للمرة الأولى في تاريخ الدول العربية، تستمع تونس اليوم، لضحايا الماضي، حيث تبدأ هيئة الحقيقة والكرامة (دستورية) المعنية بالنظر في انتهاكات حقوق الإنسان، الليلة، تنظيم أولى الجلسات العلنية للاستماع إلى عدد من ضحايا الاستبداد منذ الاستقلال عام 1955 حتى 2013.
شهادات للحديث عن المعاناة والانتهاكات
الجلسات وصفت بـ”الحدث التاريخي”، حيث قالت رئيس الهيئة سهام بن سدرين إنها ستكشف عديد من الحقائق وستنصف الضحايا وستدَرَّس للأجيال المقبلة، وسترفع صورة تونس في الخارج كنموذج للتسامح والمصالحة.
ومن المنتظر أن تبث الجلسات في وسائل إعلام محلية ودولية، كما سيحضرها ضيوف من تونس ورؤساء لجان الحقيقة في العالم (إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية)، وسيتاح الخميس والجمعة لكل ضحية من 30 إلى 45 دقيقة للحديث عن المعاناة، وستغطي الشهادات عددًا من الحقبات، يقدمها رجال ونساء ينتمون إلى عائلات سياسية متنوعة، ومن مختلف المناطق.
وشُكِلت هيئة الحقيقة والكرامة في يونيو/ حزيران 2014، من طرف المجلس الوطني التأسيسي، وتتولى مهمة الإشراف على تطبيق قانون “العدالة الانتقالية”، للنظر فيما يتردد عن تجاوزات حقوق الإنسان بين 1 يوليو/ تموز 1955 و24 ديسمبر/ كانون الأول 2013، تاريخ صدور هذا القانون.
الهدف من البث المباشر لشهادات ضحايا الاستبداد، إيصال المعلومة للرأي العام وتوثيق كل ما سيُقال، فضلاً عن إنصاف الضحية ومحاسبة المنظومة وليس الانتقام من الجلادين
ويبدأ القانون منذ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، ثم حكم الحبيب بورقيبة (1957- 1987)، مرورًا بعهد الرئيس المطاح به زين العابدين بن علي (1987- 2011)، وانتهاءً بحكومة الترويكا (2011- 2013)، ويشمل 58 عامًا.
ويمثل الهدف من البث المباشر لشهادات ضحايا الاستبداد، إيصال المعلومة للرأي العام وتوثيق كل ما سيُقال، فضلاً عن إنصاف الضحية ومحاسبة المنظومة وليس الانتقام من الجلادين، وفق تعبير رئيسة الهيئة سهام بن سدرين.
وسيتمكّن ضحايا الاستبداد، خلال هذه الجلسات، من عرض شهاداتهم لأول مرة أمام العموم، عن المعاناة والانتهاكات التي تعرّضوا لها طيلة سنوات القمع من سنة 1955 (تاريخ الاستقلال الداخلي) إلى سنة 2013.
اعتبر عديد من التونسيين أن هذه الجلسات من شأنها إعلاء راية تونس وإشعاع اسمها في الخارج
وفي تصريح لنون بوست، قالت الطالبة الجامعية منال بن أحمد: “أبارك وأشجع اتخاذ مثل هذه الخطوة وبثها عبر قنوات وطنية وأجنبية، فلا بدّ من إنعاش الذاكرة الجماعيّة حتى لا تنسى الانتهاكات التي طالت عديدين في عهد الاستبداد وحتى لا يطال الحنين إلى الماضي من هم ذاكرتهم قصيرة، ضحايا الاستبداد في رأيي لا يبحثون عن التعويض المادّي بقدر جبر الضرر المعنوي، فمن المؤكّد أن تثير الشهادات ردود أفعال تجدّد العزم على القطع مع المنظومة القديمة بمختلف مكوّناتها”.
واعتبر عديد من التونسيين أن هذه الجلسات من شأنها إعلاء راية تونس وإشعاع اسمها في الخارج، وفي هذا الشأن قالت الإعلامية حنان العريض: “الأهم ليس ما سيتم اختصاره في ست ساعات بمعدل ساعتين في اليوم ولكن المهم هو ما سيحفظ في المدونة، فلن تحفظ فقط الذاكرة الوطنية بل ستحقق نقلة هامة في نظرة الآخر إلى تونس ولعل نموذج جنوب إفريقيا خير دليل على ذلك، وأتمنى أن يخصص فضاء عام في شكل متحف مثل رواندا يحفظ كل ما توصل إليه من إفادات الضحايا وسيكون له أثر عميق”.
ومن المنتظر أن تشمل هذه الجلسات الضحايا والشهود ومرتكبي الانتهاكات أيضًا، إذ يُلزم قانون العدالة الانتقالية مرتكب الانتهاك سواء في ملفات انتهاكات حقوق الإنسان أو الفساد المالي الذي قدم ملفًا لتسوية وضعيته عبر آلية التحكيم والمصالحة أن يشارك في جلسة استماع علنية ويقدم اعتذاره للشعب التونسي، ونظمت الهيئة 10 آلاف و600 جلسة سرية للاستماع إلى ضحايا الانتهاكات منذ بداية أعمالها وحتى اليوم.
“فضاء عليسة” من رمز للفساد إلى مكان للعدالة الانتقالية
وفي دلالة رمزية لإنصاف الضحايا، تقرر تنظيم جلسات الاستماع بفضاء خاصّ بالعاصمة كان ملكًا ليلى بن علي، زوجة الرئيس المخلوع، وتقتدي تونس من خلال هذه الجلسات بعديد من الدول التي انتهجت مسار العدالة الانتقالية في فترات التحول الديمقراطي، وعرفت تنظيم جلسات استماع علنية للضحايا، وذلك للمساهمة في إعادة الاعتبار لهم واستعادة كرامتهم من خلال تبليغ صوتهم عبر سرد تجاربهم ومعاناتهم للعموم نتيجة الانتهاكات الحاصلة.
ولطالما كان “فضاء عليسة” بسيدي ضريف بضاحية سيدي بوسعيد، رمزًا للقمع والفساد، إذ استغله أقرباء العائلة الحاكمة في عهد الرئيس المخلوع بن علي، للقيام بالعديد من التجاوزات.
685 ملفًا باسم الدولة التونسية، بصفتها متضررة، تتعلق بانتهاكات الفساد المالي والاعتداء على المال العام
وستساعد هذه الجلسات العلنية، حسب عديد من الخبراء، في حفظ الذاكرة، وطي صفحة الماضي للمرور إلى المصالحة الوطنية، وناهز عدد الملفات التي تم إيداعها لدى الهيئة بشأن انتهاكات حقوق الانسان المرتكبة منذ الاستقلال وصولاً لتاريخ صدور قانون العدالة الانتقالي، 62 ألف ملف، من بينها 685 ملفًا باسم الدولة التونسية، بصفتها متضررة، تتعلق بانتهاكات الفساد المالي والاعتداء على المال العام.
وشملت الانتهاكات في تونس، في عهدي بورقيبة وبن علي، مختلف العائلات السياسية التونسية بجميع تياراتها من الإسلاميين والقوميين واليساريين والجمعيات والمنظمات والنقابات المهنية والطلابية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين ونقابة الصحافيين والاتحاد العام التونسي للطلبة وجمعيات مناهضة التعذيب، إضافة إلى أقليات من يهود وأمازيغ وسود.