كان فوز الملياردير الأمريكي، دونالد ترامب، مفاجأة صاعقة لكثير من الأمريكيين، بما في ذلك قيادات وخبراء الحزب الذي ترشح باسمه، الحزب الجمهوري، وللغالبية العظمى من السياسيين في العالم، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم. لم تنجم المفاجئة من خطأ حسابات استطلاعات الرأي، لأن استطلاعات الرأي كثيراً ما تخطئ. ليست السياسة علماً بالمعنى الذي توصف به الفيزياء أو البيولوجيا، ولا تتمتع استطلاعات الرأي باليقين الرياضي. جاءت المفاجأة من حجم التباين بين خطاب ترامب ووعوده، من جهة، وما تعنيه الدولة في تجليها الرأسمالي الليبرالي، دولة ما بعد الحرب الباردة، من جهة أخرى، وما تعنيه أمريكي في المنظومة الغربية، بصورة خاصة.
لقطاع من الأمريكيين، مثّل فوز ترامب كابوساً ثقيل الوطأة. المرشح، الذي أهان ملايين المكسيكيين المهاجرين، ووصفهم بتجار المخدرات والمغتصبين والمجرمين، وتعهد بطرد ما يزيد عن عشرة ملايين من المقيمين غير المسجلين منهم، الذي لم يتردد في وصف المسلمين بالإرهاب ووعد بمنعهم من دخول البلاد، الذي سخر من المعاقين جسمياً، والذي لم يخف احتقاره للمرأة وتعامله معها كمجرد سلعة للاستهلاك، المرشح الذي رأى معارضيه، وهم أكثر من نصف الأمريكيين، مجرد ليبراليين منحلين أخلاقياً، المرشح الذي لم يستطع حتى الفوز بأغلبية أصوات الناخبين، سيصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. لحلفاء واشنطن، كان الحدث أكثر مدعاة للخوف، فترامب لم يخف إعجابه بنموذج الزعيم القوي المستبد، وحسب، بل وهدد بتقويض الأسس التي يستند إليها النظام الليبرالي الغربي منذ ما بعد الحرب الباردة.
أنذر ترامب شركاء الولايات المتحدة في حلف الناتو بالتخلي عن الحلف إن لم يستجيبوا لشروطه، بما في ذلك التحلل من مسؤوليات الدفاع عن دول تتعرض لمخاطر روسية، لم يخف عزمه على التخلي عن اتفاقية باريس لحماية المناخ والبيئة، وأعلن عن سعيه إلى إطلاق حرب تجارية ضد الصين (التي تقوم باغتصاب الاقتصاد الأمريكي، كما كرر في حملته الانتخابية)، وقال إنه سيضع الاتفاقية حول الملف النووي الإيراني في سلة المهملات.
لم يتردد ترامب مطلقاً، طوال أكثر من عام من الصراع الانتخابي، في الكشف عن ميوله القومية المتطرفة. وفي السياق الأمريكي، في دولة المهاجرين من كل أنحاء العالم، الدولة الأكثر تعددية وتنوعاً، إثنياً وعرقياً ودينياً، تأخذ القومية المتطرفة معنى ودلالة خاصتين، معنى الفاشية ودلالاتها.
أراد ترامب استنهاض الكتلة الأمريكية البيضاء، التي تشعر أنها مهددة بالمتغيرات الديمغرافية الحثيثة في بلاد المهاجرين، بسياسات المساواة بين المواطنين، وبالمتغيرات الاقتصادية العميقة التي جاءت بها التقنية الحديثة والتجارة بين الدول. كل الرؤساء الأمريكيين، ديمقراطيين كانوا أو جمهوريين، تبنوا سياسات محافظة في المجال الاجتماعي، أو الثقافي، أو الاقتصادي. ترامب هو الأول الذي يعرب عن ميول بالغة المحافظة في المجالات الثلاثة معاً: نزعة معادية للتبادل التجاري بين الدول، كراهية عمياء لمعظم البشر من غير البيض المسيحيين، ودعوة صريحة للتخلي عن مكاسب المساواة والحرية التي حققتها فئات المجتمع الأمريكي المختلفة خلال العقود القليلة الماضية.
تكاد أمريكا أن تكون الدولة الوحيدة في العالم التي بنيت على فكرة، وليس على تصور قومي حصري لأمة تقطن قطعة معينة من الأرض. وحتى وهي تقتلع السكان الأصليين من مواطنهم، وهي تستعبد الأمريكيين من أصول إفريقية، وهي تخوض حرباً إمبريالية وراء الأخرى، لم يستطع رئيس أمريكي واحد إلغاء وعود الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية التي حملها إعلان الاستقلال، أو إعادة كتابة الدستور بما يوافق هواه. ترامب هو النقيض الكامل للفكرة التي بنيت عليها أمريكا، للوعود التي حملها إعلان الاستقلال والدستور الأمريكيين.
ثمة أسباب لفوز ترامب، بالطبع. استطاع ترامب، في ولايات محددة وحاسمة، أن يقدم نفسه متحدثاً باسم، ومعبراً عن أزمة الناخب الأبيض من الطبقة العاملة والشرائح السفلى والوسطى من الطبقة المتوسطة. تقليدياً، كانت هذه الفئات الاجتماعية ضمن القاعدة الانتخابية للديمقراطيين.
خلال السنوات القليلة الماضية، سيما بعد أزمة 2008 المالية/ الاقتصادية، ترك الديمقراطيون هذه الفئات خلفهم. لم ينجح ترامب في كسب هؤلاء إلى صفه، وحسب، ولكنه نجح أيضاً في دفعهم للتصويت، ورفع نسبة المصوتين البيض بين عموم الناخبين من 60 إلى 70 في المئة. لا يريد أغلب هؤلاء رؤية الدور الذي يلعبه التقدم المتسارع في وسائل الإنتاج في إغلاق المصانع التى اعتادوا العمل فيها، وتراجع فرص العمل في الولايات الصناعية التقليدية. ما يرونه أنهم يخسرون الامتيازات التاريخية التي تمتعوا بها، وأن خسارتهم تعود إلى منافسة السلع الصينية الرخيصة، إلى اتفاقيات التجارة الدولية غير المنصفة لأمريكا، إلى مزاحمة أيدي المهاجرين العاملة الرخيصة، وإلى استيلاء مجموعة من الليبراليين، دعاة المساواة بين السود والبيض والنساء والرجال والمثليين وغيرهم، والمسلمين والمسيحيين، والمهاجرين اللاتينيين ومن بنيت الولايات المتحدة على أكتافهم، على مقاليد الحكم والقرار.
قام ترامب بواجبه تجاه الكتلة البيضاء العاملة كما لم يفعل مرشح رئاسي من قبل، ولم يتردد في صياغة رسائل فاشية مستبطنة، تستجييب لمخاوفهم وشعورهم بالتهديد. ثمة كثير من الأمريكيين يعتقدون أن بلادهم عظيمة بالفعل، بعد أن انتخبت رئيساً أسود لدورتين متتاليتين، ونجاح هذا الرئيس في إنقاذ البلاد من الهوة الاقتصادية، وأخراجها من حروب خاسرة ومدمرة، وأعاد بناء صورتها في العالم. ولكن شعار حملة ترامب الأبرز كان «لنجعل أمريكا عظيمة من جديد»، بمعنى أن الرئيس الليبرالي الأسود، باراك أوباما، تسبب في انهيار أمريكا وضياع مقدراتها.
صيحة ترامب الثانية: «لنستعد حكومتنا»، تفترض أن الرئيس الأسود وحفنة ليبراليي واشنطن من حوله سلبوا الدولة الأمريكية من أصحابها الحقيقيين، الكتلة الناخبة البيضاء.
ترامب، بكلمة أخرى، فاز بتعزيز حدة الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، بتصعيد الخوف من المستقبل، بتعميق الكراهية بين فئات الأمريكيين المختلفة، وقيادة انقلاب كامل الأركان على وعود الدستور وإعلان الاستقلال.
ولكن هذه ليست نهاية الطريق، بالتأكيد. ولدت الدولة الحديثة أصلاً على جانبي الغرب الأطلسي. ولم ينجح الغرب في دمقرطة هذه الدولة وجعلها أكثر استجابة لإرادة الأغلبية، ولكنه نجح أيضاً في توطيد عرى المؤسسات التي ينبغي للدولة أن تستند إليها: البيروقراطية المحايدة، حكم القانون، الفصل بين السلطات، استقلال القضاء، وحرية التنظيم المدني. هذه المؤسسات، وليس الدورات الانتخابية، وحسب، ما يلعب دوراً هائلاً في عقلنة السلطة الحاكمة. والرئيس الأمريكي، كل رئيس أمريكي، يحكم ضمن شروط بقاء واستمرار الدولة ومؤسساتها. وعلى ترامب، فوق ذلك، أن يأخذ في الاعتبار المعارضة الليبرالية واسعة النطاق لخطابه وبرنامجه المفترض، إذ مهما كانت أسباب فوز ترامب ودلالاته، فليس ثمة شك أن المجتمع الأمريكي اليوم أكثر ليبرالية عما كان عليه قبل جيل.
وربما تؤشر المظاهرات المبكرة على فوز الملياردير النيويوركي بداية مواجهة واسعة، لن يكون باستطاعة إدارته تجاهلها.
ليس ثمة الكثير مما يمكن قوله بيقين عن الطريقة والسياسات التى سيحكم بها ترامب. ما يمكن التأكد منه أن رئاسته ستمثل حلقة صراع محتدم بين النزعات الفاشية، من جهة، وعقلانية الدولة وقيم الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، من جهة أخرى.