كتب الفيلسوف والأديب الألماني الأشهر فرانز كافكا “Franz Kafka“، روايته المهمة “التحوُّل” أو “المسخ”، عام 1912م، ونشرها في العام 1915م، ولئن كانت هناك مرحلة عاشتها البشرية تُعبر أكثر من غيرها عن حالة الكابوسية والتشاؤم التي عبر عنها كافكا في روايتَيْه هاتَيْن، فلن تكون سوى الحرب العالمية الثانية والمرحلة الراهنة التي يعيشها العالم، حيث الموت والبؤس وراء كل حجر، ولم يعُد هناك مركزًا حضاريًا غير مهدد في أمنه.
أما أسوأ ما يحقق مخاوف كافكا الإنسانية، التي اتضح أنها كانت مشروعة وأنه كان محقًّا فيها، فهي النظرة العنصرية من جانب الإنسان إزاء إنسان آخر لا يملك من أمره شيئًا، أن أصبح أسود أو أحمر أو ملونًا، بما لا يتناسب مع أذواق السادة الذين يحكمون العالم، في ألوان البشر!
ولعلنا عندما نستحضر تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب عن المهاجرين والمسلمين، ونظرته إلى السود، والتي تبدو وكأنها نظرة إنسان إلى حشرة غريبة، فإننا نستحضر على الفور ما قاله وكتبه كافك في روايته المعبِّرة “المسخ” أو “التحول”، التي تتناول قصة عنصرية الإنسان، ونفعيته الممجوجة.
فالقصة تتناول أسرة بسيطة استيقظت ذات يوم لكي تجد أن عائلها الوحيد الذي كانت تحبه وتحتفي به تحول إلى حشرة! حشرة قبيحة كما ورد في الرواية أو ““ungeheuren Ungeziefer، مجرد خنفساء أو صرصور، فيتحول بطل القصة إلى أكبر سبب لإزعاج الأسرة، التي سرعان ما تتحول مشاعرها تجاهه إلى التقزز والنفور، وتصبح سعيدة عندما يموت، برغم كل ما فعله لأجلها!
و”التحول” المقصود في عنوان الرواية ليس تحول البطل جريجور سامسا إلى خنفساء، بل هو التحول الأكثر إرعابًا بالنسبة لكافكا، وهو الذي يأتي بشكل مفاجئ وغير إنساني في سلوك البشر، فهذه الأسرة التي كانت تضع بطل الرواية في أعلى عليِّين، فجأة تحول سلوكها تجاهه لأنه أصبح حشرة!
والآن يأتي ترامب لكي يروي نفس القصة ولكن من جهة أخرى، فهو لا يوجد لديه مسخ كافكا واحد، بل هو لديه ملايين من “المسوخ” الذين أعطوا الولايات المتحدة كل جهدهم، ويشكلون عصبًا مهمًّا في النشاط الاقتصادي الأمريكي، ويصنعون مجدها كل يوم، بينما هو ينظر إليهم باعتبار أنهم مجرد فيروسات، تمثل خطرًا على حضارة بلاده الرأسمالية، ولذلك فهو يريد طردهم، وربما لولا الإعلام لقال إنه يريد حرقهم!
ولكن، وقبل الاسترسال مع هذه المروية ثنائية المشهد بين كافكا وترامب، فإن هناك معلومة خاطئة شائعة عن كافكا وجب تصحيحها، من أنه كان ألمانيًّا، فالحقيقة هي أنه كان تشيكيًّا، ولكنه كتب بالألمانية بسبب الملابسات التي أحاطت بحياته وبسبب كونه يهوديًّا، حيث كان يهود أوروبا الشرقية في الغالب ما يتكلمون الألمانية التي كانت قريبة من لغة قديمة لهم هي “الييدِش”.
وبسبب يهوديته، وطبيعة نشأته الأسرية والحاضنة الاجتماعية التي نشأ فيها، فإن كافكا كان أقرب إلى الأفكار الاشتراكية، حيث كان أقرب إلى فئات الشعب من العمال والحرفيين أكثر من ميله لفئة المثقفين، وكان ضيفًا دائمًا على الاجتماعات السياسية التي يعقدها دعاة المذاهب الاشتراكية، لا سيما الفوضويين أو الأناركيزم الـ”Anarchists“.
“آلام الرئة ليست سوى انعكاس لآلامي المعنوية” هكذا كتب رائد مدرسة الواقعية الكابوسية، عن مرض السل عندما أصابه، وبالتأمل في كتابات كافكا وفي سيرته الذاتية، سنكتشف أن أكثر ما أدى إلى آلامه هو تغول الاستبداد والديكتاتورية وكذلك وحشية الرأسمالية، وكلاهما طبع على حياته وشخصيته بطابع لا يُنسى.
فلقد كان والده في شدته وقوة شخصيته، بمثابة كابوس مقيم لكافكا، لدرجة أنه كتب “رسالة لأب”، وفيها يغرق البطل نفسه استجابة لأمر أبيه!
الأمر الثاني الذي أثر فيه، كان مظاهر معاناة طبقة العمال والتي جعلته يرى القوانين المعمول بها في أوروبا في ذلك الحين بمثابة حبل مشنقة على رقبة هذه الطبقة التي لم يكن هناك ما يحميها من تغوُّل أصحاب رؤوس الأموال.
وبلغ من درجة تأثُّره بالفكر الاشتراكي وخصوصًا معاناة العمال، أن عَمِل – وهو الكاتب والفيلسوف – على اختراع خوذة أمان أنقذت عمالاً كثيرين من الموت خلال عملهم في مناجم الفحم في مملكة بوهيميا التي كانت أهم الكيانات السياسية في إمبراطورية النمسا – المجر، قبل أن يتم ضمها إلى تشيكوسلوفاكيا بعد الحرب العالمية الأولى.
والآن يأتي دونالد ترامب ببرنامجه الاقتصادي لكي يعيد الكرَّة بعد أكثر من مئة عام مما كتبه كافكا في روايته الشهيرة وغير المكتملة “أمريكا”، والتي يعبر فيها بطل الرواية كارل روسمان عن روح أمريكا الكئيبة التي لم يكن يتوقعها، لكي يعلنها – ترامب – صراحة، أنه سوف يتراجع عن كافة المشروعات التي بدأها سلفه الديمقراطي باراك أوباما في مجال الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وإعانات البطالة، فيما يعتزم ترامب وضع برامج ضريبية مثالية للشركات الرأسمالية الكبرى، التي بدت وكأنها راضية عنه، فعملت على دعم سوق المال الأمريكية التي انخفضت كثيرًا بعد خبر فوزه!
كارل روسمان! ملايين منه الآن من خارج القارة الأمريكية يعانون من الروح السلبية التي عبَّرت عنها قيم ترامب، الابن البار للرأسمالية في صورتها المتوحشة، حيث لا يوجد في الحياة الإنسانية أية جاذبية، فقط الربح والنفعية كما تكلم عنها جيرمي بنتام Jeremy Bentham، وآدم سميث Adam Smith، وغيرهما من الآباء الأوائل لمدرسة النفعية والبراجماتية الرأسمالية.
ولعل الأديب والناقد الفرنسي، جان جينيه Jean Genet، كان متجنيًا على كافكا عندما انتقده وعنَّفه على تشاؤمه الدائم وكآبة كتاباته.
فلو كان جينيه حيًّا في واقعنا المعاصر، ورأى الهول السوري، ورأى أفكار ترامب إزائه، بأن كل ما يرغب فيه في سوريا، هو محاربة الإرهاب، غاضًّا الطرف عن جرائم النظام السوري التي تشبه ما فعله جزارو الصرب خلال التسعينيات في مسلمي البوسنة والهرسك، وما فعله هتلر في شرق أوروبا في الحرب العالمية الثانية من قبل، فإن جينيه كان سيصبح مدينًا لكافكا، فما قدمه الأخير إنما هو في النهاية مرآة لواقع البشرية المؤسف الذي وصلت إليه، وما ترامب إلا مجرَّد معبِّر عنها بصوت مسموع.
ومن بين الفقرات المهمة التي تصف الحياة المحبطة في أمريكا التي لم يحبها قط، الموقف التالي الذي يتناول للمفارقة إشارة إلى إضرابٍ قام به عمال البناء ضد أحد كبار مقاولي المباني في نيويورك، وهو ذات المجال الذي أصبح ترامب ملياديرًا من خلاله:
“.. توقفوا (بطل الرواية كارل روسمان، ورفيقَاه ديلامارش وروبنسون) في أثناء اليوم مرة عند أحد المطاعم، وجلسوا خارجه في الهواء الطلق، إلى مائدة بدت لـ”كارل” وكأنها قد صُنعت من الحديد، وأكلوا لحمًا مسلوقًا كان من الصعب تقطيعه إلى شرائح، فكانوا يفرمونه بسكاكينهم وشوكاتهم، وكان الخبز مصنوعًا على هيئة أسطوانة، وقد انغرزت في كل من الرغيفين سكين كبير، وقد ضمت الوجبة أيضًا خمرًا أسود اللون يحرق الحلق، إلا أن ديلامارش وروبنسون كانا يستسيغان شربه، وقد ظلا يرفعان كوبيهما بعديد من الأنخاب، ويقرعان الكوبين عاليًا في الهواء من حين لآخر، وإلى مائدة مجاورة كان يجلس بعض العمال في قمصان صفراء، يتناولون نفس الشراب، وكانت العربات تمر من أمامهم بأعداد كبيرة، وتثير الغبار فوق المائدة، وكانت صحف كبيرة توزع على الجالسين، وتثور مناقشات حادة حول إضراب قام به عمال البناء، وكان اسم “ماك” يتردد كثيرًا في خلال تلك المناقشات وتساءل كارل عن صاحب الاسم، وعلم أنه والد “ماك” الذي يعرفه، وأنه أكبر مقاول للمباني في نيويورك، وقيل إن هذا الاضراب قد يكلفه عدة ملايين، وإنه يهدد وضعه المالي بالخطر، ولم يصدق كارل كلمة واحدة مما كان يقوله هؤلاء الناس المضللون، الحانقون”.
الفقرة في حقيقة الأمر تبعث على الكآبة، خصوصًا لو تم وضعها في سياق الرواية، حيث الثلاثة على وشك الإفلاس والبيات في العراء من دون طعام، كما أنها تشير إلى صدمة الكاتب الذي تصور أن أمريكا كبلد شاسع، قد تكون أكثر رحابة وكرمًا من ذلك مع العمال، فإذا به يقف أمام ذات المشاهد التي أثارت ضيقه في أوروبا.
ولنقرأ الآن في بعض معاني روايته “المحاكمة”، وخصوصًا المشاهد التي تصور بطل الرواية وهو يمثل أمام المحكمة في مكان منخفض ضيق، يجبره على الانحناء طيلة الوقت، وهو لا يعلم ما الذي اقترفه بالضبط، ثم يُحكَم عليه بالإعدام، ويقوده الجلادون إلى الموت مثل الحيوانات!
مشهدٌ مُستهجَن وقاسٍ؟! هتلر فعل ما هو أسوأ من ذلك في معسكرات العمل النازية، ومعسكرات القتل والترحيل القسري، ومن قبل الإسبان في محاكم التفتيش بحق المسلمين واليهود في إسبانيا، وبعد ذلك نجد الكافكاوية في أقصى درجات وضوحها في سلوك العصابات الصهيونية في فلسطين، وفي سلوك العصابات الصربية بعد ذلك بخمسةٍ وأربعين عامًا، في البوسنة والهرسك.
وترامب – كذلك – يريد أن يفعل هذا ويكرره، مع المكسيكيين والسود والعرب والمسلمين، وكل “غريب” عن بلاده، بالرغم من أن هؤلاء الغرباء هم في الأصل من صنعوا ما يُعرف الآن بالولايات المتحدة.
وترامب بالرغم من أنه لم يقُل ذلك صراحة، لكن تصريحاته عن المكسيكيين واللاتين على وجه الخصوص، تشي بذلك.
فهو اتهم المسلمين بالإرهاب وتوعدهم بغلق المساجد، ولكنه، وعندما تحدث عن اللاتين والملونين والسود، كان بالفعل يقف عند عتبة كافكا في وصفه لنظرة القاضي والجلادين لبطل قصته “المحاكمة”، حيوانات لا أكثر، عبيد إحسان أمريكا، ويجب بناء أسوار حاجزة تمنعهم من العودة بعد “طردهم” من أمريكا التي يبدو أنها ليست أرضًا رحبة كما اكتشف روسمان، بطل كافكا، مِن قبل مئة عام!
وفي الأخير، فلو كان كافكا حيًّا، لرقص فرحًا بهتلر وترامب، وآلاف غيرهم من المجرمين والعنصريين، التي تؤكد على أنه كان محقًّا في سوداويته وكآبته.
ولكنه، وكما رأى الشر في الحياة، لدرجة أنه قاله عنها “إنها لحياة مزدوجة رهيبة حقًّا، ولا أظن أن هناك مخرجًا آخر منها سوى الجنون”، فإنه يقول كذلك: “أنْ نكتب؛ يعني أن نهجر معسكر القَتَلَة”، فلنكتب، فلعلنا نتغلب بما نكتب على ترامب، وكل ترامب في هذا العالم.