من الممكن أن يكمن سر قوة الشيء في غموضه، فعدم معرفة النيوليبرالية بشكل واضح يسهل من عملية سيطرتها على أنظمة العالم الجديد دون وعي منا، فهم يقولون إن فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة هو دليل على فوز النيوريبرالية وكونها الأيدولوجية التي سيتبعها العالم الجديد، إلا أنه من الممكن أن تكون النيوليبرالية تنشر جذورها في المجتمع منذ بداية الأزمة الاقتصادية في عام 2008، أو مع بداية الاعتماد على مصادر خارجية للثروات والسلطات، وهو ما أوضحته لنا تسريبات وثائق بنما الأخيرة.
إنها الفلسفة التي ترى ترى أن المنافسة هي السمة المميزة للعلاقات الإنسانية، باعتبار العلاقات الإنسانية هرم متسلسل من سوق يجمع كل من الرابحين والخاسرين، لتخلق نظامًا أكثر كفاءة من ذي قبل، بحيث ستعتبر القيود الدولية أو الضرائب الحكومية وغيرها من القوانين مجرد عناصر معادية للإنتاجية،، لتسود رفاهية الأغنياء، أصحاب المشاريع الربحية على أفراد المجتمع.
ربما لعبت النيوليبرالية دورًا في انهيار نظام التأمين الصحي أو التعليم في العديد من الدول، أو كان لها دور في أزمة النظام البيئي الآن الذي تعمل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على عقد قمم للمناخ سنويًا للعمل على إنقاذه وحل مشكلاته، وأخيرًا ربما كان لها دور محوري في فوز شخصية مثل شخصية دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية للعام الجاري.
ربما سيظن من يقرأ الأزمات الأخيرة التي كان للنيوريبرالية دور فيها بأنها المحرك الشيطاني لكل الأزمات الدولية، ربما لأن المجتمع الدولي ينظر للأزمات السابقة كل على حدة، أي لا يراها متصلة ببعضها، أو على الأقل نتيجة حتمية لبعضها البعض لتكون هرمًا متسلسلًا في النهاية من الأحداث المتتابعة، دون إدراك احتمالية كون كل ما سبق يتبع نفس الفلسفة المتماسكة، فلسفة تسمى “النيوريبرالية”.
ما هي النيوليبرالية؟
النيوليبرالية هي محاولة واعية لإعادة تشكيل نظام حياة الإنسان، فقد وصلت من الانتشار أننا من النادر أن يكون بإمكاننا تسميتها بالأيدولوجية بعد الآن، النيوليبرالية ترى أن السمة الأساسية للمجتمعات هي المنافسة، وتجسد المواطنين فيها على أنهم مستهلكون، حيث يقومون باختياراتهم الديموقراطية عن طريق البيع والشراء، وهي العملية التي تقوم بمكافأة الغني ومعاقبة كل من كان غير كفء للمهمة التي يؤديها، وهي أيضًا العملية التي تنص على أنه من الممكن تحقيق أهداف في هذا العالم لم يسبقها التخطيط الجيد والكامل.
ولذا وبناءً على ما سبق يمكن تعريف تعبير “النيوليبرالية” بأنها تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص قدر المستطاع، حيث تسعى النيوليبرالية لتحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص بدعوى أن ذلك يزيد من كفاءة الحكومة ويحسن الحالة الاقتصادية للبلاد.
خصخصة الخدمات العامة والتقليل من القوانين والضوابط الحكومية هو ما تنوي عليه النيوليبرالية، بل هو ما حققته بالفعل، كما يتم تصوير اتحادات العمال والموظفين بمثابة تشويه رئيسي للهيكلة الهرمية التي تعمل النيوليبرالية على بنائها بعد تصنيفها لأفراد المجتمع إلى فائزين وخاسرين في السوق المفتوح.
عدم المساواة رفاه للجميع
ترى النيوليبرالية في عدم المساواة وسيلة لتوزيع للثروات على الجميع، فالسوق بالنسبة للنيوليبرالية هو أن يحصل الكل على ما يستحق، وهذا لا يعني أن يتساوى الجميع في التوزيع العادل للثراوت، لذا تعتبر فلسفة النيوليبرالية أن الجهود المبذولة لتحقيق المساواة غير فعالة وستؤدي إلى حتمية انتهاء النظام الأخلاقي.
من لا يلحق بالركب سيعتبر خاسرًا، هكذا تكون ميكانيكية النيوليبرالية، إن كنت عاطلًا عن العمل، فاللوم سيكون عليك وليس على الحكومات، هذا لأنك لم تغامر بدخولك للسوق الخاص، وأن تبدأ عملك الخاص بك، إن كان أطفالك مفرطي البدانة فهذه مسؤوليتك كذلك وليس مسؤولية عدم توفر لعب الرياضة في مدارسهم بعد الآن.
هكذا شرح كتاب “ماذا عني؟” ( What about me) للكاتب البلجيكي “باول فيرهايج” عن النيوليبرالية، حيث شرح فيه ما تحول العالم إليه من مشاهداته لاضطرابات التغذية، ومزيد من حالات الاكتئاب والوحدة، بالإضافة إلى الهلع الاجتماعي ومزيد من عدم الإنتاجية من البشر في مجالات عملهم، حيث تطرق في كتابه لأخذ بريطانيا كنموذج لإحدى الدول الأوروبية التي قامت بالفعل بتطبيق النيوليبرالية منذ سنوات عديدة، ليراها الكاتب بأنها والبريطانيين أصبحوا جميعًا نيوليبراليين، وقام بتوضيح انعكاس ذلك مجتمعيًا بالنسبة لبريطانيا، في كونها أكثر البلاد الأوروبية وحدةً في القارة العجوز، أي يتسم البريطانيون جميعًا بالوحدة والانعزالية، هل لهذا علاقة بالنيوليبرالية، هذا ما يتساءل الكاتب عنه في كتابه.
على الرغم من أن أول اعتراف سياسي بالليبرالية بشكل عام في إنجلترا عام 1688، إلا أن استقرار الثورة الليبرالية كان في فرنسا عام 1789، ليحل الاعتقاد الدولي السائد أن الليبرالية ستنتشر، وقد فُتح لها الباب للسيطرة المطلقة، وإذا بالقرن التاسع عشر يحفل بالدعوات الشمولية وضرورة تدخل الدولة، ويسخر من دعوات الفردية والحرية، لنعيش في القرن العشرين تجارب النظم التدخلية والشمولية من فاشية ونازية وماركسية.
كما لم تفلت الدول التي احتفظت بالتراث الليبرالي بشكل عام، حيث لم تلبث أن أفسحت المجال لتدخل متزايد للدولة في مختلف مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي، لتصبح الليبرالية من التراث الذي لا يناسب مدخلات العصر الحديث.
لا يعد الفكر الليبرالي دعوة إلى الحرية فقط، ولكنه بالدرجة الأولى دعوة إلى الفردية، واحترام مجال خاص يتمتع فيه الفرد باستقلاله وحريته دون تدخل أو إزعاج من الآخريين، والليبرالية بهذا المعنى لا تقتصر على الديمقراطية بالمعنى الإغريقي القديم لها، وهو ضرورة المشاركة في اختيار الحكام، ولكنها تتجاوز ذلك إلى ضرورة الاعتراف بحقوق أساسية خاصة للأفراد لا يجوز المساس بها، ومن هنا كانت الديمقراطية الوحيدة التي تتفق مع الفكر الليبرالي، هي الديمقراطية الدستورية التي تضع حدودًا على كل سلطة حماية لمجال خاص لحرمة الأفراد في أموالهم وحرياتهم.
إلا أن هذا كان في الماضي، فبعد ولاية ريغان للولايات المتحدة، صاحبتها تخفيضات هائلة لضرائب الأغنياء والحد من فعاليات ونشاطات النقابات والمزيد من الخصخصة والاستعانة بالمصادر الخارجية في الخدمات العامة، وذلك بالاستعانة بصندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، لتُفرض السياسات الليبرالية الجديدة دون موافقة الديموقراطية في أحيان كثيرة.
الآن هو عهد النيوليبرالية، التي تأخد من الأزمات سببًا كافيًا لإلهاء الشعوب في فرض سياسات غير مقبولة وغير منطقية بينما هم مصرفو النظر في أمور تؤرقهم لشهور بل وأحيانًا لسنوات، فمن الممكن أن يتم خلال العملية السابقة قبول ديكتاتورية ليبرالية على أن تقبل ديموقراطية خالية من الليبرالية فيما بعد!
المنافسة هي محور اللعبة في النيوليبرالية، ولكن المنافسة العالمية تعتمد على التقدير العالمي كذلك، وعلى المقارنة المستمرة، وهو النظام الذي سيضيق الخناق على العمال والباحثين عن فرصة عمل، حيث سيسهل على الفائزين معاقبة الخاسرين بسبب عدم قدرتهم على اللحاق بالركب الدولي.
على الرغم من أن النيوليبرالية لم تهدف في البداية إلى خدمة مصالح الفرد فقط، إلا أنها تحولت بالفعل لذلك، وهو ما يتم ملاحظته بالفعل منذ الثمانينيات وحتى الآن، وبالأخص في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، لينخفض النمو الاقتصادي في تلك الفترة، وترتفع نسب الخصخصة والتخلص من نقابات العمال، ويعم التوزيع غير العادل للثروات والمال.
قامت الغارديان بتغطية لبعض من نماذج النيوليبرالية في العالم في هذا التقرير، كان من بينهم “كارلوس سليم” أحد رجال الأعمال في المكسيك الذي قام بالتحكم في كل شبكات الهاتف المحمول في المكسيك، وتحول بعدها في الفترة 2010 وحتى عام 2013 إلى أغني رجل في العالم!
كلما زاد الفشل، ستتحول النيوليبرالية إلى فكر شديد التطرف، لتستغل الحكومات الأزمات لفرض سياسات النيوليبرالية الجديدة، نحو مزيد من خصخصة ما تبقى من الخدمات العامة وزعزعة الأمن الاجتماعي، وفرض قوانين وتعليمات جديدة تفرض على المواطن سياسات جديدة، لتتغلغل المصالح الشخصية المربحة والتي يكرهها المواطنون في كل قطاع في الدولة بعد الآن.
هل يعد ترامب تجسيدًا لفوز النيوليبرالية الجديدة السياسية هذه المرة بدلًا من الاقتصادية، في التوزيع غير العادل للأصوات وسحق الطبقات المتوسطة والفقيرة من أجل خدمة مصالح الأغنياء؟ وهل سيصبح من المألوف على العالم أن يقبل بديكتاتورية نيوليبرالية، على أن يقبل بديموقراطية لا تحظى بسمات الليبرالية؟