أصبحت المشكلة التي تؤرق العالم، كل العالم حاليًا، هي مشكلة صعود تيارات العنف المسلح ذات الطابع الإسلامي، والتي ترفع رايات الجهاد في سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن، لكن نفس العالم الذي يحاول جاهدًا أن يُقاوم هذه الظاهرة، هو للأسف، الذي أنتجها وساعد في نموها ودفع الشباب دفعًا إلى الانتماء لهذه الجماعات.
إن السمة المشتركة لكل هذه البلدان التي تنشط فيها هذه الحركات، هي أنها دول ظلّت لعقود تحكمها الديكتاتوريات المدعومة من الغرب وفي القلب منها أمريكا.
في ديسمبر عام 2015، كتبت تقريرًا، عن استراتيجية ولاية سيناء (فرع تنظيم الدولة الإسلامية في مصر) لتجنيد الشباب، كان هذا التقرير بعد أيام من عملية تفجير فندق لإقامة عدد من القضاة في مدينة العريش شمال سيناء، والسبب الذي دفعني للبحث عن هذه الاستراتيجية، هو أن منفذَي العملية (أبو حمزة المهاجر، أبو وضاح المهاجر) لم يكونا على أي صلة بتنظيمات إسلامية، بل إن عمرو – أبو وضاح – كان عضوًا بحملة ترشيح البرادعي بعد الثورة، وكان معارضًا لجماعة الإخوان المسلمين، إبّان فترة وجودها في السلطة.
ألم يتساءل واضعو السياسات العالمية، لماذا نمت وتكاثرت أعداد الشباب المنضم للتجارب المسلحة في السنوات القليلة الماضية؟ إن حالة الإحباط والقمع والتردي على المستوى السياسي بعد إفشال الربيع العربي في معظم البلدان العربية، هو ما كرّس لدى الآلاف فكرة رفض التغيير السياسي والسلمي للسطة.
إن القمع الذي تنتجه السلطات الحاليّة في مصر وسوريا، ليدفع المئات بل الآلاف لاتخاذ هذا المنحى، لأن الأنظمة التي ترتكب بحقهم كل هذا القمع والقتل، تحظى بتأييد دوليّ وإقليميّ، دون أي رقيب على الانتهاكات التي يتعرض لها أبناء الشعب المصري والسوري.
هذا بشّار الجعفري ووليد المعلم يتجولون في ساحات الأمم المتحدة ومجلس الأمن دون حسابٍ أو عقاب، ويستمر نظام بشار الأسد في سحق شعبه دون أن توجه له الدول أي شكلٍ من أشكال العقاب
مصر التي يتلّقى جنرالها المبجل دعمًا موفورًا على الصعيد الدولي، بتجاهل ما ارتكبه من مجازر وانتهاكات بالجملة بحق المعارضين لسلطته العسكرية، وأنتج التعذيب داخل سجونه، انتقامًا في قلب من تخطّى عتبة أقبية أمن الدولة، ومؤخرًا وصل صديقه المعتوه إلى كرسي الحكم في أمريكا، متوعدًا بكثير من الدعم، في معركته ضد “الإرهاب”.
وبالعودة قليلًا إلى ما قبل انقلاب الثالث من يوليو عام 2013، كانت أعداد تنظيم التوحيد والجهاد الذي تحوّل إلى أنصار بيت المقدس قبل أن يبايع الدولة الإسلامية ويصبح ولاية سيناء، ضئيلة للغاية، بينما حاليًا ومع اتساع أعداد الساعين للانتقام من هذه السلطة الغاشمة، اتجه العشرات من الشباب للانضمام إلى التنظيم، والسبب، القمع الممنهج والقتل والسحل الذي يتعرضون له، فأضحى ذلك هو السبيل الواحد لأخذ حقوقهم ممن اعتدى عليهم.
قبل أيام، جلست إلى صديقٍ سوري، وهو معتقل سابق بالسجون السورية في أعقاب الثورة، ليحكي لي بعض مما شاهد داخل أسوار السجن، فحكى لي أنه ذات ليلة وصل إليهم طفل لا يتجاوز عمره الثلاثة عشر عامًا، منهك من الضرب والسحل في الطريق إلى السجن، وسبب اعتقاله أنه حين ذهبت مجموعة من القوات النظامية، لاعتقال أحد جيرانه لم يجدوه، وحينما همُّوا بالخروج من الحارة وجدوا هذا الطفل يلعب على ناصيتها فاعتلقوه حتى لا يعودوا لمأمورهم خالين الوفاض، وحينما عُرض الطفل على المحقق، ولم يستطع الإجابة على الأسئلة، تعرّض فورًا لأبشع أنواع الضرب والسحج، حتى بال في سرواله.
وآخر وهو قابع في زنزانةٍ انفرادية (متر ونصف في متر ونصف)، وفي أثناء طلبه للماء من السجّان، أعطاه زجاجة تستخدم في قضاء الحاجة، فما كان من السجان، إلى أن عرض عليه شكلين من العقاب، الأول أن يذهب إلى غرفة “التشبيح” للعقاب، والثاني أن يشرب ما في الزجاجة من بول، فاختار السجين الثانية على الأولى.
أما عن اللائي تخرجن من السجن وقد فقدن عزرياتهن أو تخرجن وقد حملن في بطونهن من السجانين، فحدث ولا حرج، إحداهن وهي “ختيارة” – حسب وصف صديقي – قال لها السجان بعد أن حصلت على الإفراج “الله نفّدك الليلة منّي”، يعني مضاجعتها.
كل هذه القصص وغيرها التي يشيب لها شعر الرأس، ألا تُخرج عنفًا وانتقامًا لو فتحت له الأبواب لأكل الأخضر واليابس؟ هذا الطفل وهذا السجين وتِلك “الختيارة” لو خرجوا من بوابات السجن وانضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية، أيقدر أحدٌ أن يلومهم؟
ثم ماذا، هذا بشّار الجعفري ووليد المعلم يتجولون في ساحات الأمم المتحدة ومجلس الأمن دون حسابٍ أو عقاب، ويستمر نظام بشار الأسد في سحق شعبه دون أن توجه له الدول أي شكلٍ من أشكال العقاب، ألا ينتج هذا كله عنفًا؟
وهذه روسيا، التي قتلت بالمناسبة أكثر بكثير مما قتله تنظيم كداعش، تقف لتخرج لسانها للعالم كله وهي تقتل الأطفال وترتكب المذابح في حلب، ثم لا يعاقبها أحد، بل يتوسّل إليها العالم لتتوقف عن قتل الأطفال والأبرياء لكن دون مُجيب.
أليس من العدل إذا كان تنظيمٌ كداعش يتم تصنيفه عالميًا كتنظيمٍ إرهابي، أن تُصنّف أمريكا أيضًا التي قتلت مئات الآلاف من العراقيين كتنظيمٍ إرهابي؟ أمن العدل أن تُترك دبلوماسية بشار الأسد تذهب وتروح وقتما تريد، بينما يتم اعتبار تنظيم كجبهة النصرة، تنظيمًا إرهابيًا؟
أما عن العراق، فتلك هي المصيبة الكبرى، دعم روح الفتنة الطائفية بين الشعب وتقوية بعض الفرق على الأخرى وتنحية أو قمع أو تهميش السنة على حساب الشيعة واضطهاد من هم غير تابعين للميليشيات الدولتية للعراق، كل ذلك ويتساءل الباحثون الغربيون عن نمو العنف في العراق!
إذا كانت وصمة الإرهاب التي يطلقها العالم وقتما يريد، خاضعةٌ لحساب الانتهاكات والجرائم فإن بوتين وجيشه وبشار الأسد وجيشه وجورج بوش وجيشه وعبد الفتاح السيسي وجيشه هم أكبر الإرهابيين الذين عرفهم التاريخ الحديث.
ألم يتساءل واضعو السياسات العالمية، لماذا نمت وتكاثرت أعداد الشباب المنضم للتجارب المسلحة في السنوات القليلة الماضية؟
إن الأنظمة الدولية، التي تدعي حاليًا أنها تحارب العنف، عليها أن تعلم أنها هي التي أنتجته وهي التي خلقته في مصانعها ودعّمت ديكتاتوريات قمعية أدت إلى المشهد الذي نراه الآن، وإذا كان الغرب يسعى الآن إلى دعم السلم والسلام في المنطقة عليه أن يتوقف عن هذه السياسات، لأن تراكميتها في العراق هي التي أنتجت تنظيم الدولة الإسلامية، والسكوت والتعمية بل والدعم لحماية حدود الكيان الصهيوني هي التي دعّمت صفوف العنف في سيناء، فالقهر الذي يتعرض له أبناء شبه الجزيرة السيناوية لن يُنتج سوى ولاية سيناء، فهذا هو السبيل الوحيد لأخذ الحق.
وأتذكّر حينما قال لي أحد أبناء المنهج السلفي الجهادي قبل أكثر من عامين ونصف ومع بداية تمدد تنظيم الدولة داخل سوريا: “سيأتي على العالم زمان يترحمون فيه على – الجهاد الوسطي الجميل – جهاد أسامة بن لادن وجنوده”، واستمرار هذه السياسات الفاشية، سيجعلنا بعد سنواتٍ قليلة نترحّم على “جهاد” أبو بكر البغدادي وجنوده.