لا يخفى على أي من المتابعين للسياسة الخارجية الإيرانية، أن الجانب الديني الطائفي، يلعب دورًا كبيرًا في الاستراتيجية طويلة الأمد التي تعتمد عليها طهران، والمستمرة معها منذ بداية ثورة الخميني في العام 1979، والتي أقرت فكرة تصدير الثورة، ومعها توجهت أنظار الإيرانيين إلى العديد من الدول، ومن بينها الدول الإفريقية.
حواضن وجيوب شيعية
استطاعت إيران طيلة أكثر من 30 عامًا من العمل الدؤوب والمنظم، خلق حواضن وجيوب للمذهب الشيعي في غرب وشمال إفريقيا، وبدأ المسلمون البعيدون عن المناطق الشيعية يتأثرون بطروحات معممي طهران الفكرية، والتي خاطبت وجدانهم، خصوصًا مع النجاح الذي حققته ثورة الخميني، وبعدما رفعت شعارات إسلامية، منادية بدعم المستضعفين، والواقعين تحت وطأة الاستعمار.
أحد مؤتمرات الشيعة بإريتريا
إرث الصفويين
فكرة نشر المذهب الشيعي بإفريقيا شمالًا وغربًا وشرقًا ليست نابعة فقط من الباعث الديني، كما تشيع الدولة الفارسية، لكنها ترتبط بنسق ومفهوم سياسي استعماري إيراني، يعتبر أن الشمال الإفريقي هو إرث الدولة الصفوية، وهنا حاولت التغلغل في تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا، فيما يُعتبر شرق القارة مهم جدًا جيوسياسيًا، للهيمنة على مضيق باب المندب ومنطقة الخليج العربي، مدعمة توجهاتها بعلاقات قوية مع إريتريا وجيبوتي والسودان، في حين خططت لغزو الجنوب والجنوب الغربي، عبر المراكز الشيعية والحوزات والمؤسسات التعليمية، في وسط هش متنوع دينيًا وعرقيًا، ويفوق عدد سكانه 250 مليون نسمة، ويضم كلًا من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وساحل العاج والغابون وجامبيا وغينيا بيساو وغينيا وغانا ونيجيريا وبنين وتوغو وليبيريا وسيراليون والرأس الأخضر.
بالدعم المادي والمؤسسات التعليمية.. هكذا تلعب إيران بأوراقها في غرب إفريقيا
استغلال الجاليات والصوفيين
بدأت فكرة الهيمنة الشيعية على تلك المناطق في إفريقيا عن طريق استغلال الجاليات اللبنانية الشيعية، التي شكلت أول رافد لنشأة المذهب الجعفري في دول منطقة غرب إفريقيا خصوصًا السنغال ونيجيريا، يضاف إلى ذلك الرعاية المذهبية والسياسية ودور مؤسسات تصدير الثورة، منذ السبعينيات والثمانينيات، بعد أن بدأت المذهبية الجعفرية الإيرانية تهتم بنشر المذهب في مناطق جديدة، تأسيسًا لرؤى استراتيجية هامة لحماية الثورة، وتأسيس نهضة عالمية لإحياء أدوار للدولة أو الإمبراطورية الإيرانية ودورها الإقليمي والدولي، كما تواصلت بشكل رسمي وغير رسمي مع العديد من الطرق الصوفية في غرب إفريقيا، ومن أشهرها: التجانية والمريدية والقادرية، وأتباع هذه الطرق يقدرون بالملايين، ولا تلعب قيادات هذه الطرق دورًا كبيرًا في الشؤون الدينية فقط، بل يوازي ذلك أدوار اقتصادية وثقافية وسياسية، واستغلتها إيران عبر دعم بعضها بالمال، وبإنشاء بعض المؤسسات التعليمية.
وقام الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني، بزيارة السنغال في عام 1994، وتبرع شخصيًا لترميم “مسجد توبة”، كما أنشأت إيران مؤسسة (والفجر) ومؤسسة (مزدهر) و(جامعة المصطفى العالمية) التي تمارس أدورًا اجتماعية لا تعليمية فقط، حيث تنفق إيران على الملتحقين بها، والذين يزورن مدينة قم الإيرانية، وهي جامعة لها 12 فرعًا تنتشر في أنحاء إفريقيا.
أحمدي نجاد في السنغال
نيجيريا والسنغال نموذجًا
الجيوب والحواضن الشيعية الإيرانية تختلف في قوتها من دولة لأخرى، لكن أهمها كان في السنغال ونيجيريا، الدولتان الإسلاميتان الأكبر عددًا بالغرب الإفريقي، حيث أسست طهران “المنظمة الإسلامية” في ثمانينيات القرن الماضي، وهي معروفة بأنشطتها في نشر التشيع، كما أطلقت هذه المنظمة ميليشيات عسكرية معروفة باسم “حزب الله النيجيري”، ويعد أحد أقوى الأذرع الإيرانية في غرب القارة الإفريقية، في إطار سعيها لربط التشيع المحلي بالسياسة الدولية وأهدافها القومية، مما يهدد غرب إفريقيا بمزيد من التوترات والحروب الداخلية، خاصة مع تنامي الصراع الدولي على إفريقيا، وتجاوز تأثير هذا الحزب الآن ليمس عموم منطقة غرب إفريقيا بالكامل، مثله تمامًا مثل شقيقه اللبناني بمنطقة الشرق الأوسط.
جانب من المشاركين في المؤتمر
الأطروحة المهدوية
مؤخرًا جمعت إيران طلابًا من 30 دولة إفريقية في مؤتمر تحت شعار “الأطروحة المهدوية وواقع أتباع أهل البيت في إفريقيا”، وهو ما يؤكد الاستراتيجية الجديدة لطهران تجاه إفريقيا، والتي تعتمد على بناء النفوذ المدني والسياسي، قبل تحويل ذلك النفوذ لقوة عسكرية تدور في فلك المصالح العليا الإيرانية، والسؤال هنا.. لماذا هذه المنطقة بالذات؟ ولماذا الآن؟
قانون قيصر
جغرافيًا تبحث طهران الآن – وخصوصا بعد وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وإقرار مجلس النواب الأمريكي لمشروع قانون “قيصر” الذي يفرض عقوبات على نظام الأسد وداعميه، بما فيهم روسيا وإيران، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مع مناقشة قانون جديد لتجديد العقوبات على إيران لمدة عشرة سنوات مقبلة – عن آليات لاستغلال المكانة الاستراتيجية لإقليم غرب إفريقيا في التجارة الدولية، ومحاولة إيجاد موطئ قدم على الممرات المائية، حيث يمثل هذا الإقليم من الناحية الاقتصادية مسرحًا للتنافس الدولي، لعبور المنتجات المعدنية والنفطية المتميزة بالنقاء ورخص الأسعار وسهولة الشحن، كما تبحث عن الاستفادة من مميزات هذا الإقليم في علاقاته الدولية والإقليمية، ومن أن الإسلام يمثل دين الأغلبية به، وهو ما قد يعطي ثقلًا لإيران في المحافل الدولية، هذا بالإضافة لاشتراك دول المنطقة في عدة قواسم مشتركة سياسية “تجمع الإيكواس” وانفتاح الحدود وسهولة العبور من دولة إلى أخرى، وهو ما يسهل عمل أي مؤسسات وتنظيمات بها.
إحدى الحسينيات الإيرانية بإفريقيا
دور عربي
الغريب في الأمر أن الدول العربية السنية نفسها ساعدت إيران على تحقيق هذا الانتشار، عبر تحجيم دور العديد من المنظمات السنية، بحجة محاربة الإرهاب، مع تضييق الخناق على “مؤسسات العمل الخيري الخليجية” بحصر دورها في الأعمال الإنسانية بعيدًا عن الدعوية.
وعليه، فإن الدول العربية عليها اليوم وليس غدًا التحرك نحو تقوية بعثاتها الدبلوماسية بتلك المناطق، ودعم فكرة تجهيز الدعاة من نفس بلاد الغرب الإفريقي، ودعمهم ماديًا، مع الاهتمام بشكل كبير بالجانب الإعلامي التوعوي، والاستفادة من تقنيات التواصل، ووسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمرئية والمطبوعة وغيرها، والتواصل باللغات المحلية، وغيرها المنتشرة بين المواطنين، وفي حال لم ننجح في هذا علينا أن نتوقع رؤية إيران في حديقتنا الخلفية قريبًا.