرها، حيث أنها سوف تمثل الوجه التقليدي المألوف للسياسة الأمريكية. وتجدر الإشارة إلى أنك خلال المقابلات التي أجريتها مع أوباما، أعرب خلالها عن مدى فخره بالأمور التي منع إصدارها أو حدوثها.
غولدبيرغ: هل تابعت السياسة القومية الأمريكية منذ سنة 1948 أو قبل ذلك التاريخ؟
كيسنجر: نعم كمشارك فيها، إلى حد ما، منذ سنة 1955.
غولدبيرغ: هل يوجد إجماع نسبي من الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، في هذه الفترة، فيما يتعلق بأهمية الانخراط الأمريكي العميق في العالم؟
كيسنجر: هذه المرة الأولى في التاريخ التي تم فيها التشكيك بهذا الإجماع، ولكن أعتقد أنه نستطيع تدارك ذلك إلى حد ما.
كان يبدو لي أن العالم الغربي كان يريد أن يبني نظاما سلميا بعد الحرب العالمية الثانية، كما لم يكن هناك تشكيك في مدى استعدادنا للتضحية من أجل الحفاظ على هذا النظام. ولهذا الغرض، أرسلنا جيوشا كبيرة لأوروبا وصرفنا أموالا طائلة من أجل هذا النظام. ولكن، نحن، في الوقت الراهن، بحاجة إلى إعادة إحياء هذه الروح من جديد وتكييفها مع واقعنا الحاضر.
غولدبيرغ: لماذا تغيرت هذه الدينامكية السياسية الآن؟
كيسنجر: لقد تغيرت بسبب تسامحنا مع التحديات التي واجهت معتقداتنا القومية الأساسية. ويمكننا عدم تكرار نفس هذا الخطأ، إلا إذا بذل كل من الحزبين الرئيسيين في البلاد جهودا مضاعفة.
غولدبيرغ: هل تم تحطيم الخصوصية أو الاستثنائية الأمريكية؟
كيسنجر: لا، مفهوم الاستثناء الأمريكي لا يزال موجودا، ولكن معنى “المدينة مشرقة على التل” قد بدأ بالتراجع.
غولدبيرغ: لكن هل كان أوباما قادرا على فهم مفهوم “المدينة المشرقة على التل” ومفهوم “الخصوصية الاستثنائية”؟
كيسنجر: ليس ذلك بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا ينبغي علينا أن نتوقف عن محاولة تطبيق قيمنا، حيث أن الدستورية والتفاني من أجل حقوق الإنسان هي من بين إنجازات المجد الأمريكي. ومن المؤكد أننا تمادينا في الاعتقاد بأننا يمكننا تحقيق الديمقراطية في الفيتنام أو في العراق من خلال هزيمة خصومنا عسكريا ومن خلال نوايانا الحسنة. ولقد تمادينا كثيرا عندما لم نقم بعمل عسكري يتلاءم مع الإستراتيجية الأمنية للمنطقة. ولكن الشيء الوحيد الذي استطعنا تحقيقه هو التعبير عن هذا الاستثناء الأمريكي. لقد ولت حقبة الاستثنائية الأمريكية منذ الحرب الباردة، لكن المهمة الرئيسة للإدارة الجديدة تتمثل في القدرة على التكيف مع الأوضاع.
يملك كل مجتمع الحق في تصور رؤية واضحة لمستقبله، لا تكون قائمة على الإحساس بالذنب. لكن لا يمكن أن ننكر، أن كل المجتمعات على مر التاريخ البشري، قد عاشت ضربا من ضروب الانحطاط، يمكن أن يمنع كبرياء الفرد من الاعتراف بذلك، لكنه بحاجة إلى التواضع والثقة بالنفس للاعتراف بالقيود المفروضة عليه، نظرا لأن انعدام الثقة في المجتمع هو أحد عوارض الانحطاط المبكرة للدول.
غولدبيرغ: هل كنت تعتقد أن الولايات المتحدة لن تعيش هذه المرحلة من الانحطاط؟
كيسنجر: لا أستطيع أن أصدق أن ذلك سيحدث، وكل الوقائع التي يشهدها التاريخ تدل على عكس ذلك. ولتفادي وصول الولايات المتحدة إلى هذه المرحلة من الانحطاط، يجب علينا العمل دائما بالرجوع إلى أسس قيمنا ومبادئنا التقليدية، لكن للأسف، نحن نحتاج دائما إلى إجراء تعديل جزئي في هذه المبادئ عند الاصطدام بثقافة العديد من المجتمعات الأخرى، وهذا هو أحد مآزق السياسة الخارجية الذي تقع فيه دائما.
غولدبيرغ: في كتابك الأخير تطرقت لنقطتين متناقضتين؛ الأولى، قلت فيها إن الولايات المتحدة تواجه مشكلة في صنع السياسة الخارجية فضلا عن الاختلاف الشاسع للتوجهات السياسية لكل إدارة، والثانية، أشرت فيها إلى أن كل الرؤساء الذين جاؤوا بعد فترات الحروب قد تبنوا كلا من مفهوم “الاستثنائية” الأمريكية و”الضرورية” الأمريكية، ألا ترى أن هذه الأفكار متناقضة؟ وهل ترى أن الرئيس أوباما قد استطاع تطبيق مفهوم الضرورية الأمريكية خلال فترة حكمه؟
كيسنجر: كان الإيمان “بالاستثنائية” الأمريكية موجودا، لا محالة، خلال كل الحقبات الرئاسية للتاريخ الأمريكي، لكن تَنوع تطبيق هذا المفهوم من إدارة إلى أخرى.
يرى المنهج التقليدي الأمريكي أنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية الدفاع عن دورها الدولي، من خلال تعديل قيمها الاستثنائية التي تتبعها في الداخل، لتتمكن من أن تصبح منارة مشرقة لبقية العالم. لكن في القرن العشرين، أصبح ينظر إليها “كمدافع عن الديمقراطية في العالم”، تساعد بقية الدول على مقاومة العدوان الخارجي وعلى تعزيز نمو الديمقراطية، وإذا لزم الأمر تلجأ للوسائل العسكرية لمحاربة منتهكي حقوق الإنسان. وتجدر الإشارة إلى أن هذين المنهجين يختلفان عمليا ولكن يتفقان على تحقيق نفس الهدف، الذي يعتبر أن مهمة الولايات المتحدة تكمن في نشر قيمها ومبادئها في كل أرجاء العالم.
نحن نعيش، في الوقت الحالي، مرحلة يتم فيها مراجعة مفهوم الاستثنائية، في نهاية الحرب العالمية الثانية، كنا نملك قرابة 55 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في العالم، مما جعل وزارة الخارجية الأمريكية تعمل على تخصيص موارد لكل منطقة في العالم، وكانت قادرة على التغلب على أي تحد يواجهها. ونظرا لأننا لا نمتلك، في الوقت الراهن، إلا ما يقارب عن 22 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في العالم، فنحن نحتاج إلى تحديد الأولويات بدلا من الاعتراف بأننا لا نستطيع أن نتدخل في العديد من المناطق دون التعاون مع دول أخرى.
للمساهمة في إقامة نظام عالمي أكثر استقرارا، نحن بحاجة إلى تعزيز الإدراك حول عقيدة الشراكة، التي كانت الإدارة الأمريكية بارعة في تحليل القيود التي تمنعها عن تطبيقها، وبالتالي يمكن القول أن ما لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من رؤيته حتى الآن؛ هو هذه الرؤية الجديدة لمستقبل النظام العالمي.
يتمثل مفتاح إتقان فن التدخل الدولي في مدى الاستعداد لمواجهة الغموض الذي يدور حول العديد من القرارات الدولية وفي كيفية تجاوز هذا المأزق. وبالنسبة لفن إتقان السياسة الخارجية، فإنه يتمثل في العمل على ضوء التقييمات الماضية لسياسات سابقة، التي لا يتمكن أي سياسي إثبات مدى نجاعتها عندما يكون هو المسؤول عن القيام بها. كما يؤدي الإصرار على توضيح الأهداف التي تقف وراء اتخاذ أي قرار إلى الدخول في مرحلة الركود السياسي.
غولدبيرغ: هل ترى أن وجهات نظر أوباما متداولة كثيرا، أو سلبية أكثر من اللازم، على عكس الرئيس السابق، الذي كانت وجهات نظره استباقية أكثر من اللازم؟
كيسنجر: ربما نسبيا، نظرا لأنه يستمد وجهات نظره من قناعاته الفلسفية الشخصية. ولكن لا يعني ذلك أن كل خطوة استباقية تم اتخاذها كانت صحيحة. ومن وجهة نظري أن الرئيس السابق، الذي أكن له احتراما كبيرا، كان على صواب عندما قام بالإطاحة بنظام صدام حسين، ولكن تحقيق الديمقراطية في العراق ينبغي أن يكون بمجهود دولي شامل لا بمجهود الولايات المتحدة الأمريكية فقط.
غولدبيرغ: هل تغيرت وجهة نظر الأمريكيين حول الدور الأمريكي في العالم؟
كسنجر: شكك العديد من الأمريكيين في مدى نجاح السياسات الخارجية الدولية، على ضوء فشل العديد منها. ولكن أظن أن أي رئيس أمريكي سيلقى دعما من شعبه إلا إذا كان يتسم بالشجاعة ويملك أجندة سياسية واضحة وهادفة.
غولدبيرغ: هل يمكننا تحمل تداعيات الانسحاب من الشرق الأوسط؟
كيسنجر: نحن لا نستطيع الانسحاب من الشرق الأوسط. نحن نحتاج إلى وضع إستراتيجية واضحة حول طبيعتنا تدخلاتنا في هذه المنطقة وليس إلى الانسحاب.
يشهد العالم لحظة مفصلية جعلته يعيش حالة من الخمود، نظرا لتأجيل العديد من البلدان النظر في العديد من القرارات في انتظار معرفة مصير الانتخابات الأمريكية؛ التي ستعجّل حصول بعض الأمور؛ وستؤثر على العديد من المعطيات في العالم.
جدلية المصداقية في السياسة الأمريكية
غولدبيرغ: إن العديد من النقاد يعتقدون أن الرئيس الأمريكي، باراك أوباما يشكك في بعض الادعاءات الأساسية المتعلقة بالدور الأمريكي في العالم، وقد أعرب في حواراته معي حول أسبابه العقلانية لعدم اتخاذه إجراءات صارمة عند استخدام الرئيس بشار الأسد للأسلحة الكيميائية في سوريا، والتي أظن أنك لا توافق عليها، قائلا أنه غير مستعد لتفجير شخص لإثبات أنه على استعداد لتفجير شخص آخر. أظن أنه عندما أدلى بتصريحات لي، من هذا القبيل، كان يقصد بذلك كمبوديا.
كسنجر: لقد حان الوقت لتلعب كمبوديا دورا رمزيا في العالم لأنها تعدّ المكان الوحيد في الهند الصينية الذي لم يشهد حربا ليبرالية، حيث بدأ التزامنا العسكري بالفيتنام مع مجيء الرئيس الأمريكي كينيدي وُتوّج مع قدوم جونسون. لقد كان نيكسون مسؤولا عن قرار مهاجمة المعاقل الشيوعية في شرق كمبوديا، تلك البلدة الصغيرة المسالمة. تعرضت كمبوديا لقصف شديد تلته العديد من الاحتجاجات الشعبية.
أجرت إدارة أوباما بشكل منهجي قصفا مماثلا لأسباب مماثلة، ولكن عن طريق استخدام طائرات دون طيار في باكستان والصومال واليمن. لقد دعمتُ هذه التفجيرات، ظنا مني أن الإدارة الأمريكية ستشهد سياسة خارجية خلاقة، تمكنها من تخليص نفسها من كل الشعارات القديمة ومحاولة التغلب على التحديات الحالية.
غولدبيرغ: ما قصدته بحديثي أن أوباما كان يفكر في كمبوديا، عندما قال إنه يفكر في العهد الذي جاء فيه نيكسون وكيسنجر إلى السلطة، اللذان كانا يشعران أنهما بحاجة إلى تأسيس مصداقية مع هانوي، وذلك من خلال شنهم لحرب عليها.هل كلن هذا هو تحليله حول كيفية إقحام الولايات المتحدة نفسها في المشاكل؟
كيسنجر: هذا ليس صحيح، بعد شهر واحد من تولينا هذا المنصب، قُتل أكثر من 2000 شخص كانوا يقطنون في ملاذات آمنة في كمبوديا. ولذلك كان علينا التحرك وإنهاء هذه الحرب.
غولدبيرغ: ولكن هذا التدخل كانت له شعبية كبيرة
كيسنجر: أعرف ذلك، عندما جئنا إلى السلطة بدأ هجوم فيتنام الشمالية في غضون أسبوعين، وسقط قرابة 500 ضحية في الأسبوع واضطررنا لقصف كمبوديا، لكن لم نكن نهدف بذلك إلى استئناف القصف في الشمال. لم تكن تتعلق المسألة بافتعال حرب جديدة أخرى في كمبوديا لأن هذه البلاد كانت بالفعل تشهد حربا.
غولدبيرغ: اعتبر أوباما تراجعه عن “الخط الأحمر” الذي وضعه في حال استخدم نظام الرئيس السوري بشار الأسد أسلحة كيميائية تحطيما لقواعد اللعبة في واشنطن، قائلا إنه لا يعتقد أن تكريس المصداقية الأمريكية يكون عن طريق استخدام القوة. ما هي وجهة نظرك من الجدل الذي آثره الخط الأحمر؟
كسنجر: أعتقد أن الخط الأحمر، قبل كل شيء، هو مسألة رمزية. وأظن أنه كان قرارا غير حكيم في مشهد سياسي مليء بالتناقضات. ولكن كان ذلك من بوادر وجود مشاكل عميقة في الإدارة الأمريكية. في المقابل، كان ينبغي استخدام القوة العسكرية في ذلك الوقت.
غولدبيرغ: كيف يمكنك وصف العلاقة بين الدبلوماسية والقوة، كما تعلمون، حاول جون كيري طيلة العام الماضي الضغط على أوباما لتوجيه ضربات ضد الأسد من أجل التركيز اهتمامه على ضرورة التوصل إلى حل دبلوماسي، حيث كان هذا الموقف رائعا لكيري، ذلك الرجل الذي بدأ حياته المهنية احتجاجا على حرب الفيتنام، والآن يشجّع على توجيه ضربات عسكرية لسوريا من أجل تكريس المصداقية الأمريكية.
كيسنجر: أنا أحترم شجاعة ومثابرة جون كيري. في سوريا، صرّح أنه يسعى لتشكيل حكومة ائتلافية مكونة من الأطراف المحاربة فيها. ولكن حتى إذا تمكن من تأسيس مثل هذه الحكومة، يجب عليه تحديد القوة الفاعلة التي لها القدرة على تسوية النزاعات عندما تنشأ من جديد، نظرا لأن وجود حكومة لا يضمن أنه سوف ينظر إليها على أنها مشروعة أو أن أوامرها ستطاع.
لقد حان الوقت ليفهم كيري أنه يجب عليه ممارسة ضغوط أخرى لتحقيق الأهداف التي يرمي إلى تحقيقها؛ كما يجب عليه أن يغير موقفه من حرب الفيتنام.
يمثل استخدام القوة العقوبة النهائية للدبلوماسية، حيث لا يمكننا الفصل بين هذين المفهومين، لكن ارتباطهما لا يعني أن كل مرة يتم فيها المماطلة في المفاوضات، يمكنك اللجوء إلى القوة بل ببساطة أن المعارضة المتواصلة لمبدأ التفاوض يمكن أن يصل إلى نقطة انهيار سوف تحاول بعدها فرض إرادتك، وبالتالي، سوف نصل إلى طريق مسدود وسوف تهزم الدبلوماسية.
كما أن الوصول إلى حل فرض القوة، يتطلب امتلاك ثلاثة عناصر أساسية؛ أولها القوة الكافية؛ ثانيها، الاستعداد التكتيكي لفرض هذه القوة؛ ثالثها مذهب استراتيجي له القدرة على إعادة النظام.
غولدبيرغ: ما زال الضوء مسلطا على مفهومك الخاص للمصداقية
كيسنجر: إن المشككين في نظرية المصداقية، كعنصر مهم في النظام العالمي، دائما ما يدعمون وجهة نظرهم بالإدعاء أن المدافعين على هذه النظرية يتبعون نفسية خدمة المصالح الذاتية كإستراتيجية. لكن لي وجهة نظر مختلفة تماما بخصوص هذه المسألة. إن مصداقية الدولة مهمة بقدر أهمية هذه الصفة في شخص المرء فهي تمثل ضمانا لا يمكن الطعن فيه وبهذا يمكن للدول الصديقة التعويل عليها كما يجب أخذ الأعداء والخصوم لتهديداتها على محمل الجد. وهي بالتالي تعد من أساسيات أية إستراتيجية وليست محض “انفصام نفسي” واضح.
إن مهمة إثبات أن المصداقية مقيدة، من جهة، بالسياسة الدبلوماسية ومن جهة أخرى بالتدرج في السلطة. وبالنسبة للدول التي اتفقت فيما بينها على أسس معينة أو على أهداف محددة، فإن الدبلوماسية ستكون الطريقة المثلى لإرساء التوافق. أما عندما لا تكون هناك أهداف مشتركة وتتقاطع المصالح فإن منطق القوة سيكون هو المهيمن. لكن ذلك لا يعني أنه لا توجد حالات شاذة في ظل حيثيات نادرة يمكن أن تعتبر كمثال يحتذى به في المجال الدبلوماسي. وتجدر الإشارة إلى أن الدبلوماسية تستمد زخمها من الوعي الكامن بتداعيات فشل السياسة المعتمدة. وعندما تنتهي الحروب، فإن الدبلوماسية تحكم لتحدد مدى سيرورة العملية السياسية ولجعلها بديلا للحرب، وجب تحديد ضوابط للمصلحة الوطنية التي من المفترض أن تتبلور في شكل إستراتيجية لمزيج من كلا العالمين.
إن الإصرار على المصداقية يجب أن يحكم عليه من خلال قابليتها للتطبيق في مختلف الأوضاع الدولية. عندما أدلى ريتشارد نيكسون بالقسم الرئاسي سنة 1969، احتل الإتحاد السوفيتي باسم اتفاقية وارسو تشيكوسلوفاكيا في أقل من سنة وهدد بحصار برلين على مر عقد ونصف، وقد سبقت أسمة الصواريخ الكوبية هذه الواقعة بسبع سنوات. في تلك الأثناء كانت الجيوش السوفيتية تركز اهتمامها على الحدود الصينية وتخطط لشن غزو عليها. أما في الصين، فقد أعلن ماو عن تأهبه لسحق 300 مليون مدني في حرب نووية؛ وفي تلك الحقبة كانت البلاد تشهد ثورة ثقافية ولم يكن يمثلها في الخارج سوى سفير واحد فقط.
في ذلك الوقت لم تنشأ بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية أية علاقات دبلوماسية ولم يتم إبرام سوى عدد لا يذكر من العقود على مدى عشرين سنة. وخلال مدة تجاوزت العقد من الزمن، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتقدم رويدا رويدا نحو الهند الصينية؛ إذ ركزت 500 ألف جندي وكان عددهم في ارتفاع وفقا للجدول الذي أعدته الإدارة الأمريكية السابقة. أما الفيتنام وارتباطها بأولويات الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أضحت حتما إحدى أهم مدارات اهتمام إدارة نيكسون.
وفي ظل هذه الظروف، أرسى الرئيس نيكسون ومستشاروه خمسة غايات رئيسية تتمثّل أولا في ردع القوات العسكرية السوفيتية وعرقلة تحركها؛ وثانيا في إتاحة الخيار الدبلوماسي للإتحاد السوفيتي وخاصة الحرص على احترام مبدأ التحكم في الأسلحة النووية؛ وثالثا في السعي إلى إيجاد طريقة لإدخال الصين ضمن النظام العالمي. أما الغاية الرابعة، فهي إعادة النظر في سياسة الشرق الأوسط لعلهم يكتشفون وسيلة تستعيد بها العلاقات مع الدول العربية وتقلص من نفوذ الإتحاد السوفيتي في المنطقة. وقد كانت الغاية الخامسة تتعلق ببذل جهود حثيثة لاحتواء الحرب في الفيتنام والحيلولة دون انتشارها على نطاق أوسع واستنزاف المجهودات الوطنية. فمن الجلي إذن أن وضع حد للحرب الفيتنامية كان من العناصر الأساسية لتحقيق غاياتنا الأخرى.
تمثلت خطوتنا الأولى في دراسة الموقع الذي كنا فيه والغاية التي كنا نصبو إلى تحقيقها، وخلال هذه المرحلة توصلنا إلى خلاصة من ثلاث نتائج نظرية. أولها، الانسحاب الفوري الذي لم يستند عن أي أساس عملي أو سياسي لاتخاذ مثل هذه الخطوة؛ وقد يستغرق إجلاء 550 ألف جندي أمريكي، الذين من المحتمل أن يكونوا محاطين بحوالي 880 ألف من المعادين بالإضافة إلى قرابة مليون من المتودّدين إليهم ظاهريا لكنهم يضمرون لهم العداء باطنيا، الكثير من الوقت حيث كانوا يشكلون خطرا على القوات الأمريكية خلال تنفيذ هذه العملية. كما أن الحكومة التي كانت تستعد لتغادر مقاليد الحكم في ذلك الوقت لم تترك أي برنامج يعنى بتداعيات الإجلاء التام. لكن الحرب لا ترمي أوزارها بمجرد الإعلان عن نهايتها. كل أهدافنا المتبقية كانت لتوضع على المحك لو جازفت الولايات المتحدة وأخذت على عاتقها مثل هذه الخطوة.
وفي ظل تلك الظروف كان هناك خيارين واقعيين يفرضان نفسيهما أولهما كان “الفتنمة”، وهي سياسة اتبعها نيكسون لبناء الأسطول الفيتنامي بتشكيل جيش يضمن، من خلال نوعية التدريبات التي تلقاها وعدد جنوده، الدفاع عن البلاد عند انسحابنا. أما الخيار الثاني، فيتمثل في اقتراح مشاورات السلام من منظور شامل إلى أقصى حد وإن تم رفضها فقد كنا لننسحب في جميع الأحوال. لقد أخذنا بعين الاعتبار كلا الخيارين. وفي العديد من المذكرات إلى نيكسون، أشرت إلى تحفظي بشأن سياسة الفتنمة (بالتوازي مع ما كنت قد كتبته مسبقا إلى البنتاغون في فترة إدارة جونسون). لكنني على خلاف ذلك كنت أفضل إتباع سياسة التفاوض القائمة على المواجهة المباشرة والحاسمة التي خضنا غمارها من قبل. وكان ذلك في مارس/آذار سنة 1969، عندما أعلمنا السفير التابع للإتحاد السوفيتي، أناتولي دوبرينين، أننا مستعدون لإرسال سايرس فانس للتفاوض مع الفيتناميين الشماليين في موسكو على اتفاق السلام الشامل. وبالتزامن مع هذه المشاورات، اكتشفنا الخيارات التي يتيحها التصعيد العسكري. لقد رفض هانوي التفاوض مع مشاركة دولة ثالثة ولم نعلم بذلك سوى بعد فوات الأوان لأنه لم يصلنا أي رد رسمي من قبلهم، ولعل ذلك ما دفع بالرئيس نيكسون إلى إتباع خيار “الفتنمة”.
غولدبيرغ: هل كانت غايتك الرئيسية الحفاظ على المصداقية الأمريكية؟
كيسنجر: لقد التزمت الولايات المتحدة الأمريكية، على الأقل على مر ثلاثة إدارات، بمبدأ عدم التخلي عن أي شعب طلب نجدتها من الهيمنة الشيوعية. كانت الولايات المتحدة الأمريكية محور النظام الدولي ولقد أحسسنا أننا مجبرون على التقيد بالتزاماتنا المتمثلة في كفاءتنا الكافية للدفاع على الأقاليم الأخرى وعلى الحلفاء. لم ننتقد أبدا الإدارات السابقة المفتقرة للحوكمة الرشيدة، على الرغم من أن كتاب نيال فرغيسون بيّن أنني تسرعت في تعبيري عن الشكوك التي ساورتني إزاء سياستها. وعلى الرغم من السياسة الدبلوماسية الحالية مع الفيتنام ، فقد كنا أكثر مرونة في عدة نقاط، ويمكن أخذ جدول الانسحاب الأمريكية كمثال، لكننا لم نكن لنتقبل حصيلة تحرم الشعب الفيتنامي من القدرة على التعبير عن وجهة نظرهم حول الهيكل الحكومي الذي يودون تشكيله. كما أننا لم نكن لنرضى بطلب هانوي الملح المتمثّل في الإطاحة بالحكومة المتحالفين معها ليكون ذلك تمهيدا لأي خطوة أخرى قد تفكر الولايات الأمريكية في اتخاذها.
بدأنا بإجلاء قواتنا العسكرية في غضون ستة أشهر بعد تولينا للإدارة على الرغم من شن الفيتنام الشمالية الشيوعية هجمات على القوات الأمريكية بعد ثلاثة أسابيع من تولي نيكسون للرئاسة منتهكين بذلك الاتفاق الذي أبرمه الرئيس ليندون جونسن في آخر مشروع دبلوماسي في الفيتنام. أثناء الأشهر الستة الأولى، التي عُرفت بالفترة التي عانى فيها المدنيون على إثر تولي نيكسون لمقاليد الإدارة الأمريكية، كنا لا نزال ندرس الخيارات المتاحة أمامنا. ومع سنة 1971، كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد انسحبت من أرض المعركة وبحلول سنة 1972، لم يتبقّ سوى 25 ألف جندي أمريكي داخل الأراضي الفيتنامية. وبدأ رعايانا المتواجدون فيها بالتناقص تدريجيا لتنخفض نسبة المغادرين من 500 مواطن في الأسبوع إلى حدود 25 أمريكي في الأسبوع.
لقد أدليت بمثل هذه الطّرادة لأنني أعتقد أن الشأن الفيتنامي قد دمر الخطاب الدبلوماسي الأمريكي منذ ذلك الوقت. إلى حدود الستينات، كان هناك خلافات شديدة لكن أغلبها كان متعلقا بنجاعة أو رجاحة السياسات المتبعة. وبعد برهة من الزمن، تحولت هذه الخلافات إلى تهم أخلاقية تدين الإدارة التي تمسك بزمام الأمور وبأعضائها. وعندما أصبح تراشق جرائم الحرب صيغة معتادة في الخطابات السياسية ولعل ذلك ما نسف وحدتنا الوطنية. ومن تداعيات ذلك خسرت الدبلوماسية الأمريكية مرونتها وقوتها الإستراتيجية لكن ذلك لم يكن سوى حكما إستراتيجيا ولم ينبع عن ردة فعل نفسية.
غولدبيرغ: ما علاقة ذلك بانحطاط مفهوم المصداقية الأمريكية المعاصر في منطقة الشرق الأوسط؟ لقد تحدثت مؤخرا مع أحد كبار المسؤولين الآسيويين الذي صعقوا بقرار أوباما بخصوص “الخط الأحمر”. لقد كان ذلك بالنسبة لهم بمثابة هزة أرضية.
كيسنجر: مع كل الاحترام للفيتنام، إن الأساس الذي تقوم عليه نظرة لي كوان يو يتمثل في أن سنغافورة، البلد الصغير الذي يقع في منطقة هيمنت عليها الصين منذ فجر التاريخ، تحتاج إلى استحضار صورة الولايات المتحدة الأمريكية في الوعي الصيني. وبالتالي فإن انهيار النظام في الفيتنام كان من الممكن أن يخلف هيمنة الصين “المايوية” ويساهم في دس مزيد من الجواسيس الذين سيكونون أذانها وأعينها في جنوب شرق آسيا.
لقد كنا مقتنعين، مثله تماما، بأن استقرار النظام العالمي مرتبط أساسا بالتعويل الكلي على إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، كما اعتقدنا أنه كان باستطاعتنا ضمان تحقيق هذه الأهداف بفعالية أكثر من خلال إتباع سياسة تعتمد بالأساس على تهدئة الأوضاع على الجبهة الفيتنامية والانسحاب التدريجي من المنطقة والالتزام بالنتائج التي ستفضي إليها المفاوضات.
ما أخطأنا في الحكم عليه لم تكن مسألة المصداقية التي لم نعرها أية أهمية تذكر بل كل ما كنا نعتقده في ذلك الوقت أنه كان علينا إيجاد سبيل لتفاهم أطراف النزاع والأخذ بعين الاعتبار استقلالية الشق الفيتنامي الجنوبي. بالنسبة لهانوي، لم تكن الحرب تتمحور حول تركيز تأثير نسبي لقواتها؛ بل كانت بالأحرى حول التحكم الكامل بزمام الأمور وأي أمر كان لا يرقى لتطلعات القيادة في هانوي كان يعتبر بمثابة هزيمة تاريخية نكراء. وبينما كانت تعقد المفاوضات وكان النقاد يتهمون إدارة نيكسون بالتراخي وتفويت افتتاح هانوي، كانت القيادات السياسية الفيتنامية تتأهب لشن هجوم. وفقط في أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1972، عندما أحبط الهجوم قبلت هانوي بالتقيد بما أملي عليها لمدة فاقت السنة، لكن لم تأخذ على عاتقها أي نوع من الاتفاقات. وعندما سنحت الفرصة لإبرام الاتفاق الذي طال انتظاره، فقدنا القدرة على إرغامها بأي اتفاق بسبب فضيحة تبييض الأموال، التي أحطّت من شأن سلطة الرئيس التنفيذية وحدت من المساعدات والإمدادات العسكرية التي كان يوفرها الكونغرس لتفعيل عمل القوات الأمريكية في إندونيسيا. وبعد تلك الأزمة العصيبة لم تكن سوى مسألة وقت حتى بدأت الفيتنام بالإنهيار.
غولدبيرغ: هل فقدت الولايات المتحدة الأمريكية مصداقيتها على مر السنوات الثمانية المنقضية؟ وماذا عن آخر خمسة عشر سنة؟
كيسنجر: لقد امتدت مدة فقداننا لمواقع التأثير في العالم لبرهة من الزمن؛ وعلى غرار الفيتنام، فقد خسرنا الحرب الأفغانية والعراقية عندما فشلنا في الوصول إلى ما كنا نصبو إليه. وكما حدث مع الفيتنام، فقد جمعنا التحديات بمرارة والجدالات التي لا جدوى منها بالإضافة إلى حصادنا لسلسلة من الانسحابات الفردية لوضع حد للحروب التي اندلعت في العالم. وجل ما حصل بعد واقعة الفيتنام، ساهم في انتقال الجدل المحلي في الولايات المتحدة الأمريكية، على مضض، من التأييد العام لأهداف السياسة الأمريكية إلى المطالبة بإنهاء الحرب واعتبار ذلك غاية في حد ذاتها. لكن من المهم الإشارة إلى أن نهاية الحرب لن تساهم في تحقيق الاستقرار العالمي واستتبابه إلا إذا تم تحوير الأوضاع والظروف التي أدت في البداية إلى اندلاعها.
غولدبيرغ: ماذا يتحتم على الرئيس الأمريكي الجديد فعله ليعيد المصداقية أو التأثير إذا وقع اختيارك على هذه الكلمة؟
إن حقوق الإنسان تعتبر من أهم أهداف السياسة الأمريكية كما أن الأمر سيان بالنسبة للأمن الوطني.
كيسنجر: عادت الولايات المتحدة الأمريكية إلى السياسة الخارجية المتمركزة على الإستراتيجية المتوقعة والمضمونة. كما يجدر بالرئيس الجديد تولي منصبه وهو على يقين بأن وجهة نظره أو نظرها أن المصداقية محددة عن طريق ردة فعله تجاه الأزمات والقدرة على استنباط الحدس الذي تستوجبه الأزمات الحالية. وهذا يفترض تعريف واضحا لمدارات الاهتمام والأهداف التي ترتكز عليها السياسة الخارجية الأمريكية. إن أكبر تحدّ للرئيس القادم يكمن في كيفية توجيه السياسة الأمريكية نحو الثورات المندلعة في مختلف أنحاء العالم في نفس الوقت مع التغلب على الإرهاب. وخارج نطاق هذه العملية المتبعة في مختلف الحقب التاريخية ومن قبل العديد من الثقافات، فإن النظام العالمي الجديد يجب أن يتم إرساؤه وإن أخفقنا في ذلك، فإن البلاد ستتأرجح بين الأزمات دون أن تحرز الولايات المتحدة الأمريكية أو العالم أي تقدم يذكر.
إن تباين مواقف الولايات المتحدة الأمريكية حول مدى التزامها بالشأن السوري، لتي ظلّت تتخبّط بين تردد ورفض للتدخل العسكري لحل هذا النزاع، يعكس هذه الضروريات. وقد أعلنا بخصوص هذا الشأن الهدف وراء تنحّي بشار الأسد لكننا لم نتعهد بتقديم بديل لتفعيل هذا الهدف، وقد بدا أننا توقعنا أن الإطاحة بالأسد ستحدث بصورة أوتوماتيكية تبعا للنداء الذي وجهناه والذي سيؤدي مباشرة إلى تحقيق الديمقراطية. لكن الشعب السوري متنوع ويشهد العديد من النزاعات القائمة بين الأقليات الدينية والعرقية التي تتقاتل فيما بينها. وبالتالي، فإن اندلاع حرب أهلية بدل إرساء الديمقراطية بين إلى أي مدى كانت أهدافنا مأخوذة على محمل الجد. وفي هذا الإطار، كان من الجلي أنه لم تكن أي من الأقليات العديدة المتنازعة في سوريا من أجل بسط نفوذها مستعدة للتقيد بانتخابات. وفي خضم التداعيات التي ولدتها الحرب في العراق وأفغانستان والفيتنام، لم نكن نرغب في إلزام أنفسنا بتوفير التجهيزات العسكرية اللازمة لفرض نظام ديمقراطي. وتجدر الإشارة إلى أن ترسيخ مبادئ وقيم الديمقراطية في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تطلّب هزيمة الخصم كليا بالإضافة إلى الحفاظ على الاستثمارات الأمريكية في كلا البلدين. لكن احتراز الولايات المتحدة الأمريكية من إتباع أي سياسة في سوريا كانت له عواقب وخيمة لأن الإرهاب قد اغتنم فرصة وجود ثغرة بين الأهداف والإمكانيات والمفهوم الاستراتيجي.
السياسة الواقعية في مواجهة حقوق الإنسان
غولدبيرغ: إلى أي درجة يجب على القيادي الأمريكي أن يتقيد بمخاوف حقوق الإنسان أو الرهانات الأخلاقية في سبيل الاستقرار مقارنة بالسلط العليا؟
كيسنجر: لقد وظفت مصطلح “الاستقرار” عدة مرات في أسئلتك. يظل النظام العالمي مستقرا عندما تكون هناك حاجة ملحة للتحوير الذي يمكن أن يتحقق دون الإطاحة بالنظام عينه. وبالتالي فإن النظام يمكن أن ينزلق إلى الفوضى عندما تتمحور الرهانات الكبرى حول أسس هذا النظام: ثم يتطور مع إصدارات التوازن المتنافسة، لذلك قلّما تتاح خيارات واضحة المنهج لأنها دائما ما تتطلب إيجاد التوازن المطلوب بين الأمن وحقوق الإنسان.
غولدبيرغ: أعتقد أنك مناشد المعتقدين بأهمية الاستقرار العالمي.
كيسنجر: وهو كذلك، لكنني أؤمن أيضا بنظرية الاستقرار المتطورة كما أنني لا اعتقد بإمكانية الحفاظ على الوقت الراهن إلى الأبد. ويكمن الرهان هنا في كيفية تقسيم النظام بشكل يجعل حدوث أي تغيير طارئ مستوعبا دون توليد فوضى عارمة.
غولدبيرغ: إن مفهومك الخاص بالنظرية التطورية للاستقرار مثير للاهتمام.
كيسنجر: إنها من المفاهيم المركزية التي تقوم عليها فلسفتي.
بالنسبة إلى تاريخي الشخصي، فإن حقوق الإنسان ستظل دائما وأبدا من أهم محاور اهتماماتي لكن مع التعمق في دراسة التاريخ وخوض العديد من التجارب، تصبح الإجابة على سؤال كهذا دون مراوغة أو تناقض أمرا نادرا. إن الصناعة السياسية تتطلب المساومة والتسوية وأحيانا تقديم تضحيات كبيرة وستكون النتيجة المثلى لهذا؛ انتصار القيم الديمقراطية التي تحققت بفضل إتباع سياسة تولي أهمية كبرى للوقت.
غولدبيرغ: هل استحق الانفتاح على الصين كل تلك التضحيات وإزهاق الأرواح بسبب التجربة التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في أزمة الهند والصين وبنغلاديش؟
كيسنجر: إن حقوق الإنسان تعدّ من الغايات السامية للسياسة الأمريكية لكننا نولي أيضا أهمية كبرى للأمن القومي وهذا لا يعني أننا ملزمون باختيار أحدهما. وعلى الرغم من هذا المعطى، فإننا نوضع في مواقع تضطرنا إلى الاختيار بين الحفاظ على الأمن القومي من التهديدات الخارجية وبين إرساء ثقافة حقوق الإنسان. وفي بعض الحالات التي تنتج عن نشوب صراع في إحدى الدول المفصلية بالنسبة للأمن الأمريكي أو بالنظام العالمي ويرصد فيها إتباع لسياسة متعارضة مع مبادئنا، يتحتم على الرئيس اتخاذ الإجراءات اللازمة. وتتمثل هذه الإجراءات في جملة من القرارات التي تتخذها القيادة الأمريكية بشأن؛ حجم الصراع والموارد المتاحة لحله، كما يأخذ الرئيس بعين الاعتبار التداعيات المتوقعة للأفعال التي سيقدم عليها والمسار الذي سيسلكه مع ضمان تأييد الشعب الأمريكي له وتقدير مجهوداته.
والجدير بالذكر أن التركيز المفرط على مسألة حقوق الإنسان قد نتج عنه بناء دولة مزعزعة الأركان في العراق. كما أن غظ النظر عن هذه النتيجة الكارثية قد أدى إلى حدوث إبادة جماعية في رواندا. ومازال صناع السياسة المعاصرين في الولايات المتحدة الأمريكية يواجهون تحديات كبرى بخصوص هذه المسألة في جميع أنحاء العالم وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط.
لا يمكن لرجل الدولة أن يصل إلى الغايات التي يتوق إلى تحقيقها دون المرور بمراحل وذلك طبعا وفقا للمبادئ التي يرتكز عليها فن السياسة التي تبين أن النجاح في هذا المجال يتطلب التدرج في السلم السياسي مرورا بالإخفاقات ووصولا إلى النجاحات.
إن السؤال المطروح حول بنغلاديش يوضح كيف تداخلت المفاهيم والتبس الأمر على الساسة أثناء النقاش العام لهذه المسألة. ومن الجلي أنه لم يكن هناك خيارات متعددة بشأن الأزمة التي كانت تشهدها بنغلادش والمواصلة في مشروع الانفتاح الاقتصادي على الصين. من المستحيل الخوض في هذه المسالة والتطرق إلى جميع المواضيع المرتبطة بها وتناول جميع النقاط بالتفصيل في هذه المقابلة المقيدة بحيّز زمني مضبوط لكن هذا لا يمنع إمكانية توضيح بعض النقاط:
1- بدأ الانفتاح على الصين سنة 1969.
2- بدأت الأزمة في بنغلاديش في مارس/آذار سنة 1971.
3- وفي تلك الفترة الوجيزة، أجرينا جملة من التبادلات السرية للغاية مع الصين وكانت العلاقات بيننا على وشك أن تشهد انفراجا.
4- هذه التبادلات كانت تجرى عبر وساطة باكستان التي بدت أكثر طرف مناسب لرعاية المشاورات بين بكين وواشنطن.
5- أزمة بنغلاديش كانت في جوهرها مفتعلة من قبل الطرف البنغالي الذي كان يحاول الحصول على الاستقلال. لقد قاوم الباكستانيون ذلك بعنف شديد وانتهاكات مهولة لحقوق الإنسان.
6- كما أن إدانة هذه الانتهاكات الجسيمة والتنديد بها علنا كان ليدمر قناة التواصل الباكستانية التي كنا في أمس الحاجة إليها على مدى أشهر لاستكمال مشاوراتنا مع الصين التي انطلقت منذ البداية من باكستان. وقد كانت إدارة نيكسون تعتبر برنامج الانفتاح على الصين إمكانية دبلوماسية واعدة لإعادة صياغة العلاقات مع الإتحاد السوفيتي والسعي إلى تحقيق السلام. لكن الدبلوماسيين الأمريكيين الذي شهدوا المأساة في بنغلادش، تجاهلوا مشروع الانفتاح على الصين وحاولوا تنبيه الإدارة الأمريكية بحجم الكارثة الإنسانية غير أننا لم نستطع أن نندد بذلك علنا واكتفينا بتقديم المساعدات الغذائية لسكان المنطقة وتركيز جهودنا الدبلوماسية لتسوية الوضع.
7- بعد الانفتاح على الصين عبر باكستان، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تحث باكستان على منح بنغلاديش الحكم الذاتي. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، اتفق الرئيس الباكستاني مع نظيره الأمريكي على منحهم الاستقلال في مارس/آذار التالي.
8- وفي ديسمبر/كانون الأول، اجتاحت الهند شمال باكستان، بنغلاديش، بعد أن أبرمت معاهدة عسكرية مع الإتحاد السوفيتي مفادها إمدادها للهند بالمساعدات العسكرية اللازمة.
9- وفي تلك الفترة كانت الولايات المتحدة الأمريكية مجبرة على التعامل مع الضغوطات التي كان يسلطها الإتحاد السوفيتي فضلا عن الأهداف الهندية والقومية الباكستانية بالإضافة إلى الشكوك الصينية. لقد كانت التعديلات التي تحتم على الولايات المتحدة الأمريكية القيام بها كثيرة ولم تكن الإدارة مستعدة لتقديم أية اعتذارات بشأن النتائج التي أفضت إليها. وبحلول مارس/آذار سنة 1972 نالت بنغلاديش استقلالها بعد مرور أقل من سنة على اندلاع الأزمة في المنطقة وانتهت الحرب بين الهند وباكستان. وقد تم الإعلان عن النجاح في استكمال مشروع الانفتاح على الصين غداة القمة التي عقدت في بكين بتاريخ فبراير/شباط سنة 1972، أما قمة موسكو في مايو/أيار سنة 1972 فقد أسفرت عن توقيع اتفاق رئيسي للمراقبة الأسلحة النووية والمسمى باتفاق “سالت 1”. وعادت العلاقات إلى سابق عهدها مع الهند بحلول سنة 1974. كما تم إنشاء لجنة مشتركة بين الدولتين تعنى بالتعاون الاقتصادي والتجاري والعلمي والتكنولوجي والتعليمي والثقافي؛ الذي لا يزال جزءا لا يتجزأ من أسس العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والهند. ومقارنة بما آلت إليه النزاعات في سوريا، وليبيا، ومصر، والعراق، وأفغانستان، فإن التضحيات التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1971 لم تكن لها نتائج ملموسة.
غولدبيرغ: هل اطلعت على خطاب سامانثا عن القوة الذي تطرقت فيه إلى قيم السياسة الخارجية؟
كيسنجر: إنها من أعز أصدقائي لكنها تمتلك وجهة نظر مختلفة بعض الشيء عن وجهة نظري التي أحترمها بالطبع. لقد تناولت في تلك المناظرة المشاورات القائمة في منظمة الأمم المتحدة وأقرت بأنه من الجلي أن أغلبها يتمحور حول القيم والمصالح الأمريكية. أنا أشاطرها إلى أقصى حد نفس الرأي المتعلق بضرورة تأثير الحجج الأخلاقية على القرارات السياسية، لكن يجب أن تكون هذه الحجج متعلقة أيضا بمصالحنا الأمنية على المدى البعيد. أنا أشجعها فهي تقوم بعمل عظيم حتى لو كانت من أشد المنتقدات لي.
لنعد إلى أوباما، وإلى سياسته في تجنب المخاطر المحتملة المحدقة بالولايات المتحدة الأمريكية. إنني أعتبره سياسيا واقعيا جدا بما للكلمة من معنى، لكن ما راعني منه هو رؤيته لموقع الرئيس من منظور شخصي جعله يظن أنه قد أضفى أبعادا فريدة على هذا المنصب.
غولدبيرغ: على ما يبدو، لا وجود لضغط داخلي للقيام بأية تحركات إزاء الوضع في سوريا.
كيسنجر: لنفترض أن الأسد سيغادر السلطة غدا، فما الذي سنقوم به؟ ما الذي سيترتب عن القرارات الأخلاقية التي نتوعد فيها بمعاقبته؟ هل سننجح في إرساء الديمقراطية فقط من خلال الإطاحة به؟ وإن لم تكن الأمور بهذه السهولة، فما هو الهيكل الحكومي الأمثل الذي سيحول دون مضاعفة التهديد؟
غولدبيرغ: ماذا كنت لتفعل في رواندا؟
كيسنجر: بصفتي مراقبا أكاديميا لما يحدث في الساحة العالمية، كنت سأقوم بقصارى جهدي لأحول دون حدوث الإبادة الجماعية في رواندا وإزهاق آلاف الأرواح من الأبرياء، في حين أن العالم وقف مكتوف الأيدي وعاجزا عن مساعدتها. لولا ذلك لكانت تكلفة التدخل آنذاك منخفضة إلى حد ما. هل هذا ما كنت سأضطلع به لو كنت في ذلك المنصب؟ أنا حقا أتعاطف مع أولئك السياسيين الذين اضطروا مواجهة هذا التحدي فقد كانوا في موقف لا يحسدون عليه. وإلى حين انتهاء حرب الفيتنام، لم يكن باستطاعة الرئيس الأمريكي إرسال القوات الأمريكية إلى أية بؤرة توتر دون التعرض إلى هجوم معاد وفوري.
الصين
غولدبيرغ: هل العلاقات الصينية الأمريكية أكثر تبعية من الإرهاب؟
كيسنجر: إن للإرهاب تداعيات على آفاق النظام العالمي على المدى القصير على خلاف العلاقات مع الصين التي ستساهم في تشكيل أبعاد النظام العالمي على المدى البعيد. في المستقبل ستكون الولايات المتحدة والصين من أكثر الدول نفوذا وتأثيرا في العالم ولعل هذا ما نستشفه من سيطرتهما على الاقتصاد الدولي في الوقت الراهن. لكن يجب الإشارة إلى أن كلا القوتين ستشهد جملة من التحولات الداخلية غير المسبوقة. وإذا أردنا أن نخطو إلى الأمام في سبيل تحقيق هذه الغاية، توجب علينا محاولة تطوير فهم مشترك لكيفية التعاون بيننا لتحقيق التوازن المرجو في العالم. وكحد أدنى، يجب أن نتفق على الحد من خلافاتنا وتركيز جهودنا على بعث مشاريع مشتركة بيننا.
غولدبيرغ: كيف يجب أن يصوغ الرئيس الخامس والأربعون السياسة الأمريكية تجاه الصين؟
كيسنجر: بعد انقضاء السنوات الأولى على بناء الدولة، كانت الولايات المتحدة الأمريكية محظوظة بما يكفي كي لا تكون مهددة بالغزو أثناء فترة تطورها، ولعل ذلك يعود لموقعها الجغرافي لأن الأقدار شاءت أن تكون هذه الدولة محاطة باثنين من المحيطات العملاقة. ونتيجة للحصانة الجغرافية التي تتمتع بها الولايات المتحدة، كان تصورنا للسياسة الخارجية في شكل سلسلة من التحديات المنفصلة التي ينبغي الارتجال عند حدوثها ولم تكن قائمة على مخطط.
ولم نبدأ بالتفكير ماليا في وضع سياسة خارجية شاملة ومستديمة في فترة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما لم يطرأ ذلك التغير في طريقة تحليلنا للأوضاع العالمية سوى في ظل ظروف كانت نوعا ما هادئة. وطيلة عشرين سنة على الأقل، توخينا سياسة عقد التحالفات كوسيلة لإخماد الخلافات الناشئة مع بعض الأطراف ولتصميم إستراتيجية خاصة بنا. ومن الآن فصاعدا، يجب علينا وضع إستراتيجية أكثر مرونة لمواكبة التغيرات العالمية. ولتحقيق هذه الغاية، يتحتم علينا دراسة تاريخ وثقافة القوى الرئيسية الفاعلة في الساحة الدولية وإقحام أنفسنا باستمرار في الشأن الدولي.
غولدبيرغ: ماذا عن استمرار الشراكة مع الصين؟
كيسنجر: كانت الصين في معظم تاريخها تعيش في عزلة عن العالم والاستثناء الوحيد كان خلال السنوات المائة التي عاشت فيهم الصين تحت وطأة سيطرة المجتمعات الغربية. لم تكن لهذه الدولة أية نوايا للانخراط في النظام العالمي والارتباط بأي شكل من الأشكال مع العالم وخاصة الخروج من نطاق القارة الآسيوية. كما أنها كانت محاطة بمجموعة الدول الصغرى التي لم تكن لتعكر صفو السلام في تلك المنطقة. وإلى حين اندلاع ثورة ألوهين سنة 1911، كانت تدار علاقات الصين بالدول الأخرى من قبل وزارة المناسك”، التي تصنف كل بلد أجنبي باعتباره رافدا بالنسبة لبكين. ولم تعتمد الصين في نظرتها للعالم على مفهوم “الوستفاليا” لأنها لم تكن تعتبر الدول الأجنبية ندّا، لها كيانات متساوية.
غولدبيرغ: هل تعتقد أن هناك دولا متاخمة لحدود الصين لا تشعر أنها تتمّ معاملتها ككيانات متساوية؟
كيسنجر: إن الصين تشهد عملية تغيير داخلية هائلة. فقد وضع الرئيس شي جين بينغ هدفين نصب عينيه أطلق عليهما تسمية “المائويتين”، وهما باختصار تتمثلان في الاحتفال بالذكرى المائوية الأولى لتأسيس الحزب الشيوعي والدولة الشيوعية. وستكون الأولى سنة 2021، أما الثانية فستكون سنة 2049. وطيلة المدة الفاصلة بين المائويتين، ستصبح الصين مساوية لأية دولة حديثة أخرى. ووفقا لحساباتهم، ستصبح الصين قادرة على التساوي ماديا وإستراتيجيا مع الولايات المتحدة الأمريكية. كما يطرح بعض الخبراء الإستراتيجيين في الصين السؤال التالي: لو كنا مكان الولايات المتحدة الأمريكية وحرمنا الدول الأخرى من الوصول إلى المكانة التي نحتلها لتصبح ندا لنا، ألن يشكل هذا مصدرا للتوتر بينها وبين الدول التي تسعى إلى تحقيق ذلك؟
وفقا للمشاورات الداخلية القائمة في الصين، فإن هناك إجابتين على سؤالك. بالنسبة للمتشددين، فإن الولايات المتحدة تشهد فترة تراجع واضحة مما سيزيد فرص تفوقهم عليها، فهم يشجعون قيام الصين بمثل هذه المبادرة ويقولون “لما لا إذا كنا نتمتع بالمقومات اللازمة لندخل في غمار حرب باردة”. أما بالنسبة لوجهة النظر الثانية التي يمثلها الرئيس شي، فإن المواجهة تعد مجازفة خطرة جدا لأن قيادة الصين لحرب باردة ضد الولايات المتحدة في هذا التوقيت بالذات ستحول دون تحقيقها للأهداف الاقتصادية المرجوة. كما أن الدخول في حرب طاحنة مع تواجد أسلحة الدمار الشامل قد ينجر عنه كارثة بشرية تفوق في خسائرها ما تسببت فيه ويلات الحرب العالمية الأولى، ومن المحتمل أن لا يكون هناك فائز أصلا. كما يجب الأخذ بعين الاعتبار أن السياسة المعاصرة تتطلب عمل الخصوم معا في إطار الشراكة والتعاون لتحقيق مصالح كلا الطرفين.
غولدبيرغ: إذن هل تعتبر الرئيس الصيني معتدلا؟
كيسنجر: لقد وضع الرئيس شي هدفين أساسيين للصين؛ أولهما يتمثل في جعل “آسيا حكرا على الآسيويين” والثاني يتمثل في الحرص على تحويل الخصوم إلى شركاء. حسب رأيي، يجب أن نحاول تركيز جهود أكبر على الهدف الثاني وجعله إطارا للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة. كما أظن أنه علينا الاستفادة من وجهة نظر الصينيين السديدة التي تختلف تماما عن وجهة نظرنا. علينا أن نحشد قواتنا وندمج قدراتنا الدبلوماسية والعسكرية معا إذا أردنا الصمود ومواكبة معطيات العصر الجديدة. لكن هل هذا ممكن في عالم محكوم بترسانة من أسلحة الدمار الشامل وإمكانيات الرقمية الواعدة؟
إن من العقبات التي تحول دون تحقيق مثل هذه الشراكة هي الفجوة الثقافية؛ فالطرف الأميركي يرى العالم من منظور السلام الدائم إذ لا يكون الوضع العالمي طبيعيا إلا عندما يعم السلام ويستتب الأمن. وإن تعكّرت الأوضاع، فمن البديهي أن يكون ذلك مفتعلا، وبالتالي لن يهدأ لهم بال إلا إذا تغلبوا على ذلك العدو وأعادوا العالم إلى سابق عهده.
وعلى نقيض ذلك، فإن الصينيين لا يؤمنون بوجود حلول دائمة؛ فبالنسبة لبكين الحل هو مجرد تذكرة للدخول في مأزق آخر ولعل هذا ما يفسر اهتمامهم بالنزعات والاتجاهات فتجدهم دائما يسألون أسئلة من قبيل “إلى أين أنت ذاهب؟ وكيف سيبدو العالم بعد خمسة عشر سنة؟ “
وكنتيجة لهذه الهوة الثقافية، فإن اجتماع الرئيس الصيني بنظيره الأمريكي ستكون نتائجه غامضة. لكن عموما المشاورات ما تزال قائمة بين كلا الطرفين بشأن تغير المناخ والقضايا المعاصرة على المدى القريب والمخاوف الاقتصادية. ولكن بالنظر إلى ضغط الوقت ووسائل الإعلام، فإن جدول الأعمال الأساسي المتعلق بتطوير نظرة مستقبلية مشتركة تم إعطاؤه أهمية أقل مما يستحق.
غولدبيرغ: كيف تقيم أداء الرئيس أوباما وإدارته للعلاقات الدبلوماسية الصينية؟
كيسنجر: أظن أنه يستحق علامة جيد جدا
غولدبيرغ: إنها حقا علامة جيدة
كيسنجر: أعطيته مثل هذه العلامة وفقا للمعايير الحالية لكن علامته ستكون أسوأ نظرا لبداية تدهور العلاقات الصينية الأمريكية وذلك لأنه قدم حلولا وقتية لا بأس بها لكنه لم يقدم إضافات تساعد على تعزيز علاقتنا مع الصين على المدى البعيد.
غولدبيرغ: هل تعتقد أن الصين شهدت في تاريخها فترة انحطاط؟
كيسنجر: نعم لقد شهدت الصين فترة إنحطاط في تاريخها لأن الصينيين كانوا يظنون أن مملكتهم كانت مركز آسيا حيث كان للاحتلال الأوروبي لأجزاء من أقاليمها في القرن التاسع عشر بمثابة صدمة لهم، وهي لا تزال تعاني من آثار هذه الصدمة إلى يومنا هذا. كما تعتقد الصين المعاصرة أنها ستعود يوما إلى مكانتها التاريخية المرموقة.
وهناك فرق آخر لا يجب المرور عليه مرور الكرام ألا وهو أن كلا البلدين يعتبران نفسيهما استثنائيين؛ إذ تعتقد الولايات المتحدة أن لدينا “استثنائية” تخول لنا أخذ مهمة تثقيف الآخرين على عاتقنا لأنه في حال اعتنقت الشعوب الأخرى مبادئنا، فسوف يكون العالم أكثر أمنا واستقرارا.
لكن الصينيين لا يسعون إلى جعل الشعوب الأخرى تعتنق مبادئهم لأنه حسب وجهة نظرهم إن كنت لا تنتمي إلى الثقافة الصينية فلا يمكنك أن تصبح صينيا. وبالتالي، فهي تشعر أن الأمريكيين لا يملكون أي حق أخلاقي للتدخل في شؤونها الداخلية. ويكمن وجه الشبه بينها في جعل الصين لعظمة أدائهما سببا وجيها لتهابها المجتمعات الأخرى التي سوف تضطر إلى تبني مبادئها وتحرص على إتباع ما يكفي من النمط الصيني لتصبح رافدا من الروافد السياسية والثقافية المتساوية معها وحينها فقط يمكن لهذه القوة أن تعترف به وتنهل منه.
غولدبيرغ: لكن الولايات المتحدة تقف بالمرصاد لمثل هذا التوجه أي “آسيا للآسيويين” الذي يعني بالضرورة أن آسيا ستكون حكرا على الصينيين.
كيسنجر: يعتقد الصينيون تاريخيا أن أي طرف حكيم سيتقبل هذه الحقيقة برحابة صدر. ولتحقيق ما يصبون إليه قد يستخدمون القوة العسكرية، على عكس نظيرهم الروسي، بهدف إقناع الأطراف الأخرى وليس لاحتلالها. أما بالنسبة لنا، فقد خضنا حاربا ضروسا في الفيتنام لمساعدة الشعب الفيتنامي في انتقاله النوعي إلى شعب ديمقراطي. بينما احتلت الصين المحافظات الشمالية لمدة أربعة أشهر لتعلم الفيتناميين قواعد النظام وبعبارة “دنغ” الفيتنامية، “لتعليمهم الاحترام”.
غولدبيرغ: هذا دقيق جدا، إن كنت رئيس الولايات المتحدة وتحاول تكوين نظام تحالفات مع دول تهاب الصين.
كيسينجر: بالتأكيد.
غولدبيرغ: هل هناك رؤية واضحة حول ما ستؤول إليه الحرب بين الولايات المتحدة والصين؟
كيسنجر: نظرا للأسلحة التي تمتلكها كلا الدولتين فإن الصراع العسكري بينهما ستنجر عنه كارثة، حيث أنه سيجبر العالم على الانقسام. كما أنها يمكن أن تنتهي بدمار وليس بالضرورة بفوز طرف واحد، الذي من الصعب تحديده. فحتى إن استطعنا تحديد معنى النصر، فمن الصعب التكهن بماذا سيطلب الرابح من الخاسر، وأنا هنا لا أتكلم ليس فقط عن المعدات العسكرية وإنما عن العواقب التي لا تحصى ولا تعد التي ستخلفها استخدام هذه الأسلحة على غرار الأسلحة السيبرانية . لقد أكدت المفاوضات التقليدية ضرورة إعلام كل طرف الآخر بقدراته العسكرية وذلك للحد من التسلح. لكن في ظل الحرب السيبرانية، فكلا الطرفين سيكونان مترددان في الإفصاح عن قدراتهم. وبالتالي لا توجد أية وسيلة لاحتواء الحرب السيبرانية. كما سيزيد الذكاء الاصطناعي من حدة الوضع. إن الآلات لها القدرة على التعلم من تجربتها الخاصة والتواصل مع بعضها البعض ولها القدرة أيضا على التقدم ماديا وأخلاقيا لإيجاد حل لمنع الجنس البشري من تدمير نفسه. لذلك على الولايات المتحدة والصين إيجاد حل وسط.
غولدبيرغ: لمجرد الإيضاح، فاستقرار العالم إذن مرتبط بمدى تفاهم أقوى دولتين في العالم.
كيسنجر: وهو ما يتطلب الشفافية بين الطرفين للإفصاح عن دوافعهم، وهو ما يبدو غريبا جدا للدبلوماسيين التقليديين.
غولدبيرغ: هل تبدو غريبة بالنسبة لك؟
كيسنجر: إلى حد ما، لكن إن كنت قد تطرقت لنصوص محادثاتي مع تشو ان لاى، (رئيس الوزراء الذي التقى به كيسنجر سرا سنة 1971 كجزء من الجهود الرامية لتحسين العلاقات بين الدولتين) فستلاحظ شيئين، الأول هو أننا كنا محظوظين، فليس لدينا علاقة عملية لنتحدث عنها ما عدا تايوان -والتي وضعناها جانبا- ومن أجل بناء علاقة تقوم على الثقة المتبادلة، كان علينا أن نفصح عن فلسفاتنا فيما يخص النظام العالمي. أما الشيء الثاني، ونتيجة لذلك، لقد كنا مثل أستاذين جامعيين نناقش طبيعة العالم ومستقبله.
هذا النوع من الحوارات ليس بالجديد على للولايات المتحدة والصين؛ فالقادة يجتمعون لإجراء محادثات مفيدة بمعنى أن هناك بنود عملية مهمة يجب دراستها والعمل عليها. ولكن الصين أحبطت مثل هذه المحادثات. فالمواضيع التي يريدون مناقشتها فلسفية بحتة وليس هذا الوقت المناسب لطرحها. “فإذا كنا في مكانك، وأردنا أن نحبط تقدمك فهل تقوم أنت بقمعنا؟ وإذا لم تقم بذلك، كيف سيكون العالم مع دولتين بنفس القوة، هل يمكن توقع بذلك؟
غولدبيرغ: ما هو الأسلوب الذي يجب على الرئيس أن يعتمده لحل المشاكل مع الصين؟
كيسنجر: من المهم أن نفهم الفرق بين نظرتنا ونظرة الصينيين للمشاكل العالقة، فالأمريكيون يعتقدون أن الحالة الطبيعية للعالم هي الاستقرار والتطور، وإذا كانت هنالك مشكلة فإنه يمكن القضاء عليها عبر تجنيد كل القدرات والموارد المتاحة، ثم بعد الانتهاء من تلك المهمة يمكن لأمريكا أن تعود لحالة العزلة. أما الصينيون في المقابل، فهم يرون أنه لا وجود لمشكلة يمكن القضاء عليها بشكل نهائي، ولذلك فإنه عندما تتكلم مع الخبراء الذين يحددون الاستراتيجيات الصينية يحدثونك عن مسار طويل وليس عن وضع مؤقت، بينما عندما تتكلم مع واضعي الإستراتيجية في أمريكا فإنهم يحاولون غالبا البحث عن حلول نهائية.
غولدبيرغ: كيف تفهم إستراتيجية الصين في الوقت الحاضر؟
كيسنجر: هنالك تفسيران محتملان لإستراتيجية الصين، الأول يفترض أن الصين تعتقد أن العالم يسير نحو ترجيح كفتها، وأنها في النهاية سوف تسيطر عليه بشكل ما، ولذلك يسعى الصينيون لجعلنا نحن نبقى صامتين خلال حدوث هذه التغيرات لفائدتهم.
غولدبيرغ: وهل تعتقد فعلا أن دورة التاريخ تسير لصالحهم؟
كيسنجر: بعض الخبراء في الصين يعتقدون ذلك. أما الفرضية الثانية التي يمكن من خلالها تفسير إستراتيجيتهم، فهي تتمثل في أنهم يعتقدون أن سيرورة التاريخ تختزل في صراع حتمي بين الدول التي تملك التكنولوجيا مثل الصين وأمريكا، ومن أجل تجنب المخاطر الناجمة عن استعمالها، فإنه سيتوجب على هذه الدول إيجاد صيغة للتعاون فيما بينها.
أعتقد أن هذا هو رأي الرئيس الصيني، ولكنه لن يكون بمقدورنا تحديد الفرضية الصحيحة قبل مرور حوالي 20 سنة، وفي الأثناء فإن سياساتنا يجب أن تكون أكثر شمولية ومرونة حتى تستوعب كلا الفرضيتين.
غولدبيرغ: هل كان أوباما عدائيا أكثر من اللازم مع الصين؟
كيسنجر: لا لم يكن عدائيا أكثر من اللازم، ولكنه كان يفكر على المدى القصير، وإذا أردنا فعلا تطوير علاقتنا مع الصين فيجب أن يكون هنالك تواصل بين الجانبين حول التوجهات العامة.
غولدبيرغ: هل تشعر بالخوف من أن يقوم ترامب بتوتير الأجواء والتسبب بحرب اقتصادية مع الصين؟
كيسنجر: لا شيء في هذا العالم يؤثر على التوازن والسلام الدولي أكثر من استقرار العلاقات بين أمريكا والصين. وقد وصف الرئيس الصيني “شي جين بينغ” الترابط الاقتصادي بين البلدين بأنه القاعدة والدافع الأساسي للعلاقات الثنائية، ولذلك فإن حربا اقتصادية قد تدمر كلا البلدين.
غولدبيرغ: أنت تتواصل مع كبار المسؤولين الصينيين طوال الوقت، كيف كان رد فعلهم حول تهديدات ترامب بحرب اقتصادية؟
كيسنجر: أول ردة فعل حول تصريحات ترامب كانت الصدمة، ليس بسبب شخصيته هو، ولكن لأن المشهد السياسي الأمريكي أنتج هذا النوع من النقاش الذي يتعارض مع طبيعة هذا البلد، لقد قالوا في أول رد فعل لهم: “هل يعني هذا أننا سندخل في مواجهة حتمية مع الولايات المتحدة؟”.
غولدبيرغ: ما الذي يعنيه إجماع الحزبين الديمقراطي والجمهوري على معارضة اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ؟
كيسنجر: يعكس ذلك رغبة في الانسحاب من المشهد الدولي، وتراجعا عن التزام كلا الحزبين في الماضي بهذه التوجهات، وهو ما كان يميز السياسة الخارجية الأمريكية طوال نصف قرن.
غولدبيرغ: هل هذه مقاربة جديدة لحماية الأمن القومي؟
كيسنجر: لا أتفق على أن سياسة الأمن القومي يجب أن تكون مرتبطة بسياسات “احتواء الصين”، من المهم بالنسبة إلينا أن نكون متواجدين في آسيا على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لا يمكننا أن نتحدث عن توازن في آسيا إلا إذا وفرنا البعض من شروطه، ومن بينها اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. ولكن في نفس الوقت، يجب أن نكون منفتحين على الصين ويجب أن يكون واضحا أنه بمقدور الصين أن تكون جزء من هذا الاتفاق، لنضمن أن المنافسة الاقتصادية بيننا سوف لن تخرج عن إطارها وسيكون خيار التعاون والتكامل بيننا دائما قائما. أما الاحتواء العسكري للصين فهذه سياسة يجب أن تكون آخر خيار نذهب إليه.
غولدبيرغ: وهل تمثل التجارة مشكلة بيننا؟
كيسنجر: إنها تمثل إحدى المشاكل، ولذلك فمن الضروري أن تكون الخطوة المقبلة بعد تنصيب الرئيس هي تعيين شخص في البيت الأبيض يكون مسؤولا عن سياستنا تجاه الصين. هذا الشخص يمكنه مراقبة سير العلاقة بشكل جيد وإطلاع الرئيس عليها.
روسيا
غولدبيرغ: هل يمكننا إعادة إطلاق العلاقات مع روسيا؟
كيسنجر: “إعادة إطلاق” هي عبارة غير مناسبة في هذا السياق، ولذلك أفضل اعتماد عبارة “التأقلم مع الظروف الجديدة في هذا العالم المتغير”. السؤال الذي يُطرح الآن هو هل أن كلا البلدين قادران على تحقيق الحد الأدنى من أهدافهما الأمنية والتعاون في نفس الوقت من أجل تحقيق الاستقرار في المناطق القريبة منهما؟ هذه ستكون معادلة رائعة وضرورية جدا.
غولدبيرغ: لماذا لم تنجح عملية إعادة الإطلاق التي تمت في السابق؟
كيسنجر: خلال تلك الفترة كان ديميتري مدفيديف هو الرئيس، وكان بوتين يشغل منصب رئيس الوزراء بسبب إكراه الدستور الروسي الذي لا يسمح للرئيس بأكثر من عهدتين متتاليتين (يجب على الرئيس أن يتنحى لعهدة رئاسية واحدة على الأقل ليترشح مجددا). خلال تلك الفترة، قلص البيت الأبيض من تواصله مع بوتين، حيث كان البعض في الإدارة الأمريكية يأملون في أن ينجح مدفيديف في استغلال الفرصة والتخلص من بوتين عبر إعفائه من مهامه كرئيس للوزراء، باعتبار أن الدستور الروسي يسمح بذلك، وهو ما يمكن أن يوفر لروسيا فرصة لسلك طريق أكثر ديمقراطية، على غرار بقية دول شرق أوروبا العضوة في حلف الناتو.
وحين عاد بوتين لسدة الرئاسة في سنة 2012 انهارت المساعي لإعادة إطلاق العلاقات بين البلدين، ولفهم بوتين يجب علينا أن نقرأ كتابات “دوستويفسكي”، وليس كتاب “كفاحي” لهتلر. بوتين يعرف أن روسيا أكثر ضعفا من أي وقت مضى، ومن الواضح أنها أضعف من الولايات المتحدة، ولكن هو يقود البلد الذي كان يعتبر نفسه طيلة قرون من الزمن قوة إمبريالية عظمى، إلا أن كل هذا المجد الذي بناه الروس تبخر فجأة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. كما تعاني روسيا من تهديدات إستراتيجية من كل الجوانب، متمثلة خاصة في كابوس ديمغرافي قرب الحدود الصينية، وكابوس إيديولوجي متمثل في الفكر الإسلامي المتشدد الذي بدأ ينتشر عبر حدودها الجنوبية. أما من الجهة الغربية، هنالك أوروبا التي تخوض تحديا تاريخيا ضد موسكو، ولكن في ظل هذه التهديدات تسعى موسكو لانتزاع اعتراف دولي بكونها قوة عظمى تتعامل بندية مع الولايات المتحدة، وليست قوة خاضعة كما تريدها واشنطن.
إن الافتراض الذي يفيد أن روسيا هي دولة مشابهة لبقية الدول العضوة في حلف الناتو، مجرّد افتراض خاطئ ينم عن جهل بالتاريخ، فبينما بنيت أمريكا على يد أناس كان يحركهم الإيمان والجرأة لاكتشاف أراض جديدة، بنيت روسيا من قبل نخبة كانت ترسل الخدم والعبيد للحقول البعيدة، وبنيت على يد القياصرة الذين كانوا يحددون قطعة الأرض التي يريدون تحويلها إلى مدينة على غرار مدينة “سان بطرسبورغ”. إن الروس مرتبطون بأرضهم بنوع من الرباط الروحي، نظرا لما عانوه من صعوبات وما يحملونه من آمال.
لقد عاشوا لقرون تحت حكم المغول، ثم لما جاء تشارلز الثاني عشر ملك السويد لغزو روسيا، كان يعتقد أنه من السهل إجبار السكان المحليين على قبول أن يحكمهم سويدي، إلا أنه فوجئ بأن الفلاحين الروس بدؤوا بحرق محصولهم الزراعي لكي يحرموا الغزاة من الغذاء، وكانوا مستعدين ليتضوروا جوعا ويموتوا على أن يسمحوا للأجنبي بأن يسيطر على بلدهم. حينها كان تشارلز الثاني عشر قد عبر أوروبا بأكملها ولم ير شيئا مماثلا، ولذلك فقد أجبرت جيوشه على الذهاب جنوبا نحو أوكرانيا حتى تبقى على قيد الحياة، وفي النهاية تعرضوا للهزيمة.
أنا أسرد كل هذه الحقائق حتى أؤكد أنه ليس من الممكن أن نفرض على روسيا الانصهار داخل النظام العالمي، إن الأمر يتطلب التفاوض وعقد التسويات، وإيجاد التفاهمات المشتركة. إن المجتمع الروسي معقد وفريد من نوعه، ويجب التعامل مع هذا البلد عبر تجريده من خيارات العسكرية ولكن بشكل لا يجرده من كرامته ولا يهين تاريخه العريق. وبنفس الأسلوب يجب على روسيا أن تتعلم درسا رفضت إلى حد الآن استيعابه، وهو أن إصرارها على التعامل بندية لن يكسبها احترام الطرف الآخر، وأنه لا فائدة من فرض شروط أحادية الجانب واستعراض القوة في كل مناسبة.
غولدبيرغ: كيف يمكن للرئيس المقبل الخروج من هذا المأزق؟
كيسنجر: هنالك مدرستان فكريتان في هذا السياق، الأولى تقول إن روسيا انتهكت القانون الدولي عبر إلحاق شبه جزيرة القرم، ولذلك يجب تلقينها درسا قاسيا كما حصل خلال الحرب الباردة، ويجب علينا إجبارها على إعادة علاقاتها مع أوكرانيا من خلال عزلها وفرض العقوبات، وإذا انهارت خلال ذلك فليكن هو الثمن الذي يجب عليها دفعه، ولتكن تلك فرصة لإعادة توزيع الأدوار في النظام العالمي.
هذا هو الرأي السائد في صفوف الديمقراطيين اليساريين، والجمهوريين المؤمنين بالليبرالية الجديدة. أما النظرية الثانية، وهي التي أؤمن بها أنا وأقلية من الآخرين، فهي أن روسيا هي بلد شاسع يمر بأزمات داخلية سوف تؤدي في النهاية لإعادة تشكيل هذا البلد. ولذلك يجب علينا مقاومة إغراء القوة العسكرية وعدم اللجوء لهذا الخيار، ولكن في نفس الوقت يجب على روسيا أن تعلم أن هذا الخيار سوف يظل قائما، فنحن سنفوز على الأرجح في حال دخولنا في حرب باردة جديدة، ولكن رجال الدولة الحقيقيين يجب عليهم أن يفهموا جيدا الحدود التي لا يمكن تجاوزها. ليس من مصلحة أمريكا أن تتحول روسيا إلى دولة ممزقة ومنهارة مثلما كانت عليها يوغسلافيا بعد سقوط “تيتو”، وتغرق في الصراعات من “سانت بطرسبورغ” إلى “فلاديفوستوك”، وتدخل في صراعات في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.
لا يجب النظر إلى روسيا على أنها دولة يمكن ضمها إلى حلف الناتو، لأن ذلك سوف يثير جنونها ويعمق الأزمة التي يواجهها الغرب الآن في أوكرانيا، بل يجب أن يكون الهدف هو إيجاد صيغة دبلوماسية لإدماج روسيا في نظام عالمي يسمح بالتعاون بين البلدين.
لقد أصبحت أوكرانيا رمزا لهذه الأزمة، وفي نفس الوقت تمثل الحل لتجاوزها، يجب أن نكون عازمين على الوقوف ضد أي نية لاستعمال الحلول العسكرية، ولكن نحتاج أيضا أن نتناول المسألة من منظور أمني، حتى نربط بين أساليبنا الدبلوماسية ومصالحنا الإستراتيجية. إذا أردنا فرض حدود أمنية لحلف الناتو في الجانب الشرقي من أوكرانيا، فسيجعل ذلك هذه الحدود على بعد 300 ميل فقط من موسكو، وبالنسبة للكرملين فإن هذا سيمثل تطورا خطيرا وتغييرا للحدود التي تم ضبطها بين المعسكرين خلال الحرب الباردة، والممتدة على بعد ألف ميل غرب نهر “إلبه”.
وفي نفس الوقت فإن إصرار روسيا على فرض حدود أمنية لها في الجانب الشرقي من أوكرانيا يجعل هذه الحدود على مستوى بولندا وسلوفاكيا والمجر، وهي دول لا تزال تذكر جيدا فترة الاحتلال الروسي، ولذلك لن تقبل بهذا التغيير. عوضا عن ذلك يجب النظر إلى أوكرانيا على أنها جسر بين حلف الناتو من جهة، وروسيا من جهة أخرى، وليس على أنها نقطة أمنية متقدمة لكليهما. يمكن لروسيا المساهمة في هذا الحل عبر التخلي عن طموحاتها بجعل أوكرانيا دولة تابعة تدور في فلكها، أما الولايات المتحدة ودول أوروبا فعليها وقف مساعيها لجعل أوكرانيا امتدادا آخر للمنظومة الأمنية الغربية. هذا الحل يمكن أن يجعل أوكرانيا دولة تلعب دورا في النظام العالمي مشابها للنمسا وفنلندا، حيث تكون حرة وقادرة على إدارة علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع كلا الطرفين الغربي والروسي، دون أن تدخل في حسابات عسكرية وتحالفات أمنية.
ويرى أنصار توسع حلف الناتو أن روسيا لا يجب عليها أن تقلق من إمكانية التعرض لهجوم من قبل هذا الحلف، لأنه لا نية له في مهاجمة موسكو، إلا أن تجارب التاريخ تجبر قادة روسيا على مواصلة مراقبة وتقييم القدرات العسكرية لجيرانهم. هذا الحل الذي شرحته الآن قد يكون التفاوض بشأنه أمرا صعبا جدا، ولا يمكن تحقيقه بمجرد الدخول إلى مبنى الكرملين وطرحه على الطاولة بكل بساطة. ومثل كل الاتفاقات السابقة مع موسكو، سيحتاج هذا أيضا إلى أن نفهم جيدا الروح الروسية ونحترم التاريخ الروسي، وتكون هنالك في نفس الوقت القوة العسكرية اللازمة لإجبار الروس على استبعاد هذا الخيار.
غولدبيرغ: هل فقدنا مصداقيتنا أمام روسيا بسبب أدائنا في سوريا؟
كسينجر: خلال بداية عهدته الرئاسية في سنة 2001، حاول بوتين التعامل مع أمريكا على أساس أنها شريك استراتيجي محتمل، خاصة في مواجهة المنظمات الإسلامية المتشددة. ولكن منذ قيام أمريكا بمساندة الثورة البرتقالية في أوكرانيا في سنة 2004، أقنع بوتين نفسه شيئا فشيئا بأن الولايات المتحدة هي خصم وليست شريك، وبات يعتقد أن أمريكا ترى أن من مصلحتها إضعاف روسيا، وبالتالي أصبح بوتين ينظر إليها على أنها منافس ٱخر مثل الصين وبقية الدول.
وعلى الرغم من أن هذا لا ينفي إمكانية إقامة علاقات أفضل بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن دوافع بوتين للتعاون في الحاضر بدأت تتضاءل وأصبحت أقل مما كانت عليه عندما تحدث عن شراكة إستراتيجية بين البلدين في سنة 2001. والتحدي الذي نواجهه الآن هو هل يستطيع البلدان إعادة تقييم الوضع الراهن والمصالح القومية المتضاربة بين البلدين.
غولدبيرغ: لو كنت صاحب القرار، هل كنت لتسلم أوكرانيا لروسيا لتحصل في المقابل على أقصى ما يمكن من التعاون في إدارة الشرق الأوسط؟
كيسنجر: لا، أنا أفضل أن تكون أوكرانيا مستقلة وغير منتمية عسكريا. إذا نزعنا من أوكرانيا منطقة دونباس، فإن هذا البلد سيكون إلى الأبد معاديا لروسيا. والحل إذا هو إيجاد طريقة لمنح هؤلاء المتمردين نوعا من الحكم الذاتي، يوفر لهم صوتا في الصراعات العسكرية ولكن في نفس الوقت يتركهم تحت إدارة أوكرانيا.
غولدبيرغ: لا أرى أن رأيك يختلف كثيرا عن رأي أوباما حول مسألة أوكرانيا.
كيسنجر: نحن لا نختلف على الهدف المتمثل في الحفاظ على استقلال أوكرانيا. تقنيا هدف أوباما هو إجبار روسيا على القبول بهذا الأمر، أما أنا فإنني أحاول أن أجعل روسيا شريكا في الحل.
الشرق الأوسط في خضم التغييرات
غولدبيرغ: ما هي رؤيتك حول السياسة التي يجب أن تعتمدها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟
كيسنجر: أعتقد أن الحديث الذي طال حول وجود خط أحمر في سوريا كان انحرافا تكتيكيا. المشكلة الأكثر عمقا كانت غياب رؤية إستراتيجية للولايات المتحدة. وطبيعة الصراع بين مختلف المجموعات يحتاج إلى الفهم، فسوريا يوجد فيها المسلمون السنة والشيعة والأكراد والدروز والعلويون، وكل طائفة من هؤلاء تبحث عن تحقيق أهدافها وتحركها هواجسها لإقصاء الآخرين، وخليط الصراعات الذي تشهده سوريا الآن يتم تحريكه من الخارج. فالصراع القديم بين الشيعة والسنة يؤدي إلى نوع من التمرس والعداء بين مختلف الطوائف، ولكنه ليس العامل الوحيد الذي أدى للانقسامات الراهنة. فالعلويون الذين هم فرقة من الشيعة، يعتبرون ألد أعداء تنظيم الدولة الذي يمثل نموذجا متشددا من الفكر السني، ولكن العلويين في نفس الوقت يقفون ضد أي حلول ديمقراطية في سوريا.
هذا الخليط في سوريا يزداد خطورة بسبب تدخل القوى الأجنبية، فروسيا مثلا تحركها ثلاثة أهداف رئيسية: أولا السعي لتغيير الوضع الذي أسفرت عنه الحرب بين العرب وإسرائيل في سنة 1973 والذي أدى لتقليص مساحة النفوذ الروسي في المنطقة، ثانيا من أجل حماية قاعدتها البحرية في اللاذقية، وثالثا وقبل كل شيء لمراقبة نشاط المنظمات الإرهابية، التي يمكن أن تصل مستقبلا إلى روسيا خاصة عبر منطقة القوقاز، إذا انهار نظام الأسد واستفادت هذه المنظمات من الفراغ. أما إيران فهي تدعم الأسد ليس فقط في إطار حلف شيعي، بل أيضا لأنها تحلم بإعادة إحياء الإمبراطورية الفارسية القديمة، التي كانت تمتد من حدود الصين إلى عمق الشرق الأوسط. أما الموقف الأمريكي وسط كل هذه الصراعات فهو كان يهدف إلى الخروج بحكومة وحدة وطنية قادرة على إدارة سوريا موحدة. ولكن بالنسبة لهذه الطوائف العرقية والمجموعات الدينية المتعددة في سوريا، فإن القبول بانتخابات وطنية هو أمر غير وارد تماما، إذ أنها كلها تؤمن بأن فريقا واحدا فقط سيخرج فائزا من هذا الصراع، أما البقية المنهزمة فسيكون مصيرها التطهير العرقي.
ولذلك فإن أفضل حل للجمع بين التطلعات الديمقراطية المشروعة هنا وحقيقة الوضع في سوريا هو إنشاء دولة تقوم على الكنتونات، وتقسيم البلاد إلى مناطق بحسب الطائفة الموجودة فيها. بعد ذلك يمكن إنشاء انتخابات جزئية في كل واحد من هذه الكنتونات لاختيار من يعبر عن مشاغل وخيارات كل واحد من المجموعات الموجودة في سوريا في منطقته الخاصة، وانطلاقا من هذا العمل يمكن السير بعد ذلك في طريقين:
- دولة سورية بنظام فيدرالي منصوص عليه في الدستور، قادرة على إقامة انتخابات وطنية تضمن للأقليات حقوقها وتحقيق تطلعاتها مع مرور الوقت.
- إتاحة مخرج لبشار الأسد، الذي لا يمكنه أن يكون في المستقبل قائدا لسوريا كاملة وموحدة ولكن يمكنه على الأرجح أن يقبل بفترة انتقالية تدوم بين عشرة واثنا عشر شهرا، يتراجع خلالها نحو الجزء العلوي من البلاد ثم يغادر سوريا نهائيا.
إذا تم بذل هذه الجهود فإن روسيا على الأرجح ستقبل بالتعاون، والمخرج الوحيد الذي يمكن البناء عليه سيكون إيجاد تسوية داخلية تشرف عليها القوى الخارجية التي تتصارع الآن في سوريا، هذا بالضبط ما أعتقد أن وزير الخارجية الحالي جون كيري يحاول بشكل ما تحقيقه.
إن الحملة العسكرية الجارية حاليا ضد تنظيم الدولة تعكس المعضلة التي تعيشها سوريا، حيث أن الجهود المبذولة تتجاهل مسألة أساسية وهي تحديد من سيدير المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة حاليا إذا نجحت الحملة العسكرية في القضاء على هذا التنظيم، كما أن هذه الجهود تغض النظر عن طبيعة القوى العسكرية التي تشارك الآن في هذه العمليات، رغم أن نوع هذه القوى وخلفياتها سيكون أمرا محوريا في عملية البناء السياسي في المستقبل بعد دحر التنظيم، فنحن باسم سيادة الدولة العراقية نقوم بتدريب الجيش العراقي. ولكن بما أن هذا الجيش في معظمه ينتمي إلى الطائفة الشيعية، والحكومة المسيطرة في بغداد أغلبها تابعة لطهران، فإن أي منطقة تابعة الآن لتنظيم الدولة وينجح الشيعة في استعادتها في المستقبل ستساهم في توسيع هذا الهلال الشيعي الكبير والممتد من طهران إلى بغداد وبيروت، سيمثل هذا خطوة كبيرة في سياق الجهود التي تبذلها إيران لإقامة إمبراطوريتها، وهو أمر يعتزم السنة، وخاصة المملكة السعودية، منع حدوثه بأي ثمن. ولهذا فإن أهدافنا العسكرية الٱن لا تتناسب مع الأهداف الإستراتيجية طويلة المدى التي يجب أن ننظر إليها، فتنظيم الدولة يجب أن ينهزم ولكن كيف وعلى يد من؟ السنة أم الشيعة؟ المتطرفين أم المعتدلين؟ هذه الأسئلة هي التي ستحدد مستقبل المنطقة، ومن مصلحة أمريكا أن تقوم قوة عسكرية سنية بمهمة مواجهة تنظيم الدولة، حتى يكون هنالك توازن عسكري بين السنة والشيعة في المنطقة، خاصة بالنسبة لمحافظة الأنبار في العراق يجب أن تسيطر عليها قوى سنية، ولكن هل يمكننا تحديد هذه القوى أو مساندتها؟ هذا سيكون اختبارا حقيقيا في المرحلة المقبلة.
غولدبيرغ: أوباما قال إن حلفاءنا السنة سيتوجب عليهم إيجاد طريقة لاقتسام الشرق الأوسط مع إيران.
كيسنجر: إن استقرار المنطقة والعلاقة مع إيران مشابهة للتحديات التي واجهناها مع الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تعاملنا معها باعتماد سياسة “كينان” للاحتواء. وتعمل إيران الآن على مستويين اثنين؛ حيث أنها تتصرف كدولة تمتلك حقوقا وحماية بموجب القانون الدولي، وفي نفس الوقت تتصرف ككيان إيديولوجي يغذي انتشار المجموعات المتشددة في الشرق الأوسط من لبنان وفلسطين إلى سوريا واليمن، الشرط الأساسي لإيجاد تسوية سياسية مع إيران هو إنهاء سياساتها الموازية التي تقوم بها كأنها ليست دولة. لن يكون بإمكاننا أبدا إقناع السعوديين باقتسام الشرق الأوسط مع إيران، مادامت إيران تضع 150 ألف صاروخ في لبنان، وتسيطر على ميليشيات كبيرة من حيث العدد والعتاد مثل حزب الله في لبنان، وميليشيات أخرى في اليمن والعراق وسوريا. يجب أن تتعلم إيران احترام الحدود بين الدول وتتخلى عن مساعيها للهيمنة على المنطقة، وعندما تقوم بذلك سوف تصبح إيران دولة شرق أوسطية مستقرة نسبيا، ولكن سيكون عليها أولا أن تقرر ما إذا كانت تريد أن تكون دولة أو مجرد كيان يسعى لتحقيق أهدافه.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية تعتقد الآن أن بإمكانها الدخول في مفاوضات لرأب الصدع بين الفرقاء في الشرق الأوسط، وخاصة معالجة مشكلة العداء وانعدام الثقة بين إيران والمملكة العربية السعودية، عبر التركيز على الجانب الديني والنفسي في هذا الصراع، ولكن هذه الجهود الأمريكية إلى حد الآن خلقت انطباعا بأن هنالك انسحابا أمريكيا استراتيجيا من المنطقة، وقد أدى صعود إيران على المستوى الجغرافي السياسي وتراخي أمريكا أمام طموحاتها النووية، إلى تسريع ظهور معسكرين اثنين، أحدهما يرتكز على فكر ومبادئ سياسية كتلك التي ظهرت مع اتفاق سلام “وستفاليا” في أوروبا خلال القرن 17، في مقابل مجموعات مسلحة ترفض مفهوم الدولة وتحلم بتحقيق أهداف أخرى مثل الخلافة والإمبراطورية، وإيران تعمل على كلا المستويين. وفي أي نقطة توجد فيها قوتان تتصارعان بندّية فإن ذلك يؤدي لخلق أوضاع هشة ويستوجب بالتالي فرض التوازن، وإذا لم تلعب الولايات المتحدة هذا الدور فإن أطرافا أخرى ستظهر في المشهد وسوف يزداد انعدام الاستقرار في المستقبل.
غولدبيرغ: ولكن ما الذي يمكن لرئيس أمريكي أن يفعله لإقناعهم بأنه لن يتم السماح لأي منهما بالهيمنة على الشرق الأوسط؟
كيسنجر: أولا سيكون عليه إقناع القيادة الإيرانية بأن علاقتنا معهم إستراتيجية وليست هشة أو ظرفية، إن العلاقات الدبلوماسية ليست اختبارا لحسن النوايا أو تكفيرا عن ذنوب الماضي، بل هي إيجاد طريقة للموازنة بين المصالح. ويجب على الولايات المتحدة أن توصل لنظرائها، وخاصة في إيران، الرسالة التالية: “إن تحقيق علاقات جيدة مع الولايات المتحدة لا يمكن أن يترافق مع شن حروب بالوكالة ودعم الإرهاب وخلق كيانات متشددة في لبنان، سوريا والعراق، والآن في اليمن، أنتم دولة ذات أهمية ونحن مستعدون للتعامل معكم، ولكننا سوف نحكم على أفعالكم وليس أقوالكم”.
في هذه الحالة يمكن أن يغير الإيرانيون من أولوياتهم، ولكنهم على الأرجح سيقومون بذلك إذا رأوا منا تحركات وليس مجرد خطب ومواعظ. أما السعوديون فإنهم مقتنعون بأن الولايات المتحدة في النهاية سوف ترضخ للهيمنة الإيرانية على المنطقة، أو على الأقل أن الرئيس الأمريكي لن يدفع بقوات كبيرة إلى المنطقة لإنقاذ حلفائه. وما داموا يفكرون بهذه الطريقة، فإننا لن يكون بإمكاننا التأثير على استراتيجياتهم. إن الصداقة التاريخية بيننا تتيح لنا مدخلا للتواصل معهم، ولكن ليس هناك قائد مسؤول في هذا العالم قد يقول: “فقط لأنني معجب ببلدكم فإنني سأقوم بأشياء لا أؤمن بأنها في مصلحة بلدي”.
غولدبيرغ: هل تعتقد أن الاتفاق الإيراني بمفهومه الواسع بصدد تحقيق النجاح؟
كيسنجر: نظريتي في السياسة الخارجية كانت دائما تتمثل في محاولة الربط بين الشرعية والقوة، والأزمة التي خلقتها إيران تمثلت في الربط بين القدرات النووية والطموحات الإمبريالية وسياساتها الخارجية الداعمة للمجموعات المسلحة. ونتيجة لذلك فإنه في الوقت الذي تم فيه توقيع الاتفاق، كانت إيران قد حققت ما تصبو إليه وباتت تدير صراعات بالوكالة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وكان يجب أن يتم ربط عملية رفع العقوبات بشروط أكثر من مجرد خفض نسبة تخصيب اليورانيوم في المفاعلات النووية وتقليص عدد أجهزة الطرد المركزي بشكل مؤقت. كان يجب رفع العقوبات بشرط وضع بعض الالتزامات السياسية، خاصة فيما يتعلق بدعم إيران للكيانات المسلحة غير النظامية مثل حزب الله.
أعتقد أنه يجب علينا التمسك بمبدأ التعامل بحزم مع كل من الطموحات النووية ولإيران، وربطها بين طموحاتها الإمبريالية وفكرها الديني في إطار مساعيها للسيطرة على الشرق الأوسط. أما الاعتقاد بأن نجاح مفاوضات معينة حول القدرات العسكرية سوف يؤدي إلى انفراج نفسي وتغير في طريقة تفكيرهم، فإنه يعكس جهلا بتاريخ إيران الإمبريالي على مدى الألفي سنة الماضية.
غولدبيرغ: لو كان الأمر بيدك هل كنت ستمزق وثيقة الاتفاق الإيراني؟
كيسنجر: لا، لن أقوم بذلك سواء تحسنت الأمور أو ساءت أكثر، في كل الحالات هذا الاتفاق يمثل أمرا واقعا موجودا الآن حاول كل طرف التأقلم معه من خلال تقديم التنازلات. ما الذي يمكن تحقيقه من خلال تمزيق وثيقة الاتفاق؟ فأكبر تنازل، وهو رفع العقوبات، قمنا به وانتهى الأمر، والتخلي عن الاتفاق الآن سوف يحرر إيران من كل الالتزامات ويمنحها مكاسب أكثر من الولايات المتحدة. ولكن هذا الاتفاق خلق عالما ثنائي الأقطاب في الشرق الأوسط، والموازنة بين هاتين القوتين في المنطقة هي أمر صعب بلا شك، خاصة عندما يعتقد الجميع أن الولايات المتحدة بصدد الانسحاب من المنطقة، وفي نهاية الطريق سوف يكون علينا التوصل إلى بعض التفاهم مع إيران، ولكن قبل ذلك نحن نواجه تحديا مشابها لذلك الذي مثله الاتحاد السوفييتي في 1945: يجب علينا احتواء إيران داخل حدودها القومية، ويجب علينا دفعها للتصرف كدولة وليس ككيان إيديولوجي، لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام حالة الفراغ التي يستغلونها في الشرق الوسط، يجب أن تكون هنالك مرحلة احتواء لإيران، ولكن في نفس الوقت يجب القضاء على ما يسمى بدولة الخلافة الممثلة للسنة.
وإذا قبلت إيران أن تتصرف كدولة عوضا عن كيان إيديولوجي، فإن التعاون معها سيكون ممكنا وتصبح العلاقة بيننا مستقرة ومثمرة، وبالمناسبة يجب دعوة روسيا أيضا للمساهمة في هذه الدبلوماسية.
غولدبيرغ: ما هو الحل الأمثل لتحقيق السلام بين إسرائيل والعرب؟
كيسنجر: إن الصراع الدائر في سوريا وحولها يتصف بالتعقيد، وقد أدى ذلك لمزيد تعقيد حل الدولتين بين فلسطين وإسرائيل، إذ أنه كيف يمكن لدولة أخرى صغيرة أن تنجو في هذه المنطقة التي انهارت فيها سوريا والعراق ولم تعودا قادرتان على فرض السيادة والوحدة، وبات بالطبع من المستحيل عليهما المساهمة في ضمان أمن المنطقة. كيف يمكن للتفاوض بين فصيل فلسطيني واحد وإسرائيل أن يضمن السلام الشامل؟ إذا وصفت اتفاق سلام بأنه “نهائي” فإنك خلقت عددا كبيرا من المشاكل، التي يعود سببها كلها إلى وصفك للحل بأنه “نهائي”.
إذا تم التفاوض على حل نهائي مع إسرائيل، وخضع ناتنياهو وقبل به، فإن الحكمة في هذه الحالة تقتضي منا أن نتساءل: أي دولة عربية لديها القدرة على الدفاع عن هذا الاتفاق؟ هل يمكن لملك السعودية أن يتجرأ على أن يقول أمام الملأ “لقد تنازلنا على هذه الأراضي العربية إلى الأبد”؟ هل سمعت دولة عربية تطالب بتسوية نهائية للصراع؟
يمكن أن يستعين نتنياهو ببعض الحكمة لتأسيس حكومة في الضفة الغربية في خطوة من طرف واحد، ويحصنها عبر منحها أقصى ما يمكن من السيادة الفلسطينية، ثم يحاول الإسرائيليون التدخل أقل ما يمكن في شؤون الفلسطينيين، ولكن مسائل أخرى عالقة مثل القدس وعودة اللاجئين يجب أن تكون جزء من مفاوضات أخرى منفصلة، وأنا أتوقع أن يضع أوباما خطة مفصلة قبل أن يغادر البيت الأبيض حتى يتم تطبيقها لاحقا.
غولدبيرغ: ولكن الحكومة الإسرائيلية قد لا تستمع لهذا المقترح.
كيسنجر: لم تحظ الحكومة الإسرائيلية أبدا بأغلبية تتجاوز مقعدين أو ثلاثة في البرلمان، ولذلك فإن وضعيتها السياسية دائما ما تكون هشة ومهددة في أي وقت بالسقوط، ويتوجب على هذه الحكومة في كل مرة أن تمر بمخاض دقيق وصعب لإثبات أن ذلك الخيار هو الأفضل، لقد تعلمت هذه الدروس أثناء المفاوضات التي جمعتني بغولدا مائير.
غولدبيرغ: هل كانت عنيدة؟
كيسنجر: إنه أمر لا يصدق، إنها تجردني من كل دفاعاتي، لأنها تبدو مثل أم أو جدة حنونة وعطوفة، وخاصة عندما تظهر أمام وسائل الإعلام، ولذلك لم يكن بإمكاني التغلب عليها.
غولدبيرغ: هل تعتقد أن فكرة حل الدولتين لا تزال واقعية؟
كيسنجر: إن إنشاء دولة فلسطينية هو جزء أساسي من المقترح الذي يسمى حل الدولتين، وهو حل مقترح لإنهاء التهديد الذي تمثله حرب الشوارع المتواصلة من قبل الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويهدف هذا الحل لإيجاد حل “نهائي” يتم التفاوض عليه بين إسرائيل والقادة الفلسطينيين، ويدعمه مجلس الأمن في الأمم المتحدة بالإضافة إلى دول الشرق الأوسط. أنا أتفق مع هذه الفكرة ولكنها واجهت إلى حد الآن عدّة عقبات لم يمكن التغلب عليها. وهذا المشكل المزمن لا يزال صعبا كما كان في الماضي. وعلى الرغم من أن مسألة الحدود بين البلدين مثلا تبدو إلى حد ما واضحة، إلا أن بقية المسائل العالقة مثل عودة اللاجئين وتفكيك بعض المستوطنات ووضعية القدس لا تزال غير متفق عليها، وهي مسائل في صميم الصراع ولا أحد يظهر مرونة بشأنها.
إن المشكلة الإستراتيجية بالنسبة لإسرائيل على المدى الطويل هي أن كل الدول المحيطة بها سوف تتأقلم مع التطور التكنولوجي بشكل أو بآخر في المستقبل وعاجلا أو آجلا سوف تشكل تهديدا لوجودها. ولذلك فإن الإسرائيليين يفاوضون بشكل عدائي ومتشدد ليثبتوا لأنفسهم أنهم يأخذون هذه التهديدات بعين الاعتبار. أما العرب فإنهم منقسمون على أنفسهم بشأن رؤيتهم للحل “النهائي”.
في حال التوصل لاتفاق سلام نهائي، فإن المتشددين من العرب سوف يتهمون بكل تأكيد الأنظمة العربية التي ستمضي على هذا الاتفاق بأنها خائنة وأنها تخاذلت في الدفاع عن الأراضي العربية المحتلة. وهذه هي نقطة الضعف التي دائما ما يواجهها أي اتفاق يتم برعاية القوى الأجنبية. ولكن كانت دائما لدي فكرة أخرى مغايرة، حيث أنه من الممكن أن يتم تطوير التعاون الجاري الآن بين المملكة السعودية وبقية دول الخليج، ومصر والأردن وإسرائيل، وتمديد التحالف الموجود الآن ضد تنظيم الدولة ليستمر ويتطور نحو أهداف أخرى. إذ أنهم بإمكانهم أن يتوصلوا إلى اتفاق يمكّن من تحسين ظروف حياة الشعب الفلسطيني لأبعد مدى ممكن، ويمكن أن يحققوا له نوعا من السيادة من خلال تبني هذه المبادرة.
لن يكون هذا حلا نهائيا، ولكنه سوف يزيح الكثير من العقبات في إطار التوصل إلى هذا الحل، كما أن هذه الإجراءات التي ستحسن أوضاع الفلسطينيين سوف تخلق نوعا من الاستقلال على أرض الواقع رغم عدم وجود إطار قانوني ينصّ على ذلك. لا أعتقد أن إقناعهم بالذهاب في هذه الطريق هو أمر مستحيل، إذ أن الأوضاع الحالية تبدو عصيبة وغير سانحة لمثل هذه المبادرات، ولكن أنظر إلى اتفاقية فك الاشتباك التي تم التفاوض عليها مع سوريا في سنة 1974 والتي لا تزال سارية المفعول، حيث أن كل طرف لا يزال ملتزما بتلك الخطوط التي تم رسمها له ولم يتجرأ على تجاوزها.
في تلك الفترة التي تم فيها عقد الاتفاق في سنة 1974، كنت في محافظة القنيطرة في هضبة الجولان، كما أنني قضيت أكثر من 40 سنة من مسيرتي وأنا أتفاوض لعقد الاتفاقات، وأعلم عن منطقة القنيطرة أكثر من أي شخص آخر في هذا العالم: لقد طور الإسرائيليون طريقة للتمكن من تحقيق الردع دون استعمال التهديدات الكلامية، لقد تمكنوا من إثبات أن لديهم ما يكفي من قوة رد الفعل لإثناء خصومهم عن القيام بأي مبادرات عدائية.
أوروبا ومستقبل النظام العالمي
غولدبيرغ: فيم يتمثّل المشكل مع أوروبا؟
كيسنجر: على مدى 400 سنة، صنع الأوروبيون تاريخ هذا العالم، حيث أن الكثير من الأفكار العظيمة التي نستفيد منها الآن، على غرار الحكم الدستوري والحريات الفردية والفكر التنويري، انطلقت من أوروبا وانتشرت على أيد الأوروبيين في جميع أنحاء العالم، ولكن الآن هذه المنطقة التي كانت تعج بالحيوية وتساهم في بناء العالم، أضحت منغلقة ومنشغلة أكثر من اللازم بأمورها الداخلية. كما أنها ألزمت نفسها باستعمال طريقة القوة الناعمة فقط، ولذلك فإنه في الحاضر لا توجد دولة أوروبية تمتلك القدرة على إقناع شبعها بتقديم تضحيات لتنفيذ سياسات خارجية.
وإذا لم تتمكن أوروبا من استعادة البعض من حركيتها التاريخية وعقليتها الطموحة، فإن ذلك سيؤدي لوجود فراغ كبير في النظام العالمي، وهو ما يبدو جليا الآن. ما كان ينقص لحل المشكل السوري هو تدخل أوروبا، إلا أن بنيتها السياسية الداخلية تدفع الدول الأوروبية إلى تجنب المشاكل الإستراتيجية والمعقدة. ولكن لا يمكنك أن تطلب من شعبك التضحية إلا إذا قدمت له رؤية معينة وتمكنت من تجنيده ودفعه في الاتجاه الذي تريده، إذا لم تتمكن من ذلك فلن يستجيب أحد لدعوتك.
غولدبيرغ: لماذا لم تعد لأوروبا رؤية كما كان في السابق؟
كيسنجر: ربما لأنهم مروا بالكثير من المعاناة في الماضي، وتكبدوا خسائر فادحة، فإذا نظرت لتعاقب القيادات خلال القرن التاسع عشر في بريطانيا، سترى أنهم جميعا رجال مميزون قادوا مجتمعات متجانسة. وخلال الاحتفال بمرور 25 سنة على تنصيب الملكة فكتوريا، أي في نهاية القرن التاسع عشر، تم استعراض مائة سفينة حربية بريطانية خلال الاحتفالات، أما اليوم فإن البحرية الملكية البريطانية بأكملها تعتمد على سفينة عملاقة واحدة فقط.
وبالإضافة إلى بريطانيا فإن الاتحاد الأوروبي بأكمله، رغم إنشاء المنطقة الاقتصادية والعملة المشتركة، لم يكن قادرا على التوحد حول مقاربة إستراتيجية وسياسية للتعامل مع العالم. كما أن إنشاء جيش أوروبي مشترك يبدو أمرا غير ممكن، وفي الواقع فإنني في الوقت الحالي لا أرى أي آليات يمكن للقارة الأوروبية من خلالها تطوير خطة إستراتيجية. وباعتبار أنني ولدت في أوروبا أستطيع قول هذا بكل أسف، آملا بأن يكون هذا التوصيف لمرحلة فقط من أوروبا وليس توجها ثابتا. إذ أن انحدار أوروبا التي شكلت النظام العالمي لقرون، سيمثل خسارة كبيرة بالنسبة لنا.
غولدبيرغ: هل تعتبر تراجع أوروبا عن دورها العالمي خسارة؟
كيسنجر: لا ليس بعد، ولكن أعتبر أنه من الصادم أنه خلال ثلاثة أسابيع بعد تصويت البريطانيين لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم أستمع لأي زعيم أوروبي يعرض رؤيته حول مستقبل القارة. إنها هذه هي نفسها القارة التي قامت ببناء المشهد الدولي، ولكن في هذه الأزمة الحالية لا أحد وقف إلى جانب الرؤية التي وضعها الزعيم السابق “تشرشل”. إنهم يتحدثون عن مسائل تكتيكية، بينما هم في الواقع بصدد خسارة روح هذا الاتحاد وخسارة ما ناضلوا من أجله، وبصدد التخلي عن هويتهم التي ميزتهم عبر التاريخ.
اليوم يعتبر أغلب الناس أن أوروبا ضعيفة، وهي غير قادرة على وضع سياسة خارجية واضحة، ولذلك فإنها على الأقل يجب أن تكون متجانسة اقتصاديا. لكن حسب رأيي هذا ليس صحيحا تماما، إذا أنه في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما كانت أوروبا تعاني من الدمار والضعف، ظهر قادة لديهم رؤية واضحة للمستقبل، مثل “أديناور” في ألمانيا و”شومان” في فرنسا و”دي غاسبيري” في إيطاليا. ولكن من خلفهم في قيادة أوروبا الآن يوشك على تحويل هذه الرؤية العظيمة إلى بيروقراطية بائسة.
غولدبيرغ: هل يمكن أن تكون هنالك رؤية عظيمة في عصر الإنترنت؟
كيسنجر: هذا سؤال وجيه، ولكنني لا أعرف الإجابة عنه، على كل حال يجب المحاولة.
المصدر: الأنلانتيك