يصعب العثور على فروقات جدية بين الرؤساء الأمريكيين العشرة الجمهوريين والديموقراطيين، الذين حكموا الولايات المتحدة طوال الخمسين سنة الماضية، تجاه قضية فلسطين؛ فقد ظلت “إسرائيل” حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة، وظلّ الانحياز لها وتغطية احتلالها وممارساتها، ورفض الضغوط عليها الطابع العام لهذه السياسة.
وتفتح الطبيعة الشخصية الجدلية والبراجماتية لترامب آفاقاً مختلفة للسيناريوهات المستقبلية؛ غير أن الوعود التي يطلقها المرشحون في الانتخابات لا تجد طريقها للتنفيذ دائماً… حيث تتمتع الولايات المتحدة ببنى مؤسسية قوية ومستقرة ومؤثرة في صناعة القرار. ومع ذلك فإن ثمة هامش مؤثر لحركة الرئيس وسياساته، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن الحزب الجمهوري يتمتع بالغالبية في مجلسي النواب والشيوخ، وهو الحزب الذي جاء ترامب على بطاقته.
مقدمة:
مع تولي المرشح الجمهوري دونالد ترامب لمنصب الرئيس الأمريكي في مطلع سنة 2017، يكون الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة قد مضى عليه نصف قرن، تولى خلاله عشرة رؤساء أمريكيون السلطة، منهم أربعة رؤساء ديموقراطيون وستة رؤساء جمهوريون، وحكم الجمهوريون 28 سنة بينما حكم الديموقراطيون 26 سنة، أي أن الحكم كان مناصفة بين الطرفين من الناحية الزمنية منذ جونسون وانتهاء بترامب.
وعند رصد الملامح الاستراتيجية للسياسة الأمريكية التي اتنتهجها الرؤساء العشرة، يصعب العثور على تباينات ذات معنى فيما بينهم في الموضوع الفلسطيني، وشكل الانحياز الخشن والناعم لـ”إسرائيل” السمة المشتركة فيما بينهم، فهل ستعرف فترة ترامب الجمهوري تغيراً تكتيكياً أو استراتيجياً في الاتجاه السائد في السياسة الأمريكية خلال نصف القرن الماضي؟ علماً أن القسمات الأساسية لبنية القوى السياسية الأمريكية لم تتغير تغيراً جذرياً، كما أن الصلاحيات الدستورية للرئيس لم يصبها تغير ذو دلالة مهمة.
يمكن تحديد ثلاثة سيناريوهات مستقبلية في الإجابة عن هذا السؤال:
السيناريو الأول: السيناريو المرغوب فلسطينياً:
ويقوم هذا السيناريو على عدد من الافتراضات أهمها:
1. أن يفي الرئيس الأمريكي ترامب بما نُقل عنه في حوار صحفي بأنه سيكون وسيطاً “محايداً” بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من ناحية، وشعوره بأن عدم تقديم “إسرائيل” لتنازلات لن يؤدي لسلام في المنطقة من ناحية ثانية، ففي حوار له مع وكالة أسوشييتد برس في كانون الأول/ ديسمبر 2015 ادعى أنه سيكون “محايداً”، ثم أضاف متسائلاً “ما إذا كانت إسرائيل مستعدة للتضحية بأشياء محددة”، ويجيب بقوله: “ربما لا، وأنا أتفهم ذلك، وليس لدي مشكلة في ذلك، ولكن لن يكون هناك سلام”. وفي آذار/ مارس 2016 أشار ترامب إلى أن موضوع الاستيطان في الضفة الغربية هو “نقطة خلاف” مع “إسرائيل”، وهو أمر يراه الطرف الفلسطيني موقفاً إيجابياً مع أنه استمرار للموقف الأمريكي التقليدي في هذه النقطة تحديداً.
2. أن تتناغم السياسة الأمريكية والروسية في الشرق الأوسط، خصوصاً أن ترامب أبدى قدراً من “التفهم والاحترام” للرئيس الروسي بوتين، وهو ما يعني أن الطرفين قد ينسقا مواقف ضاغطة على “إسرائيل” في إطار عمل اللجنة الرباعية، وعبر مجلس الأمن، وعبر الحوار الديبلوماسي الثنائي الأمريكي الروسي مع “إسرائيل”.
3. أن تمارس الدول الأوروبية المتضررة من موجات الهجرة، خصوصاً الناجمة عن الاضطرابات العربية، إقناع الإدارة الأمريكية الجديدة بأن الشرق الأوسط غير قابل للاستقرار دون تسوية الصراع العربي الصهيوني.
4. تشير توجهات ترامب إلى أولوية المصالح الاقتصادية والمالية لديه في نطاق العلاقات الخارجية، وهو ما يتضح في تركيزه على تحميل دول الخليج أعباء الوجود الأمريكي في المنطقة، وفي مطالبته الملحة للدول الأوروبية بتحمل مزيد من الأعباء في نفقات الناتو، وهو ما قد ينطوي على احتمال بأنه سيقلص المساعدات الأمريكية للخارج، وهو ما قد يمتد للمساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل”.
السيناريو الثاني: السيناريو الممكن:
وهو السيناريو الذي يفترض أن السياسة الأمريكية ستبقى على حالها، وافتراضات هذا السيناريو تقوم على الآتي:
1. تأكيد الانحياز الأمريكي المعلن، وهو ما يتضح في تصريحات ترامب المختلفة عما سبق وروده في السيناريو السابق، حيث أكد ترامب في عدد من المناسبات على:
أ. موضوع الاستيطان: قال ترامب لصحيفة ديلي ميل في آذار/ مارس 2016 أنه “قد يكون الحياد أمراً غير ممكن، وعلى إسرائيل السير قدماً في بناء المستوطنات في الضفة الغربية”، وهذا التصريح من ترامب أمر يتناقض مع السياسة الأمريكية المعلنة ومع رأي المستشار القانوني للحكومة الأمريكية منذ ظهور مشكلة المستوطنات، ففي السابق كانت الولايات المتحدة تعلن رفضها لسياسة الاستيطان، لكنها لم تتخذ أي إجراء عملي للضغط على “إسرائيل” لوقف هذه السياسة، وهنا نجد أن ترامب قد انتقل خطوة أكثر استرضاء لـ”إسرائيل”.
ب. كان ترامب في سنة 2013 من المؤيدين لترشيح بنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، وهو ما يعني أن موقفه سيكون استمراراً لموقفه السابق في ظلّ هذا السيناريو.
2. أن الكونجرس الأمريكي والذي يسيطر الجمهوريون على جناحيه له دور كبير في السياسة الخارجية الأمريكية، ولا تشير مواقف هذا الحزب لأي تغير تجاه الموقف من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما يجعل قدرة الرئيس على إحداث تغير استراتيجي أقل إمكانية حتى لو افترضنا أن لديه رغبة في ذلك.
السيناريو الثالث: السيناريو الأسوأ فلسطينياً (والأفضل إسرائيلياً):
وتتمثل افتراضات هذا السيناريو بما يلي:
1. أن يتجه ترامب نحو تغيرات استراتيجية في تعامله مع أبعاد الموضوع الفلسطيني على النحو التالي:
أ. القدس: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والإقرار بالقدس كاملة عاصمة لـ”إسرائيل”، وهو ما وعد به خلال حملته الانتخابية، مع الأخذ في الاعتبار أن عدداً من الرؤساء الأمريكيين السابقين وعدوا خلال الحملات الانتخابية بنقل السفارة لكنهم لم يفعلوا ذلك.
ب. التخلي عن فكرة حلّ الدولتين: فقد أبلغ مستشار ترامب للشؤون الإسرائيلية ديفيد فريدمان صحيفة هآرتس الإسرائيلية في حزيران/ يونيو 2016 أن ترامب “قد يؤيد فكرة ضمّ بعض أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل وأن إقامة الدولة الفلسطينية ليست أمراً حتمياً على الاطلاق”. وأضاف فريدمان “لست معنياً بدولة ثنائية القومية لأن أحداً لا يعرف بالضبط كم من الفلسطينيين يعيشون هناك”، وهو تصريح يشكل خروجاً ثانياً عن السياسة الأمريكية المعلنة منذ الرئيس الجمهوري الأسبق جورج بوش.
2. اتساقاً مع توجهاته لتخفيض المساعدات الخارجية للدول الفقيرة، قد تطال هذه السياسة المساعدات الأمريكية للفلسطينيين لا سيّما للسلطة الفلسطينية، وهو أمر قد يجد دعماً كبيراً من الكونجرس الأمريكي، الذي كثيراً ما ربط بين التنازلات من الطرف الفلسطيني وبين المساعدات في الفترات السابقة خصوصاً منذ توقيع اتفاقية أوسلو.
3. إن معارضة ترامب للاتفاق النووي مع إيران يتلاقى مع الرغبة الإسرائيلية، وقد تجد “إسرائيل” في ذلك فرصة للانقضاض على قوى المقاومة “ذات العلاقة بمستوى أو آخر مع إيران”، مثل حزب الله والجهاد الإسلامي وحركة حماس، وهو ما يعني أن غزة قد تشهد عدواناً إسرائيلياً جديداً متدثراً بضرب امتدادات إيران في المنطقة، وهو أمر سيجد له هوى لدى ترامب.
عوامل الترجيح بين السيناريوهات الثلاثة:
ثمة سلسلة من العوامل المتداخلة التي قد ترجح بين السيناريوهات، وهذه العوامل تتمثل في الآتي:
1. مدى استمرار الاضطراب في البيئة الإقليمية، وهو أمر مرجح ونافع لـ”إسرائيل”، بل حتى أن تراجع الاضطراب سيؤدي إلى انكفاء الدول العربية نحو الداخل لفترة لا تقل عن خمس سنوات قادمة، لترميم أوضاعها الداخلية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، مما يجعل الطرف الفلسطيني شبه معزول عن بيئته الإقليمية التقليدية، وسينعكس ذلك على أدائه التفاوضي السري أو العلني، وسيتيح المجال لـ”إسرائيل” لاستثمار هذه الحالة إلى أبعد الحدود.
2. استمرار الانقسام الفلسطيني وعدم القدرة على بلورة رؤية واحدة ليتعامل معها المجتمع الدولي باعتبارها الاستراتيجية الفلسطينية المعتمدة.
3. الضغوط المالية الأمريكية على دول البترول العربي لمزيد من الإسهام في أعباء النفقات الأمريكية العسكرية في المنطقة، ناهيك عن تدهور سعر البترول، وتزايد الضغوط على ميزانيات دول الخليج قد يؤثر على حجم المساعدات العربية للسلطة الفلسطينية.
السيناريو الأكثر احتمالاً:
نظراً لأن القضية الفلسطينية أصبحت أقل مركزية على الصعيد العربي، كما أنها لا تشكل قضية ملحة لروسيا في المدى الزمني القريب —على الأقل—، فإن مبررات انتظار التغير الاستراتيجي في التوجهات الأمريكية في الموضوع الفلسطيني لن يتجاوز الاتجاه التاريخي للسياسة الأمريكية المعتمدة منذ 1967.
كما أن تزايد الاتجاهات الأمريكية نحو الباسيفيكي على حساب الأقاليم الجيو-سياسة في العالم، يعني تراجع مكانة الشرق الأوسط (لأسباب كثيرة لا مجال لتعدادها هنا) في الاستراتيجية الأمريكية، وهو ما أكدت دلالاته صحيفة نيويورك تايمز، لكن هذا التراجع يأتي في وقت تَمزَّق فيه النظام الإقليمي العربي، وهو ما يسمح لـ”إسرائيل” لتعميق تغلغلها في المنطقة العربية، وهو الأمر الذي بدأت ملامحه تتزايد في عدد من الدول العربية إضافة للمعاهدات المعروفة مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية تحمل إشارات متناقضة، إلا أن الواضح من توجهاته العامة طغيان النزعة البراجماتية على فهمه للسياسة الدولية، وهو ما يعني أن مبادئ الحق والعدالة والمساواة لن تجد عنده أيّ هوى، فإذا أضفنا لذلك طبيعة مستشاريه وتوازنات القوى في جسد هيئات صنع القرار الأمريكية، يصبح أي توقع لتغير ذو دلالة في الموقف الأمريكي من الموضوع الفلسطيني ليس مستنداً على أسس متينة.