في اعتقادي انتهت الانتخابات الأمريكية بفوز ترامب وليس بفوز الحزب الجمهورى، إضافة إلى هزيمة هيلاري كلينتون وهزيمة الحزب الديمقراطي، ومن ثم خلقت هذه الانتخابات تساؤلات عديدة لعل أهمها بالنسبة لنا كعرب: إلى أين سيقود ترامب السياسة الأمريكية في المنطقة العربية؟
في الحقيقة قبل إجابة هذا التساؤل، هناك تساؤل آخر مهم ربما سيفتح آفاق الإجابة على التساؤل السابق، والسؤال هو: كيف استطاع ترامب الحصول على هذه النسبة العالية من الناخبين؟ على اعتبار صحة نتائج الانتخابات وعدم وجود حالات تزوير.
في تقديري أن التحليل السليم لأي حدث من الأحداث لا يتوفر بمجرد ما كان، وإنما بما قبله، وذلك بمحاولة فهم ما يمكن أن يكون، فالشعب الأمريكي ربما سئِم سياسات إدارة أوباما التي جعلت من الولايات المتحدة الدولة العظمى القوية تفشل في إرساء قواعد حماية المصالح الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالأمن والاستقرارعلى مستوياته كافة، إضافة إلى الفشل في تأكيد قوة وعظمة الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما فعل الرؤساء السابقون من أمثال ريغان وبوش وبوش الابن، فهناك سلسلة من حالات الفشل، فيوجد فشل في العراق وفشل في اليمن وفشل في ليبيا وفشل سوريا وفشل في ردع روسيا وفشل في ردع إيران، وازدياد الخوف من الجماعات الإسلامية المتطرفة، ومن ثم ربما جاءت نتائج الانتخابات لتؤكد الرغبة المجتمعية في التغيير، والمطالبة بسقوط السياسات التي جعلت من أمريكا تبدو كدولة ضعيفة.
كما يجب ألا ننسي بأن ترامب تعامل مع الانتخابات الأمريكية بعقلية الاقتصادي الذي يعلم جيدًا كيف يكسب، حيث يجرى التقديرات ويضع الخطط بناء على الشواهد التي يراها ببصيرة الاقتصادي، ويستشعر بتلك العقلية القدرة على تحمل تكاليف الخوض في الانتخابات، ويتوقع بالحساب أن بلوغها ممكن، كما يعتقد في نفسه بشرعية وأهلية تحمل المسؤولية فيما راهن عليه، حيث عرف بتلك العقلية بوصلة اتجاهات ورغبات ومشاعر جل المجتمع الأمريكي، فجاءت تصريحاته الجرئية والمثيرة للجدل تلبي تلك الاتجاهات والرغبات والمشاعر المجتمعية.
فهو على دراية جيدة بحجم تكاليف الانتخابات والمبالغ التي ستُصرف عليها، وكذلك على علم أيضًا بحجم الإيرادات المتحققة من الحصول على تلك السلعة – الفوز في الانتخابات – وهي رئاسة البيت الأبيض، ومن ثم ربما يأتي فهم وتفسير تشكيكه في نتائج الانتخابات الأمريكية في حال عدم فوزه، من خلال تلك العقلية.
لقد أكد لنا التاريخ البشري أن المجتمعات البشرية في حاجة دائمًا إلى زاد روحي لا تستطيع السلع أو البضائع وحدها أن توفره، ربما هذا هو ما جعل هناك قابلية مجتمعية لقبول أشخاص أمثال ترامب، فهذه القابلية قد تظهر عندما تشعر المجتمعات بضعف حكامها وقوة إمكاناتها، كما أن المجتمع يعتقد بأن استمرار الحاكم الضعيف قد يؤدي إلى ضعف الدولة، ومن ثم سقوط أو ضياع مشروع الدولة القوية، بالتالي لا مناص من البحث عن البديل.
كما أن كل تلك الأسباب ربما دفعت إلى ظهور قائمة جديدة من الاهتمامات المجتمعية غير تلك المتعارف عليها في المجتمع الأمريكي، وربما ترامب استيقظ إلى تلك الاهتمامات المجتمعية، التى أدت إلى تغيير نظرة واهتمامات الناخب الأمريكي، ليُفضل قائمة واتجاهات ترامب على قائمة واتجاهات كلينتون.
بالتالي يأتي السؤال المحوري في هذه المقالة هو إلى أين سيقود ترامب السياسة الأمريكية في المنطقة العربية؟
لقد تعلمنا في كتب السياسة بأن مدخل المصالح القومية أحد المداخل المهمة في تفسير وتحليل العلاقات الدولية، حيث تتسم المصالح القومية بوجود درجة عالية من الإجماع القومي حولها، كما أنها لا تتغير بسرعة من فترة زمنية لأخرى أو من قائد سياسي لآخر، وانطلاقًا من ذلك فإن السياسة الخارجية الأمريكية لا تختلف في عهد أي رئيس أمريكي عن الآخر، وخاصة ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، وإن كانت بعض الوسائل تختلف من حين لآخر، وهذا يعبر عن استمرار النهج الأمريكي بغض النظر عن الشخص الموجود في البيت الأبيض، وخلال مرحلة ما بعد الحرب البادرة أصبحت الولايات المتحدة تحتل مكانة القوة العظمى الوحيدة في العالم بعد انهيار منافسها السوفيتي، الذي أكسب وجوده في المرحلة السابقة النظام الدولي طبيعته كنظام ثنائي القطبية.
ومع هذا فإن احتلال الولايات المتحدة الأمريكية مكانة القوة العظمى بالنظر إلى قوتها العسكرية الهائلة لم يعد له نفس الأهمية خلال تلك الفترة في عالم تراجعت فيه أهمية التهديدات الأمنية، كما أدى غياب مصدر التهديد إلى اختفاء الإجماع الاستراتيجي الذي ميز المجتمع الأمريكي في فترة الحرب الباردة، كما أدى إلى ظهور اجتهادات متنوعة في تعريف مصادر التهديد وأساليب مواجهتها، حيث خرجت نوعية جديدة من مصادر التهديد التي تواجه الولايات المتحدة، حيث ستلزم تطوير مفاهيم وسياسيات واستراتيجيات جديدة.
كما أن متغيرات ما بعد الحرب الباردة مثلت تحديًا كبيرًا للولايات المتحدة التي كانت فاقدة الاتجاه في العالم الجديد عن عالم الحرب الباردة، الذي اعتادت عليه مؤسسات التخطيط السياسي والاستراتيجي الأمريكي، كما استطاعت الولايات المتحدة خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة أن تتحرك بدرجة كبيرة من الحرية في منطقة الشرق الأوسط دون أن تكون مضطرة لتحمل تكلفة مهمة لأفعالها، بما في ذلك لأخطائها، فكان غزو افغانستان وغزو العراق.
وخلال الفترة الممتدة من 2010 وحتى 2016 أصبحت منطقة الشرق الأوسط أقل أهمية في السياسة الأمريكية، كما أدت السياسة الأمريكية المتبعة من قبل إدارة أوباما إلى فقدان منطقة الشرق الأوسط لجانب من مصادر أهميتها الاستراتيجية للولايات المتحدة مما جعل مشاكل المنطقة واحدة من المشكلات العادية التي تواجهها سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وليس كواحدة من مشكلاتها المركزية كما كان من قبل، كما شهدت هذه المرحلة الحراك المجتمعي العربي 2010م وبدايات 2011م، حيث شهدت السياسة الأمريكية خلال هذا الحراك تخبطًا وعدم توازن في السياسات والمواقف، بالرغم من كون الولايات المتحدة لعبت دور الداعم الخارجي في ذلك الحراك، والمُيسر له.
إلا أنها وبعد فترة من الزمن أعلنت من خلال تصريحات رئيسها وفي أكثر من مناسبة عن كون تلك السياسات والمواقف خاطئة، مما أدى إلى انسحاب أمريكي من المنطقة، ساهم ذلك الانسحاب في دخول روسيا كلاعب مهم في المنطقة، حتى وصل الأمر إلى أن أصبحت الولايات المتحدة تستجدى روسيا في أكثر من مناسبة بشأن اتخاذ أو تعديل بعض المواقف، أو السياسات تجاه المنطقة.
في اعتقادي أن ترامب ربما سيحاول إرجاع هيبة الولايات المتحدة، من خلال اتخاذ سياسات ومواقف أكثر شدة من سلفه اوباما، بالرغم من كون مؤسسة السلطة في الولايات المتحدة ليست تفاعلاً لمؤسسة واحدة، إنما عبارة عن تفاعل لمجموعة من المؤسسات، فهناك مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وهناك جماعات الضغط، وهناك قوى وتيارات مختلفة، وحركية هذا الخليط وتفاعله والتفاعلية النسبية لأطرافه هي التى تخلق المواقف والسياسات الأمريكية.
إلا أن ترامب بحسب اعتقادي لن يعترف بتلك التفاعلية النسبية، ومن ثم سيحاول الضغط على تلك المؤسسات من أجل جعل سلطة البيت الأبيض هي السلطة القوية والفعلية، وبشكل عام يمكن القول إن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط خلال فترة ترامب ربما ستركز على النقاط التالية:
– ضمان استمرار التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي.
– استرجاع وزيادة الوجود العسكري في بعض بلدان الشرق الأوسط.
– دعم النظم الحكم في المنطقة التى تحارب الجماعات الأصولية، ومن ثم سيكون معيار ومؤشر الاهتمام بطبيعة الحكم في المنطقة أمني فقط.
– زيادة الدور المباشر للولايات المتحدة في تحقيق الأمن بالمنطقة على اعتبار أن ذلك الأسلوب الأكثر ضمانًا لإرجاع النفوذ الأمريكي في المنطقة.