كنت أرقب أصابعها المتنقّلة بين السكّين و المقلاة، أنا التي كان حتى احتضان سكينٍ بالنسبة لأصابعي مُعضِلة! ..تحتضن البطاطس كأنها رسامٌ يحتضن فرشاته استعداداً لرسم لوحة، تُقشِّرها ..و ترميها في الزيت برفقٍ كمن يرمي أحد أبناءه للمرة الأولى للسباحة في البحر!.. كنت أتعجّب ذلك التناغم الغريب بينها و بين زوايا مطبخها.و أزدري “سجنها” لأصابعها،تلك التي لو “حررتها” لصنعت ألف لوحةٍ و رواية. كنت أنظر إليها و هي غارقة في الأواني بعين الشفقة، مصرَّةً أنها تستحق أفضل من هذا، وأن رأسها ليس “طنجرة” و أن جملتها المعهودةَ بأن الطريق إلى قلب الرجل معدته، ليس إلا تبريراً لمقلاته التي تنبض بين جنبيه! و أن عليها أن تبحث في نفسها عن مساحةٍ خارج المطبخ، و أن زوجها أناني، و هي ستندم يوماً ما!.. أرقبها و يدور في بالي ألف تصورٍ لمستقبلها الخالي من الأحلام و الإنجازات، أراها تبكي سنين العمر التي مرّت و هي مدفونة تحت سطح البيت.
أصابعها تُرقِص أصابع البيانو بسرعة يختلط فيها أبيض المفاتيح بأسودها.. في كل أسبوعٍ تنتقل إلى مدينة لتحيي احتفالاً موسيقياً عنوانه أناملها .. كنت أستمع إلى عزفها الذي لا أراه سوى وسيلةً لتفريغ طاقاتٍ لم تجد لها مكاناً مناسباً .. تدقُّ باب الثلاثين دون رجلٍ إلى جانبها يشاركها الطرق .. لا طفلٌ يحتضن أصابعها .. و لا سقفٌ عائليٌّ يظلّلُها.. كنت أتعجب من ذلك التناغم الغريب بين أطراف أصابعها و حروف آلتها.. و أزدري “سجنها” لتلك الأصابع التي لو “حررتها” من قبضة العمل و التنقل من مكانٍ لآخر لربما ترتاح في كفّ حبيبٍ أو طفلٍ يناديها “ماما”.. كنت أنظر إليها و هي تميل بظهرها على سطح آلتها بعين الشفقة، مصرّة أنها تستحق أفضل من هذا .. تستحق مساحةً خاصةً و عائلةً صغيرة تحبها .. أصابعها لم تُخلق لتقضي سنواتٍ ممسكةً بتذاكر الطيران علّها تثبت للعالم موهبتها.. أنانيّة هي! ضحّت بالبيت و الاستقرار في سبيل سرابٍ أطلقت عليه اسم “حلم” تلاحقه من مكانٍ لآخر و هو يسكن توقّفها و استقرارها..! أرقبها و يدور في بالي ألف تصورٍ لمستقبلها الخالي من الاطمئنان و الحب، أراها تبكي سنين العمر التي مرّت و هي تلاحق في غرف الاحتفالات ما كان دوماً يسكن بيتاً.
كنت دائماً أكرّر على مسمعها أن الرجل الذي يرى من رأس المرأة “طنجرة” للطبخ، لا يناسبني ! ..و كانت تكرر هي، أن الطريق إلى قلب الرجل معدته، فأرد أن قلبه في حالة كتلك هو “مقلاة” لا أكثر ..! كنت أنتقد ما أفعل في آنٍ واحد. أُشّيِّء رجلاً يحب الطعام، كما تُشيّأ امرأةٌ ترفض الأدوار التي ألقاها “المجتمع” على كاهلها..! أرفض إلزام المرأة بدورٍ لا ترضى، ثم أرفض اختيارها لدورٍ -أنا- لا أرضى! ..
المرأة في كثيرٍ من الأحيان هي المجلود و الجلّاد .. هي الظالم و المظلوم.. هي المنتَقَد و المنتقِد.. تصرخ رافضةً إلزام المرأة بدورٍ لا ترضى، ثم ترفض اختيارها لدورٍ لا تراه هي مناسباً- تُشيّء رجلاً يحب الطعام واصفةً قلبه بالمقلاة، ثم ترفض تشييء المرأة بالأدوار التي ألزمها بها المجتمع. هي الأمّ التي قد تُجبِر ابنتها على الزواج ممن لا تحب لأنها تراه مناسباً، ثم في ذات الوقت تبكي ظلم حماتها. هي الأخت التي تفتعل المشكلات مع زوجة أخيها لأنها لا تعجبها، ثم في ذات الوقت تبكي ظلم أبيها الذي منعها عن إتمام تعليمها. هي الزوجة التي ترى في حماتها شبحاً عليها التخلص منه، و في ذات الوقت الموظفة التي تزدري معاملة مديرها لها فقط لكونها امرأة.. و هي في كل الحالات، تلك و تلك ! هي الزوجة و الأم و الأخت و الحماة! ..
استُعمِرت النساء يوماً ذكورياً.. و بقيت آثار ذلك الاستعمار قابعة في الفكر ..في فكرها قبل فكره! فإذا أرادت مدحكِ مثلاً قالت “بمية رجال” .. و لو أرادت ذمّه هو قالت “زي النسوان” .. “زوّدتها؟ ” طيب بلاش .. و لكني و بعيداً عن الأحلام الكبيرة و التحرر من الأدوار المجتمعية .. هناك في زمننا هذا بنات أطفال مازلن يجبرن على الزواج المبكر.. و هناك بنات من أذكى ما يكون يمنعن عن التعليم .. و هناك من لا تتكلم في حضرة زوجها خوفاً.. و هناك من تُزدرى فقط لكونها اختارت أن تكون أماً.. و هناك من يُنظَر إليها نظرة دونية لأنها اختارت وظيفة “ربة منزل”.. و هناك من تُغتَصب أحلامها ألف مرة فقط لأن تاء التأنيث اللعينة أُلحِقَت بها .. و اللعنة الكبرى أن الأم أو الأخت أو الجدة أو، أو ، أو .. ممن يشارِكنَها تاء التأنيث يقفن ضدها في وجه المجتمع..و يزدن الضغط على تائها، بتاء..
تُقطع أصناف الطعام، بفرح. و ألعب بمفاتيح آلتي بسعادة. لو أفهم قلبها، و تفهم هي نغم قلبي، و أعترف و تعترف أن هناك لبهجة الأنثى ألف طريق، هي تختار، لربما عندها تتّكئ تائي على تائك، و يغدو للتاءات سند.