رغم قوة العلاقات بين الجزائر والسعودية في سبعينيات القرن الماضي خلال عهد الراحلين، الجزائري هواري بومدين والعاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز، حيث وصفت هذه الفترة بـ”العصر الذهبي” في تاريخ العلاقات السعودية الجزائرية، سرعان ما تلبدت سماء هذه العلاقة بالعديد من الغيوم التي عكرت صفوها، وألقت بظلالها على توجهات كل دولة تجاه الأخرى، كان أبرزها موقف الرياض المساند للمغرب في قضية الصحراء على حساب الجزائر.
وبعد سنوات من الخلاف وموجات المد والجزر بين الجانبين، تأتي زيارة رئيس الحكومة الجزائرية عبد المالك سلال للرياض اليوم، حاملة معها الكثير من المؤشرات والدلالات، فهل تنجح هذه الزيارة في إذابة جليد العلاقات بين البلدين، وإحداث انفراجة في الأزمة الممتدة لسنوات طويلة؟
زيارة لتقريب وجهات النظر
توجه الوزير الأول رئيس الحكومة الجزائرية عبد المالك سلام اليوم الثلاثاء إلى العاصمة السعودية الرياض في زيارة تستغرق يومين، الثلاثاء والأربعاء، في إطار اللقاءات التشاورية بين مسؤولي البلد، لبحث سبل تقريب وجهات النظر، وتفعيل التعاون المشترك بين الجانبين.
وبحسب مصادر مقربة من الحكومة الجزائرية، فمن المقرر أن يشارك سلال في منتدى اقتصادي مخصص لـ”تشجيع المتعاملين بالبلدين على تطوير الاستثمار المنتج وتكثيف مبادرات الشراكة الكفيلة بتعزيز علاقات الأعمال القائمة، إضافة إلى تبادل وجهات النظر بخصوص عدد من القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك.
نتطلع للارتقاء بالتعاون الجزائري – السعودي إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، بالنظر للإمكانيات وفرص التكامل الهائلة المتوفرة في البلدين
وفي تصريحات سابقة له، أكد رئيس الحكومة الجزائرية على أن بلاده والمملكة العربية السعودية تتطلعان إلى الارتقاء بتعاونهما الثنائي إلى آفاق جديدة، قائلاً: “نتطلع للارتقاء بالتعاون الجزائري – السعودي إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، بالنظر للإمكانيات وفرص التكامل الهائلة المتوفرة في البلدين وقبلها الإرادة السياسية القوية لدى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة وأخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود”.
كما أشار سلال إلى أن العلاقات السياسية بين الدولتين “ممتازة ” في إطار تشاور وتنسيق مستمر حول القضايا ذات الاهتمام المشترك في الفضاءات العربية والإسلامية والدولية، فضلاً عن متانة العلاقات الاقتصادية، ما يجعل مجالات التعاون والشراكة بين البلدين كثيرة من بينها المحروقات والبتروكيماويات والفلاحة والصناعة واقتصاد المعرفة والسياحة.
عبد المالك سلال رئيس الحكومة الجزائرية
توتر العلاقات بين البلدين
ظلت العلاقات السعودية الجزائرية أسيرة موجات المد والجذر منذ دعم الرياض لموقف المملكة المغربية تجاه قضية الصحراء، وهو الموقف المناوئ للجزائر، إلا أن هذا التوجه السعودي الجديد لم يعكر الأجواء مع الجزائر بصورة كبيرة، وظلت العلاقات بين البلدين متأرجحة ما بين المقبولة والمتوسطة، إلى أن جاءت ثورات الربيع العربي، لتكشف النقاب عن حجم الخلاف الكبير بين الجانبين، ساهم بصورة كبيرة في رفع منسوب التوتر في العلاقات بينهما.
ويمكن القول إن العلاقات بين البلدين دخلت نفقًا مظلمًا منذ أن غرَّدت الجزائر خارج السرب العربي حين اعتذرت عن المشاركة في عاصفة الحزم التي تقودها المملكة العربية السعودية في اليمن، حيث جاء على لسان وزير خارجيتها رمطان لعمامرة أن بلاده ترفض المشاركة في هذه العملية، وذلك على هامش اجتماع وزراء الخارجية العرب الممهد للقمة العربية السادسة والعشرين بشرم الشيخ، كما أعلنت الجزائر حينها بعض التحفظات بشأن فكرة إنشاء جيش عربي موحد.
مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية، والذي يمثل المنهج والعقيدة بالنسبة للجزائر، يبدو أنه لم يعد كافيًا لتفسير موقف الجزائر وتبريره أمام الشقيقة السعودية وبقية الدول العربية، حيث رأى البعض في هذا الموقف ازدواجية غير مقبولة، تطرح الإشكالية المتعلقة بكيفية التوفيق بين ما يوصف بالعقيدة العسكرية للجيش الجزائري التي تؤكد على أن الجيش لا يحارب خارج الحدود، بالإضافة إلى عدم نشر الوحدات القتالية خارج الحدود، والمعايير والقيم التي تؤكد عليها الدولة الجزائرية في دعم الشرعية في كل بلد، حيث تُعتبر قضية الشرعية السياسية في الحالة اليمنية مسألة واضحة عربيًّا ودوليًّا خصوصًا مع قرار مجلس الأمن الأخير والعقوبات التي فُرضت على الحوثيين وعلي عبد الله صالح، وهو ما وضع الجزائر في موقف حرج أمام التحالف العربي.
مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية، والذي يمثل المنهج والعقيدة بالنسبة للجزائر، يبدو أنه لم يعد كافيًا لتفسير موقف الجزائر وتبريره أمام الشقيقة السعودية وبقية الدول العربية
الموقف الجزائري الرافض للانخراط في عاصفة الحزم، جاء تلبية لما لدى النظام الجزائري من حسابات خاصة في علاقاته الخارجية، في مقدمتها إيران، ومن ثم الحوثيين في اليمن، حيث ترى الجزائر في إيران حليفًا قويًا، ولاعبًا محوريًا في منطقة الشرق الأوسط، بينما تؤمن الأخيرة بثقل الجزائر إفريقيًّا وعربيًّا، ومن ثم فهي تمثل أهمية ليست بالقليلة بالنسبة للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة العربية.
ونجحت طهران من خلال علاقتها بالجزائر في تحييدها عن دائرة التنافس الإيراني السعودي في سوريا واليمن والعراق، وهو ما يجسد رفض الخارجية الجزائرية لفكرة الضربة العسكرية الأمريكية لنظام بشار الأسد إبَّان حديث بعض المسؤولين الأمريكيين عن استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي ضد المدنيين عام 2013، ومن قبله الاعتراض على توصيف “حزب الله” كمنظمة إرهابية بجانب العراق.
لا يفهم من هذا السياق أن الجزائر تغلب مصلحتها مع إيران على السعودية، لكنها ارتأت لنفسها أن تقف على الحياد، إيمانًا منها أن علاقتها بالرياض لا تقل أهمية عن علاقتها بطهران، ومن ثم تحاول ألا تخسر دولتين مهمتين مثل إيران والسعودية، لترجِّح خيار التوازن ولعب دور الوساطة والبحث عن الحلول السياسية في الأزمة اليمنية وفي غيرها، وأن تسعى للتقريب بين وجهات النظر الإيرانية والسعودية، إلا أن دور الوساطة تكتنفه صعوبة بالغة بعدما تشعب الخلاف بينهما إلى آفاق بعيدة.
رفض الجزائر المشاركة في عاصفة الحزم أبرز نقاط الخلاف مع السعودية
مؤشرات الأزمة
عديد من المؤشرات والشواهد التي فرضت نفسها في الفترة الأخيرة ساهمت بشكل كبير في تأجيج الأزمة بين السعودية والجزائر من جانب، والتأكيد على فشل الجهود الدبلوماسية في احتواء الموقف من جانب آخر، حيث عكست هذه الشواهد حجم الخلاف الكبير بين الشقيقتين.
أولاً: رفض الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، استقبال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الذي زار الجزائر لساعات قليلة في نهاية ديسمبر الماضي، واكتفى بمقابلة نظيره رمطان لعمامرة، إضافة إلى استقباله من قبل عبد المالك سلال رئيس الحكومة، وقد جاءت هذه الخطوة على عكس العادة، في أن يستقبل الرئيس ضيوف الدولة، ما أعتبرها البعض مؤشر يعكس حجم الخلاف والتوتر في العلاقات بين البلدين.
ثانيًا: زيارة وزير خارجية الأسد وليد المعلم، للجزائر، أواخر مارس الماضي، واستقبال بوتفليقة له، عكس ما حدث مع نظيره السعودي، ما يكشف عن الهوة بين السعودية والجزائر من جانب، فضلاً عن تغريد الأخير خارج السرب السعودي في الموقف من الأزمة السورية ونظام بشار من جانب آخر.
زيارة وزير خارجية الأسد وليد المعلم، للجزائر، أواخر مارس الماضي، واستقبال بوتفليقة له، عكس ما حدث مع نظيره السعودي، كشفت عن الهوة بين السعودية والجزائر
ثالثًا: تحميل الجزائر للسعودية مسؤولية تراجع أسعار النفط في السوق، الذي يعود عليها بأزمة خانقة في الموارد التي تمثل 98% من إيرادات الميزانية وتمويلات المشاريع الإنمائية التي جمدت، فالجزائر تنادي، مع بعض دول “أوبك” الأخرى، بالحدّ من الإنتاج اليومي للنفط بغية إعادة التوازن إلى السوق المنهكة بتضخم في الإنتاج العالمي أدى إلى تهاوي أسعاره، وهو ما دعا وزير النفط الجزائري نور الدين بوطرفة، إلى سلوك منهج الدبلوماسية النفطية لتحقيق شبه إجماعٍ بين الدول المنتجة للنفط من داخل منظمة أوبك ومن خارجها، في الوقت الذي تعارض فيه الرياض هذا المقترح، ما دفع الجزائر لاتهام السعودية بأنها المقصودة من وراء هذا التعنت.
وزير خارجة الأسد وليد المعلم خلال زيارته للجزائر مارس الماضي
هل تؤتي الزيارة ثمارها؟
العديد من الخبراء يأملون في إذابة جليد العلاقات بين البلدين، حيث اعتبرها البعض مغازلة دبلوماسية جزائرية للسعودية، إلا أن البعض الآخر يرى أن الآمال المعقودة على هذه الزيارة لا تتعدى المنسوب المطلوب في ظل تشبث كل طرف بمواقفه من الملفات الساخنة على الساحة الشرق أوسطية.
حسبما نشرت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية فإن أبرز الملفات التي سيتم طرحها خلال اللقاءات المقررة على مدار يومين كاملين، تتمحور في أبعاد ثلاث: الأول يتعلق بمحاولة تقريب وجهات النظر حيال الملفات الشائكة أبرزها الملف السوري واليمني، ثانيًا ملف الطاقة والسعي لإقناع الرياض بالالتزام بموقف الأوبك بشأن تخفيض معدلات الإنتاج من أجل الحفاظ على توازن السوق العالمية، الثالث بحث سبل تفعيل التعاون المشترك في مجالات الطاقة والبتروكيماويات، وفتح صفحة جديدة في العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
ومن ثم يتوقف نجاح الزيارة على حجم المرونة التي من الممكن أن تبديها الجزائر فيما يتعلق بالموقف من اليمن وسوريا، لا سيما بعد الأنباء التي تشير إلى احتمالية تسوية سلمية تؤهل السعودية لتحقيق انتصار مرضٍ لها على الحوثيين باليمن، في مقابل البقاء على نظام الأسد لإكمال ولايته الحالية، ثم يبتعد عن الحياة السياسية السورية تمامًا، فهل تقبل الرياض مغازلة الجزائر، وفي المقابل هل تعيد الأخيرة النظر في مواقفها من القضايا المشتركة مع الرياض؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.