خرجت ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا ودول أخرى خلال الخمس سنوات الماضية لرفض الهيكل الاقتصادي “المتخلف” في قطاعات الاقتصاد المختلفة والذي رسخ لدى الشعوب الفقر والبطالة والفساد وعدم المساواة وسوء توزيع الثروة في سنوات استنزفت فيها الحكومات موارد البلاد الطبيعية والبشرية حتى أخرجت الشعوب العربية في دول الربيع العربي عن صمتها لتطالب بأبسط حقوقها في التشغيل والعمل والعيش الكريم.
ورغم أن البلدان العربية لا ينقصها شيئًا من الموارد البشرية والإمكانات الطبيعية والمادية لتبدأ مشوار التقدم نحو حياة أفضل للشعب وتأمين حياة كريمة للأجيال القادمة، فقد وجدت الحكومات نفسها محملة بكاهل أزمات ومشاكل مالية واقتصادية بفعل سياسات الأنظمة السابقة من جهة ومطالب الشعوب في الشوارع بإيجاد حلول سريعة من جهة أخرى.
فلم تلجأ أي من تلك الحكومات لمعالجة الهيكل الاقتصادي الهش الذي رسخته الحكومات المتعاقبة خلال السنوات السابقة للثورات، وبدأت من حيث انتهت متحملة على عاتقها أعباء مالية من عجز ودين وتخلف، لتتوجه لطرق الأبواب التقليدية لسداد ديونها ومعالجة عجوزاتها المالية وتمويل موازناتها لمن يملك المال النادر والعملة القوية لدى دول ومؤسسات أجنبية فتكون رهينة تطبيق شروطها المجحفة بحق الشعب قبل الحكومة نفسها.
صندوق النقد الدولي
منذ تأسيس صندوق النقد الدولي في خمسينيات القرن الماضي صدّر نفسه لمساعدة الدول في تمويل العجز المالي وكذلك إقراض الدول النامية التي بحاجة لذلك وفق آليات وشروط معينة يتم التفاوض عليها بين الحكومة المقترضة والصندوق المقرض، على أن الصندوق عبارة عن شخص لديه أموال كثيرة يتطلع لإقراض أمواله بفائدة واستردادها خلال فترة معينة ولضمان سداد القروض يفرض جملة من الشروط على الدولة/ الفرد/ المؤسسة المقترضة والتي لها الحق أن تقبل أو ترفض أو بالأساس ألّا تذهب إليه وتطلب منه إقراضها المال.
رئيسة صندوق النقد كريستيان لاغارد مع الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي
وفيما إذا كانت هناك مؤامرة كونية يضطلع بها صندوق النقد من مبدأ إقراض الدول الضعيفة بغرض التحكم بها وإفقار شعوبها فإن مبدأ عمل الصندوق ببساطة شديدة ربحي كما يعمل البنك العادي أو أي شخص يقرض شخصًا آخر المال، ولا علاقة له بالمؤامرة التي عادة ما تنسب إليه، والدليل أن الحكومة غير مرغمة أصلًا للذهاب إلى الصندوق وغير مجبرة بقبول شروط القرض، وثانيًا أي حكومة تمتلك بدائل حقيقية عوضًا عن التوجه لصندوق النقد تمكنها من الحصول على المال وتحقيق ما يطمح إليه الشعب من عمل وتشغيل وغيرها دون اللجوء للصندوق
أما عن الشروط فإنه في حال اقتراض شخص من أي بنك مبلغًا ماليًا فإن البنك سيطلب ضمانًا وهذا ما يقوم به صندوق النقد حيث يطلب ضمانات لاسترداد أمواله وهذه الضمانات تتمثل بشروط هي فلسفة النموذج الاقتصادي المعمول به في العالم المتقدم والقائمة على السوق الحرة والليبرالية الكاملة، من تعويم للعملة لفتح الأسواق نحو الاستثمار الأجنبي وخصخصة الشركات الحكومية والتخلي عن دعم السلع والخدمات ومنح الحرية المطلقة للمستثمر الأجنبي ليستثمر كيفما يشاء ويطالب بتخفيض أجور الموظفين والعاملين وسياسات مالية أخرى، وهذه الشروط شئنا أم أبينا هي الفلسفة الاقتصادية القائمة في العديد من الدول المتقدمة وللحكومات العربية الحق المطلق في رفض هذا النموذج واعتماد نموذج آخر يوازن بين مصالحها الدولية ومطالب شعبها وتوازن ميزانيتها.
ثم إنه ما دام لدى الحكومة علم بتجارب دول كثيرة ممن استلمت قروض من البنك وطبقت شروطه وفشلت على مرأى من العالم أجمع فلماذا تذهب بخيار الاقتراض منه مرة أخرى؟ أين المؤامرة إذا كانت الحكومة لديها كل الحرية في رفض أو قبول عرض الصندوق!
كريستيان لاغارد مع الرئيس العراقي حيدر العبادي
هناك دول في شرق آسيا رفضت الاقتراض من الصندوق ورفضت عروضًا بالجملة وسارت في بدائل أخرى معتمدة على سياسات اقتصادية عملية تمكنها من الخروج من الأزمة بشكل منهجي وطريق سليم ونجحت في ذلك، وفي المقابل فشلت دول كثيرة بعدما أخذت قروض من الصندوق وطبقت شروطه وسياساته المالية.
وبالعودة للشعب الذي خرج أصلاً للتخلص من دائرة السياسات التي أفقرته حتى وصلت للقمة عيشه وأدت لخروجه في ثورات فإن شروط الصندوق في ظل ما يعانيه الشعب من مرار تعتبر مجحفة له بالدرجة الأولى ومرضية بشكل كبير للرأسماليين ورجال الأعمال والنافذين في الدولة.
هل تغير صندوق النقد؟
وُصف الصندوق في العالم العربي منذ أواخر الثمانينيات وحتى انتفاضات الربيع العربي عام 2011 أنه ذراع الغرب التي تضغط على الدول لتبني سياسات تقشفية تفقر شعوبها، وقد وقعت أعمال شغب في الجزائر والأردن والسودان بسبب إجراءات التقشف التي أوعز بها صندوق النقد لحكومات تلك الدول التي عمدت لاتباع شروطه وسياساته من خفض للإنفاق والتخلي عن الدعم وتعويم العملة وغيرها.
واليوم يعود الصندوق في الأشهر الأخيرة ليقدم نفسه بمظهر آخر أكثر مرونة من ذي قبل، فقدم مليارات الدولارات لمصر والعراق والأردن والمغرب وتونس، ويقدم مستشاروه في العديد من الدول العربية الأخرى كالجزائر ودول الخليج المشورة بشأن التحول الاقتصادي.
وإذ نجح في تجاوز غضب الشعب حتى الآن إلا أن هشاشة الاقتصاديات العربية والقروض المقدمة للدول تذهب لخدمة الفوائد والقروض والإنفاق الجاري أكثر من الإنفاق على القنوات الاستثمارية وخلق الوظائف والعمل ومن ثم فالحكومات عملت على مبدأ الصدمة حين تخلت عن الجانب الاجتماعي تجاه الشعب ممثلة بسياسات الدعم وتعويم العملة ورفع الأسعار وهذا له ارتدادات ستظهر عاجلًا أم آجلًا إذا لم يتم معالجتها بالشكل المناسب.
كريستيان لاغارد مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي
وما دام الصندوق يركز في اهتماماته بشكل أكبر على الأمور المادية والمالية كإصلاح المالية العامة والعجز الخارجي دون النظر للمسائل الاجتماعية التي ترهق المواطن كالفقر والبطالة والفساد، فإنه يساند الغني على الفقير والقوي على الضعيف بمعية الحكومة الوطنية التي سمحت له بذلك، وهذا ما قد يعرضه لردة فعل أخرى من قبل الشعوب التي ترفض الصندوق والحكومة التي أحضرته وطبقت سياساته على أمل مجيء حكومة أخرى تطبق سياسات اقتصادية متوازنة تخرج الشعب من الدائرة التي لطالما أراد الخروج منها نحو الازدهار والتقدم والرفاه.