حالة من الزخم تخيم على أجواء الشارع المصري في الفترة الأخيرة، تشير إلى احتمالية تحريك المياه الراكدة في نهر السياسة المتجمد منذ الإطاحة بحكم الإخوان في 2013، في ظل سيطرة لغة الاستقطاب على المشهد برمته طيلة السنوات الثلاثة الماضية.
رفع اسم المرشح الرئاسي الخاسر الفريق أحمد شفيق من قوائم الترقب والوصول، إخلاء سبيل نجلي الرئيس المخلوع حسني مبارك، إلغاء حكم الإعدام بحق الرئيس المعزول محمد مرسي.. ثلاثة أحداث متتالية خلال 48 ساعة فقط، تبعث برسائل ثلاثة، ما مضمونها؟ ولمن توجه؟
عودة شفيق
ما يزيد عن ثلاث سنوات كاملة قضاها المرشح الرئاسي الخاسر، ورئيس وزراء مصر إبان حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، الفريق أحمد شفيق، في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث غادر القاهرة عقب خسارته أمام الرئيس المعزول محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية 2012.
تورط شفيق في عدد من قضايا الفساد وإهدار المال العام، وهو ما ترتب عليه وضع اسمه على قوائم الترقب والوصول، وبالرغم من أحكام البراءة التي حصل عليها بشأن تلك القضايا إلا أن اسمه لم يرفع من قوائم الترقب، وهو ما دفعه لعدم المغامرة والنزول لمصر.
وبالأمس قضت محكمة جنايات القاهرة برفع اسم رئيس الوزراء الأسبق من قوائم ترقب الوصول بالمطارات والمنافذ المصرية، بعد أن تقدم بتظلم برفع اسمه، حيث إن كل القضايا المتعلقة به صدرت فيها أحكام نهائية بالبراءة والحفظ.
وبهذا الحكم بات من حق شفيق العودة لمصر في أي وقت، وهو ما عبر عنه رئيس هيئة الدفاع المحامي يحيي قدري بقوله إنه يعتزم العودة إلى القاهرة، لكنه لم يحدد موعدًا بعد، ملفتًا أن وضع اسمه على تلك القوائم جاء في “ضوء بلاغات كيدية قُدمت ضده”، فتم تبرئته من تهمة الاستيلاء على أرض مملوكة لجمعية إسكان “ضباط القوات الجوية” والتي عرفت إعلاميًا بقضية “أرض الطيارين”، كما حصل أيضًا على البراءة في قضية أرض البحيرات المرة، وهما القضيتان الوحيدتان المرفوعتان ضده.
توقع المرشح الرئاسي الخاسر أن بسقوط الإخوان سيشار إليه بالبنان لاعتلاء سدة العرش، خاصة بعد ترويجه طيلة الفترة الماضية أنه الأحق بالرئاسة وأن المجلس العسكري والقضاء قد تواطآ مع الإخوان لتنصيب مرسي رئيسًا للبلاد
لم يكن شفيق مجرد مرشح خاسر أو سياسي قديم خارج دائرة الضوء، بل كان أحد أبرز اللاعبين المؤثرين في المشهد السياسي المصري منذ الإطاحة بمرسي، حيث لعب دورًا محوريًا في تجييش الشعب ضد حكم الإخوان من خلال البيانات الصادرة عنه ما بين الحين والآخر، ودعم الكيانات المعارضة للرئيس المنتخب حينها، وفي مقدمتها جبهة الإنقاذ وحركة تمرد، إضافة إلى اجتماعه ببعض رموز الدولة النخبوية في مقر إقامته بالإمارات للعمل على إسقاط الرئيس وجماعته بأي شكل من الأشكال.
توقع المرشح الرئاسي الخاسر أن بسقوط الإخوان سيشار إليه بالبنان لاعتلاء سدة العرش، خاصة بعد ترويجه طيلة الفترة الماضية أنه الأحق بالرئاسة وأن المجلس العسكري والقضاء قد تواطآ مع الإخوان لتنصيب مرسي رئيسًا للبلاد، إلا أن ذلك لم يحدث وهو ما استثار غضبه، قائلاً: “أنا أول واحد دعم ثورة 30 يونيو، وخذلوني وتأثرت جدًا لما مقالوليش أتفضل في 3 يونيو، كان يجب أشارك في هذا المهرجان، وأجهزة المخابرات تعلم أنا عملت إيه طوال فترة حكم الإخوان، كل حاجة واضحة، ويا ريت لما نطلق الحريات تبقى للجميع دون تفرقة”.
ومنذ هذه التصريحات وما تبعها من تسريبات سخر فيها شفيق من عبد الفتاح السيسي، بات المرشح الرئاسي الخاسر على قمة القائمة السوداء للنظام الحالي، مسخرًا آلته الإعلامية لتشويه صورته، عبر فتح بعض الملفات القديمة له، ومحاولة إخراجه من المشهد بصورة كاملة، خاصة في ظل ما يمثله شفيق من امتداد لنظام مبارك ورجاله، فضلاً عن علاقاته الجيدة ببعض قيادات الجيش، ما جعله الخطر الأكبر على مستقبل السيسي ونظامه.
العديد من الخبراء ربطوا بين زيارة الوفد الإماراتي للقاهرة منذ أيام ورفع اسم شفيق من قوائم الترقب، خاصة وأن الإمارات وبعض العواصم الخليجية تدعم المرشح الخاسر سياسيًا، حيث تم طرح اسمه لقيادة المشهد أكثر من مرة، وهو ما أقلق القيادة السياسية في مصر بصورة كبيرة.
الدكتور مصطفى الفقي المفكر السياسي، أشار في تصريحات تلفزيونية له أن منع أحمد شفيق، رئيس وزراء مصر الأسبق، من العودة إلى مصر لم يكن قرارًا قضائيًا فقط، بل رغبة سياسية لمنع أي حالات استقطاب في المجتمع المصري.
أحمد شفيق في أثناء إدلائه بصوته في الانتخابات الرئاسية 2012
إخلاء سبيل نجلي مبارك
بعد سنوات من السجال ما بين الإدانة والبراءة، قضت محكمة النقض، أول أمس الثلاثاء، بعدم قبول طعن النيابة العامة على قرار محكمة الجنايات الصادر في الـ12 من أكتوبر 2015 بإخلاء سبيل نجلي الرئيس المخلوع حسني مبارك، علاء وجمال، في قضية القصور الرئاسية لانقضاء مدة حبسهما على الحكم الصادر ضدهما بالسجن المشدد 3 سنوات شكلاً، وتأييد إخلاء السبيل.
قد يقلل البعض من تأثير حكم إخلاء سبيل نجلي مبارك، على المشهد السياسي بصورة عامة، خاصة وأن كليهما لم تعد لديه أي طموحات سياسية مستقبلية، إلا أن الواقع ينفي هذه الادعاءات كلية وتفصيلا
وكانت محكمة النقض قضت برفض الطعن المقدم من مبارك ونجليه وأيدت حكم محكمة الجنايات الصادر بإدانتهم بالسجن المشدد 3 سنوات وتغريمهم 125 مليونًا و779 ألفًا وإلزامهما برد مبلغ 21 مليونًا و197 ألف جنيه في قضية القصور الرئاسية، فقام علاء وجمال باستشكال لإخلاء سبيلهما لانقضاء فترة العقوبة الصادرة ضدهما، فقررت محكمة جنايات القاهرة إخلاء سبيلهما فطعنت النيابة العامة على قرار إخلاء سبيلهما أمام محكمة النقض، والتي أصدرت حكمها السالف.
قد يقلل البعض من تأثير حكم إخلاء سبيل نجلي مبارك، على المشهد السياسي بصورة عامة، خاصة وأن كليهما لم يعد لديه أي طموحات سياسية مستقبلية، إلا أن الواقع ينفي هذه الادعاءات كلية وتفصيلاً، وهو ما تجسد في إنشاء جمال مبارك بمساعدة أحمد عز لحزب “مستقبل مصر” كنافذة يمكن من خلالها العودة للمشهد السياسي من جديد.
جمال مبارك يملك ثروة هائلة من الشعبية والجماهيرية لدى أبناء الحزب الوطني المنحل، فضلاً عن الملايين في المحليات والقرى والنجوع، ممن ترعرعوا في كنف فساد مبارك ونظامه، لا سيما في ظل الحالة المعيشية الحالية للمصريين مقارنة بما كانت عليه أيام مبارك، ما دفع البعض للمطالبة بعود هذا النظام من جديد مهما كانت سلبياته.
جمال وعلاء مبارك داخل قفص المحكمة
إلغاء إعدام مرسي
في نفس اليوم الذي أيدت فيه محكمة النقض حكم إخلاء سبيل نجلي مبارك، ألغت محكمة النقض حكم الإعدام بحق الرئيس المعزول محمد مرسي وخمسة من قيادات جماعة الإخوان المسلمين بينهم المرشد العام محمد بديع، وكانت محكمة جنايات القاهرة المنعقدة بأكاديمية الشرطة، برئاسة المستشار شعبان الشامي، قد قضت بإعدام مرسي، في القضية المعروفة إعلاميًا بـ “الهروب من سجن وادى النطرون” والمتهم فيها 129 على رأسهم الرئيس المعزول وقيادات الإخوان.
في نفس اليوم الذي أيدت فيه محكمة النقض حكم إخلاء سبيل نجلي مبارك، ألغت محكمة النقض حكم الإعدام بحق الرئيس المعزول محمد مرسي وخمسة من قيادات جماعة الإخوان المسلمين
وتعود وقائع القضية إلى 21 من ديسمبر من العام 2013 عندما أحالت النيابة العامة في مصر الرئيس المعزول وآخرين إلى محكمة الجنايات بتهمة الهروب من سجن وادي النطرون إبان ثورة 25 يناير 2011.
ويحاكم مرسي في 5 قضايا، هي وادي النطرون والتخابر الكبرى وأحداث الاتحادية و”التخابر مع قطر، بجانب اتهامه في قضية إهانة القضاء، وصدر بحقه حكم وحيد بالإعدام تم إلغاؤه أول أمس، لتصبح جملة الأحكام ضد الرئيس المعزول 85 سنة سجنًا.
الرئيس المعزول محمد مرسي مرتديًا بذلة الإعدام الحمراء
رسائل ثلاثة
تزامن هذه الأحكام والربط بينها، قد لا يمثل للبعض قيمة على الإطلاق، إلا أنه يوجه عددًا من الرسائل الهامة، إذا ما ربطنا بينها وبين بعض المواقف التي سبقت هذه الأحكام.
أولها: التصريحات التي أدلى بها نائب رئيس الجمهورية السابق الدكتور محمد البرادعي منذ أيام قليلة، والتي كشف من خلالها النقاب عن بعض كواليس اجتماع 3 يوليو، والنية المبيتة من قبل المجلس العسكري للإطاحة بمرسي وجماعته، فضلاً عن رفضه لفض اعتصام رابعة والنهضة، وتأييده للحل السياسي والحوار بدلاً من العنف والدم.
ثانيها: الجولة الخاطفة لرئيس المجلس العسكري السابق المشير محمد حسين طنطاوي بميدان التحرير عصر الجمعة 11من نوفمبر الماضي، والرسائل الضمنية التي أدلى بها حينها، كان أهمها طمأنة الإخوان المسلمين بعدم إعدام قيادات الجماعة، فضلاً عن محاولة تقديم نفسه للشارع من جديد بعد سنوات من الغياب.
ثالثها: مشاركة الفريق سامي عنان، رئيس أركان حرب القوات المسلحة السابق، في عزاء الفنان الراحل محمود عبد العزيز أمس الأربعاء بمسجد الشرطة بمصر الجديدة، والتي جاءت تفنيدًا لتصريحات طنطاوي التي قال فيها إن عنان التزم بيته نظرُا لكبر سنه، إلا أن الأخير أراد أن يوصل رسالة للجميع أنه لازال بصحته وقادر على المشاركة والحضور من جديد.
وزير الدفاع ورئيس أركان حرب القوات المسلحة السابقين طنطاوي وعنان
الدكتور سعد الدين إبراهيم، رئيس مركز ابن خلدون، أشار إلى أن الربط بين هذه الأحداث مسألة هامة جدًا، خاصة وأنها تسير في السياق المطلوب من شرائح عديدة من المجتمع، مشيرًا أن المصالحة مع الجميع باتت مطلبًا رئيسيًا لا يمكن العدول عنه، فالدولة لن تسير بفصيل واحد مهما بلغت قوته.
الرسائل الثلاثة الذي بعثت بها تلك الأحكام الصادرة خلال الـ48 ساعة المنقضية تصب جميعها في قالب واحد ألا وهو المصالحة وطمأنة الداخل والخارج، وذلك بحسب رأي الخبراء.
الرسالة الأولى: طمأنة الإخوان المسلمين، ومفادها أن هناك توجه نحو إعادة النظر في الأحكام الصادرة بحق قيادات الجماعة، وأن ما أثير بشأن إعدام بعض الرموز لن يترجم على أرض الواقع، خاصة وأنه لم ينفذ حكم واحد بالإعدام ضد قيادي واحد حتى الآن بالرغم من الأحكام الصادرة، ليظل الباب مفتوحًا ولو قليلاً بين الدولة والجماعة.
الرسالة الثانية: صفحة جديدة مع رجال مبارك، ومفادها أن عودة رموز مبارك للمشهد العام، والانخراط في المجتمع من جديد لم تعد قضية مرفوضة كما كان في السابق، حيث أفرج عن كل رجالات مبارك تقريبًا، فتم تبرئة أحمد عز وشفيق وأحمد نظيف وحبيب العادلي، إضافة إلى إخلاء سبيل جمال وعلاء مبارك.
أبرز الرسائل غير المعلنة هي طمـأنة الشارع بتقليل حدة الاحتقان بين الفصائل السياسية، إذ إنها تسبق ذكرى ثورة 25 يناير بأيام قليلة، ما يدفع الراغبين في التظاهر إلى إعادة النظر في مسألة مشاركتهم من عدمها
الرسالة الثالثة: إلى المجتمع الدولي، حيث القضاء على حالة الإقصاء التي كان يعاني منها الشارع المصري خلال السنوات الماضية، ما يقلل من حدة وحجم الانتقادات التي توجه للقاهرة، إضافة إلى العمل على دعم جهود حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، من خلال إعادة النظر في بعض القوانين ومنها قانون التظاهر، والإفراج عن عدد من الشباب غير المتورطين في أعمال عنف، ما يعطي رسالة طمأنة للعالم أجمع وفي مقدمتهم المستثمرين أن الوضع في مصر يسير نحو الاستقرار والتكاتف.
وفي المقابل هناك من يضيف رسالة أخرى تسعى إلى طمأنة الشارع المصري من خلال تقليل حدة الاحتقان بين الفصائل السياسية المختلفة، لا سيما الإخوان والوطني المنحل، ومؤيدي النظام الحالي، وقد تكون هذه الرسالة في وقتها الصحيح، إذ إنها تسبق ذكرى ثورة 25 يناير بأيام قليلة، ما يدفع الراغبين في التظاهر إلى إعادة النظر في مسألة مشاركتهم من عدمها.
مما سبق يتضح أن الشارع المصري على أعتاب تطورات جديدة، وحراكًا سياسيًا مختلفًا، من المبكر الحكم عليه أو رسم ملامحه، أو التنبؤ بما يمكن أن يتمخض عنه، وقد يكون التزامن بين تلك الأحكام من قبيل المصادفة، إلا أن الربط بينها في سياقها الزماني والمكاني، يلمح إلى إعداد شيء ما داخل المطبخ السياسي لم يتم الإفصاح عنه في الوقت الحالي.. فهل آن الأوان لجميع الأطراف أن تعي أن المصالحة هي الحل الوحيد للحفاظ على ما تبقى من الوطن أم أن المتاجرة بالدماء والشعارات هنا وهناك ستظل المتحكم في توجهات الجميع، ويظل الشعب وحده من يدفع الثمن؟