إذا كانت العولمة في حركيتها الراهنة مرتبطة أكثر ما يكون بالثقافة الغربية والأمريكية تحديدًا، فإن فكرة العولمة في حد ذاتها تجعلها ممكنة للتجسيد بالنسبة لأي طرف من الأطراف، ففكرة العولمة مرتبطة بمفهوم الثقافة العالمية وهي لا تعني حاصل جمع الثقافات الوطنية على المستوى العالمي بقدر ما تعني أن ثقافة قومية ما تتطور إلى ثقافة عالمية وهو ما يجعلها في مكانة القوة الثقافية الأكثر تأثيرًا، وبذلك فإن فكرة العولمة قد ترتبط بأي مسار تطور لثقافة وطنية ما من مجالها القومي إلى مجالها العالمي.
ومن الممكن في هذا السياق أن نتوقف عند إطارين مرجعيين، أما الأول فهو ذلك الذي يرى فيه كل من بيتر آل برغر وصاموئيل هنتنغتون في كتابهما الموسوم “عولمات كثيرة: التنوع الثقافي في العالم المعاصر” أن العولمة المرتبطة بالثقافة السياسية الغربية ليست قدرًا محتومًا، وأن العالم المعاصر يولد ردود فعل مختلفة على العولمة الغربية، ومن بين أبرز هذه الردود ما أسمياه بالعولمات البديلة أين تقوم أطراف دولية معينة خارج منظومة الدول الغربية بحركة عولمة في الاتجاه المعاكس تخترق المجتمعات الغربية في حد ذاتها.
وإن كانت هذه العولمات البديلة قد انحصرت في الأعراف الثقافية أكثر من شمولها لكل ما يتعلق بالثقافة الوطنية لتلك الأطراف، أما الإطار المرجعي الثاني فهو نظرية التحول الحضاري التي أسس لها أحمد داوود أغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي” والتي يرى في سياقها أن ما يحدث في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة ليس نهاية للتاريخ وليس صدامًا للحضارات وإنما هو تحول حضاري تحاول من خلاله كل أمة من الأمم إعادة اكتشاف انتمائها الحضاري وأن مكانة الأمم أصبحت مرتبطة بهذا الاكتشاف.
ويفيد هذان الإطاران المرجعيان بشكل كبير في فهم حركية العولمة البديلة التي تجسدها روسيا في الوقت الراهن، فالنخبة السياسية الحاكمة في روسيا منذ وصول فلاديمير بوتين إلى سدة القيادة أكسبت الثقافة السياسية القومية في روسيا خصائص ومكونات جديدة، ولم تتوقف حدود الممارسة السياسية لهذه النخبة على إعادة بناء تلك الثقافة الروسية على المستوى الوطني فقط بالشكل الذي يوحي بشكل من أشكال التحول الحضاري في الفيدرالية الروسية، بل تعدى ذلك إلى إنتاج السياسة الخارجية الروسية لحركة عولمة بديلة تهدف من خلالها إلى عولمة ثقافتها السياسية القومية، فإذا كانت حركية العولمة الراهنة مرتبطة بالانتشار وأن الانتشار أصبح أسهل ما يكون في ظل التطور التكنولوجي، فإن العولمة الروسية تستغل ذات السياق لإعادة تشكيل البنية الثقافية للنظام الدولي من خلال مكونات ثقافتها القومية الجديدة.
ومن باب المقارنة فإن العولمة المرتبطة بالثقافة الغربية ترتبط أكثر ما يكون بالأيدلوجية الليبرالية كإطار مرجعي بكل مفرداته بما في ذلك فكرة الديمقراطية، في حين أن العولمة الروسية البديلة تدعو إلى تعزيز الاستقرار باعتباره القيمة المركزية التي يجب الدفاع عنها في العلاقات الدولية الراهنة.
فالثقافة الدولية الجديدة التي تريد روسيا أن تسود في النظام الدولي تمنح الأولوية للاستقرار داخل الدول وليس لنشر النظم الديمقراطية، ويستند ذلك إلى أن الموجة الراهنة للتحول الديمقراطي قد أنتج حجم كبير من الفوضى والتي تتكسب ثلاث خصائص جديدة، فالأولى خاصية الانتشار إذ لا يمكن لأي أزمة داخل حدود دولة معينة أن تبقي آثارها داخل تلك الحدود وفقط، والثاني أن الفوضى أصبحت هي السبب الرئيسي في فشل الدول، والثالثة أن الفوضى هي أكثر ما يصنع سياق تهديدات الأمن القومي.
ومن مرتكزات العولمة الروسية البديلة أيضًا معاداة الآثار السلبية للانفتاح الفكري غير المحدود وهو أحد الخصائص الأساسية للعولمة في طابعها الغربي، وقد أصبح هذا الانفتاح يفرز تأثيرات سلبية حتى داخل المجتمعات الغربية، فالإشكالية التي كانت تطرح في السابق هي مدى تأثير العولمة الثقافية المرتبطة بالثقافة اللبرالية الغربية على الثقافات العالمية الأخرى.
ولكن الوضع الحالي يشير إلى أن الوضع الثقافي الغربي هو الذي أصبح يعاني من التغلغل السلبي لثقافات دخيلة مثل الثقافات الإسلامية والتي أفرزت جملة من المشكلات على جميع المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية وقد نبه إلى ذلك فرانسيس فوكوياما وهو أكثر المدافعين عن أيدلوجيا العولمة.
حيث اعتبر أن أخطر الناس ليسوا المسلمين الأتقياء في الشرق الأوسط، بل هم الشباب المعزولون والمستأصلون من جذورهم في هامبورغ أو لندن أو أمستردام والذين يرون الأيدلوجية بوصفها الجواب لبحثهم الشخصي عن الهوية.
يضاف إلى ذلك أن العولمة البديلة التي تسعى روسيا إلى تجسيدها بالشكل الذي يؤدي إلى طرح ثقافة دولية جديدة في النظام الدولي ترى أن القانون الدولي كمعيار أساسي لإدارة العلاقات الدولية يجب أن يتحرر من الانحياز الأيدلوجي، فهي ترى أن نصوص القانون الدولي الراهن تطبق ارتباطًا بتأثرها بالمفردات الخاصة بالخطاب الليبرالي الذي يشكل القاعدة الأيدلوجية للعولمة المرتبطة بالثقافة الغربية، وأن الثقافة الدولية التي يجب أن تسود في النظام الدولي يحب أن تحرر القانون من الانحياز الأيدلوجي.
في المجمل تحاول السياسة الخارجية الروسية في الوقت الراهن قيادة حركة عولمة بديلة تسعى من خلالها إلى بناء ثقافة دولية جديدة تعيد تشكيل البنية الثقافية للنظام الدولي، والتي يجب أن يترتب عليها من وجهة النظر الروسية التجسيد العملي لنظام ما بعد العولمة الغربية، وتجد هذه الحركة تجاوبًا كبيرًا داخل المجتمعات الغربية في حد ذاتها من طرف نزعتين أساسيتين داخل تلك المجتمعات النزعة القومية والنزعة الشعبوية.
وقد باتت كلتا النزعتين تمتلك حيزًا مهمًا دخل البناء السياسي والاجتماعي للدول الغربية، ويأتي الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي وفوز دونالد ترامب بمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في هذا السياق، بالإضافة إلى اقتناع الكثير من القوى الإقليمية بمضامين الثقافة الدولية الجديدة التي تسعى روسيا لنشرها في العلاقات الدولية، فهل ستنجح العولمة البديلة الروسية في بناء نظام ما بعد العولمة الغربية أم أن القوى الغربية المرتبطة بالأيدولوجيا الليبرالية ستتحفز لتدشين حرب باردة جديدة؟