“الفقراء وحدهم من يدفعون الثمن” هذه العبارة تلخص المشهد العام داخل مصر في الآونة الأخيرة، فبدلاً من أن تعمل الحكومة على خدمة الشرائح الأقل دخلاً، وتسعى بما لديها من استراتيجيات ورؤى لحمايتها من أي أعراض اقتصادية داخلية كانت أو خارجية، إذ بالوضع في مصر يختلف كلية وتفصيلاً، حيث بات الشغل الشاغل لدى القائمين على السلطة هناك هو مزيد من الضغط والقهر على الفقراء، فهم وحدهم من يتحملون فاتورة فشل السياسات المتبعة، ووحدهم أيضًا من يدفعون ضريبة أي خطة تسعى الحكومة من خلالها إلى تحسين وضعها أمام العالم، حتى ولو على حساب المقهورين من أبناء هذا الوطن.
ومؤخرًا وحتى تكتسب الحكومة المصرية ثقة صندوق النقد الدولي للموافقة على القرض المحدد قيمته بـ12مليار دولار على 3 سنوات، قامت باتخاذ بعض الإجراءات الاقتصادية القاسية، تنفيذًا لشروط الصندوق، ألقت بظلالها القاتمة على المطحونين والفقراء، إلى الحد الذي بات الحصول فيه على الدواء حلمًا يراود ملايين المرضى ممن افترشوا ساحات المستشفيات والمراكز الطبية للحصول على الحد الأدنى من العلاج.
اختفاء الدواء من الأسواق نتيجة ارتفاع سعر الدولار بعد قرار التعويم وتحرير سعر صرف العملة المحلية، بات شبحًا يهدد حياة الملايين بالموت البطيء حال الفشل في توفير بعض أنواع الأدوية التي ليس لها بديل، فما بين مطرقة جشع تجار الدواء، وسندان فشل الحكومة، يقبع المواطن في انتظار مصيره المحتوم.
اختفاء 450 صنفًا والكبد والسكر في المقدمة
حالة من القلق الممزوج بالترقب تنتاب معظم البيوت المصرية هذه الأيام بسبب ما أثير بشأن اختفاء العشرات من الأدوية، خاصة التي لا يستطيع المرضى الاستغناء عنها، وهو ما يهدد حياتهم، ويضعهم على قوائم انتظار الموت البطيء.
الدكتور يوسف بدير أمين عام نقابة الصيادلة بالإسكندرية، أكد في تصريحات له أن 450 صنفًا دوائيًا مختفيًا من الأسواق، 300 منها له بديل، و150 صنفًا ليس له بديل وغير موجود بجميع المحافظات، ما ينذر بكارثة حال عدم التدخل الفوري لحل هذه الأزمة
المتابع لحال سوق الدواء في مصر الآن، يلاحظ أن هناك نقص حاد في معظم الأدوية، خاصة تلك التي ليس لها بديل، وفي مقدمتها أدوية أمراض الكبد والسكري، فضلاً عن أمراض القلب والمتعلقة بالهرمونات، لا سيما وأن معظمها مستورد من الخارج
بدير أشار إلى أن أسباب اختفاء هذه الأدوية يرجع إلى زيادة أسعار المواد الخام المستخدمة في صناعة الدواء، ومن ثم تتقاعس شركات الأدوية عن استيرادها من الخارج بسبب ارتفاع أسعار الدولار مقابل الجنيه، وتشترط زيادة أسعار الأدوية بشكل رسمي بما يزيد عن 50%.
والمتابع لحال سوق الدواء في مصر الآن، يلاحظ أن هناك نقص حاد في معظم الأدوية، خاصة تلك التي ليس لها بديل، وفي مقدمتها أدوية أمراض الكبد والسكري، فضلاً عن أمراض القلب والمتعلقة بالهرمونات، لا سيما وأن معظمها مستورد من الخارج.
الدكتور مجدي عناني، صاحب إحدى الصيدليات بمدينة المنصورة، شرق القاهرة، أكد أن هناك أزمة في أدوية الكبد والسكر وأدوية الغسيل الكلوي بصورة خاصة، وفي مقدمتها دواء “كيتوستريل”، والذي يعمل كبديل للغسيل الكلوي، حيث اختفى من جميع الصيدليات لتوقف الشركة المستوردة له عن استيراده منذ شهرين تقريبًا.
عناني أشار لـ”نون بوست” إلى أن الكميات المتبقية من هذا الدواء في الصيدليات تحولت إلى مزاد رخيص للسوق السوداء، مشيرًا أن سعره الأصلي 320 جنيهًا، إلا أنه بلغ في السوق الموازية 900 جنيه في بعض الأحيان، وليس أمام المرضى بد من شرائه، خاصة في ظل عدم وجود البديل.
كما أضاف أن نسبة كبيرة من أدوية السكر والقلب اختفت من الصيدليات خلال الأسبوع الماضي بصورة غير مفهومة، في مقدمتها دواء “الأنسولين”، والذي يعد الدواء الوحيد لعلاج مرضى السكري ذوي الحالات المزمنة، فضلاً عن بعض الأدوية المتعلقة بأمراض الضغط والشرايين، محذرًا من خطورة استمرار هذا الوضع لمدة طويلة، ما قد يدفع بعض المجرمين إلى اللجوء لأدوية مجهولة المصدر “مصانع بئر السلم” تفتقد لأدنى معايير صناعة الدواء، وهو ما يعرّض حياة المرضى للخطر.
اختفاء 450 صنفًا دوائيًا من الأسواق المصرية
أين الحكومة؟
وفي المقابل طالب البعض بضرورة تدخل الحكومة للقيام بدورها لحماية المرضى من جشع التجار، وتعويض النقص في الأدوية المترتب على قرار تعويم الجنيه، حيث حث الدكتور أحمد العزبى، رئيس غرفة صناعة الدواء، خلال كلمته في اجتماع لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب، الحكومة بضرورة دعم قطاع الدواء لمدة 3 أشهر بمبلغ يتراوح من 12 إلى 15 مليار جنيه ومعاملة شركات الأدوية بسعر 888 قرشًا للدولار، قائلاً: “إن الدواء أهم من رغيف الخبز”، مشيرًا إلى أن هناك حالة من الهلع تسيطر على سوق الدواء المصرية، ومخاوف تسيطر على الشارع والمرضى تحديدًا، بعد اختفاء أنواع كثيرة من الأدوية، لافتًا إلى أن مخاوف نقص الدواء، دفعت الكثيرين للتخزين.
العزبي أضاف أن الأدوية المحلية لن تزيد أسعارها، نظرًا لأنها موضوعة تحت التسعير الجبرى من قبل وزارة الصحة، لافتًا إلى أن زيادة الأسعار سوف تطول الأدوية المستوردة بنسبة تصل إلى 40% خلال الفترة المقبلة نظرًا لارتفاع أسعار الدولار بعد قرار تعويم الجنيه.
مخاوف عديدة تسيطر على الشارع المصري والمرضى تحديدًا، بعد اختفاء أنواع كثيرة من الأدوية، والسوق الدوائي يعاني حالة من الهلع
وفي السياق نفسه، حمّل عمرو مرسي عضو غرفة صناعة الدواء، الحكومة مسؤولية اختفاء الدواء وزيادة أسعاره بصورة جنونية، مشيرًا إلى أن تحريك الأسعار التي تحددت للأدوية قبل ذلك لا تتناسب مع سعر الدولار بالسوق حاليًا، مشددًا على ضرورة إيجاد حل سريع، لأن المريض سيواجه أزمة عدم توفر الدواء، قائلاً: “قبل التعويم كنا نحتاج ما يقرب من 2.5 مليار جنيه لصناعة الدواء، ولكن بعد التعويم نحتاج إلى 8.5 مليارات جنيه”.
وزير الصحة المصري الدكتور أحمد عماد
الفقراء ضحية الصندوق
قلناها سابقًا، وسنظل نرددها، الفقراء دومًا هم الضحية، فمن تابع شروط صندوق النقد الدولي التي طالب البرنامج الاقتصادي الإصلاحي المقدم من مصر للموافقة على القرض الالتزام بها، يجد أن معظمها يصب عكس مصلحة الفقراء، حتى وإن كانت هناك بعض الشروط التي كشفت عنها السفارة البريطانية في القاهرة مؤخرًا بشأن دعم احتياجات الفقراء بنسبة 1%، إلا أن الحكومة ألقت بمثل هذه الشروط داخل صناديق القمامة، وهو ما اتضح فيما بعد عبر القرارات التي قامت باتخاذها.
من تابع شروط صندوق النقد الدولي التي طالب البرنامج الاقتصادي الإصلاحي المقدم من مصر للموافقة على القرض الالتزام بها، يجد أن معظمها يصب عكس مصلحة الفقراء
تلخصت شروط الصندوق في ثلاثة محاور أساسية، أولها: تحرير سعر صرف الجنيه وهو ما أفقده ضعف قيمته السوقية، في الوقت الذي تعاني في الرواتب من مشاكل في الحركة والنمو، ثانيًا: رفع الدعم تدريجيًا عن المحروقات والطاقة، وهو ما تسبب في زيادة أسعار السلع والخدمات وفي مقدمتها السلع الاستهلاكية والمواصلات والأدوية، ثالثًا: تقليص الجهاز الإداري للدولة عبر قانون الخدمة المدنية، وهو ما يلقي بالملايين في الشارع دون وظيفة أو عمل، رابعًا: سد العجز في موازنة الدولة، وذلك من خلال فرض المزيد من الضرائب والرسوم، في مقدمتها قانون القيمة المضافة، وتوفير المليارات المقدمة للدعم السلعي.
القارئ لجل هذه الشروط يجد أن المتضرر الأول منها هم شريحة الفقراء والمطحونين، أما الأغنياء ورجال الأعمال والطبقة المرفهة فلا تبالي لمثل هذه الشروط، بل إنها في كثير من الأوقات تحقق أرباحًا تفوق ما كانت تحققه قبل هذه الإجراءات الأخيرة.
40 مليون مواطن في انتظار الموت البطيء
بعيدًا عن المنطق الذي يفترض أن تسخر الدولة كامل طاقتها من أجل تحسين مستوى معيشة الفقير الذي لا يكاد يجد خطًا للفقر كي يندرج تحته، نجد أن المؤسسات الرسمية كرست جهدها في خدمة الأغنياء ورجال الأعمال والمستثمرين ليزدادوا غنى، وتناست الفقير ليزداد فقرًا.
دراسة تتوقع أن يصل عدد الفقراء في مصر إلى 75 مليون مواطن، بسبب ارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية وتراجع معدلات النمو وتحريك أسعار الصرف داخل السوق المحلي
ففي دراسة تحليلية أعدها الدكتور على عبد العزيز مدرس مساعد بكلية التجارة جامعة الأزهر، أثبت فيها أن معدلات الفقر في مصر في زيادة غير طبيعية، مرجحًا أن يصل عدد الفقراء إلى 75 مليون مواطن، بسبب ارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية وتراجع معدلات النمو وتحريك أسعار الصرف داخل السوق المحلي.
الدراسة توقعت ارتفاع معدلات الفقر في ظل اعتزام الحكومة تخفيض الدعم واستبدال ضريبة المبيعات بالقيمة المضافة ورفع أسعار فواتير الكهرباء والمياه والغاز، مؤكدة أن النسبة الحقيقية للفقر أكبر من ذلك خاصة وأن دخل المواطنين الأقل من دولار ليس مؤشرًا على الفقر بل امتد الأمر ليشمل الفئة ذات دخل الـ5 دولارات يوميًا، حيث صنفوا على أنهم فقراء، خاصة مع ارتفاعات الأسعار اليومية وانخفاضات معدلات التنمية الاقتصادية.
وقفة احتجاجية لسوء الخدمات الصحية
وفي قراءة سريعة لخريطة المرض في مصر، نجد أن هناك ما يقرب من 2.5 مليون مريض بالفشل الكلوي، إضافة إلى 15 مليون مصاب بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، و7.8 مليون مريض بالسكري، كذلك ما يزيد عن 20 مليون مريض قلب، بمعدل زيادة سنوية 1.5 مليون مريض، فضلاً عن ملايين المصابين بأمراض مزمنة أخرى، والتي يتم التعامل معها في أغلب الأحيان عن طريق الأدوية المستوردة، مثل أمراض المخ والأعصاب والأمراض النفسية .
وبحسب الدراسة سالفة الذكر التي تعضدها تقارير جهاز التعبئة العامة والإحصاء، فإن معظم المرضى من الفقراء، ومن ثم وفي ظل زيادة أسعار الدواء، خاصة المستورد منه، واختفاء البعض من الصيدليات، وخلق سوق موازية بأضعاف الأسعار المتعارف عليها، باتت حياة هؤلاء المرضى في خطر.
وفي المجمل، فإن الشارع المصري يحيا حالة من الغليان جراء هذه الكارثة التي تخيم على أرجاء الوطن نتيجة اختفاء أو زيادة أسعار الأدوية، في الوقت الذي تقف فيه الحكومة مكتوفة اليدين، لا تبالي بأنات المرضى، ولا بصرخات ذويهم، وباتت حياة ما يزيد عن 40 مليون مريض بالأعراض المزمنة التي تعتمد على الأدوية المستوردة في خطر، فهل تنتفض الحكومة استجابة لاستغاثة المطحونين من أبناء شعبها، خاصة وأنها السبب الرئيسي فيما وصل إليه حالهم، كما انتفضت رضوخًا لشروط صندوق النقد الدولي؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.