أدخل النفط “الذهب الأسود” الجزائر في منطقة الخطر وجعلها تقترض للمرة الأولى منذ عشر سنوات، بعدما كانت تجلس في منطقة آمنة وتتمتع بفوائض مالية وفيرة، وبدأت تخطو الدولة خطواتها نحو التقشف في محاولة منها لإنقاذ اقتصادها من الانهيار.
سارت الجزائر في طريق الاقتراض من خلال إصدار سندات محلية، بعد حصولها على قرض خارجي لتعويض انخفاض عائدات النفط الناتج عن تدهور أسعاره، بعد أن كانت تنفق بسخاء وتكدس الفوائض المالية خلال الأعوام الماضية.
فقد كشف وزير المالية الجزائري حاجي بابا عمي أن الجزائر جمعت 5.2 مليار دولار نتيجة إصدار سندات محلية لتمويل الإنفاق العام، وقال بابا عمي لوكالة الأنباء الجزائرية: “لقد تمكنا من جمع 568 مليار دينار جزائري (5.2 مليار دولار)، وهذا مبلغ هائل وأنا جدّ راض بنتيجة العملية”.
تقول الحكومة إن إصدار السندات، وهو الأول منذ سنوات، يهدف إلى استثمار اقتصادي كبير في كل القطاعات، وبدأ الإصدار في أبريل الماضي باستحقاق بين ثلاث وخمس سنوات ومعدل فائدة يتراوح بين 5.0 و5.75%، وخفضت الحكومة الإنفاق في 2015 و2016، وهي مقبلة على إجراء تخفيضات جديدة في العام القادم.
ووافق بنك التنمية الإفريقي هذا الشهر على قرض بقيمة 900 مليون يورو (مليار دولار) إلى الجزائر لتعزيز العائدات المحلية ودعم مناخ الاستثمار بالإضافة إلى تعزيز كفاءة قطاع الطاقة وتشجيع الطاقة المتجددة، وهو أول قرض أجنبي تحصل عليه الجزائر منذ أكثر من عشر سنوات.
وأحجم بابا عمي عن الكشف عما إذا كانت هذه الإجراءات كافية لمواجهة الوضع الاقتصادي للجزائر، وقال إن الحكومة تدير الموارد المالية المتاحة لكنه لم يستبعد الحصول على قرض أجنبي جديد.
ويأتي إصدار هذه السندات كجزء من مصادر تمويل جديدة تستخدمها الجزائر، بالإضافة إلى ضرائب أعلى وضرائب جديدة على عدد من المنتجات المدعمة اعتبارًا من العام المقبل.
وبموجب الخطة سترتفع أسعار البنزين والديزل المدعم للعام الثاني على التوالي لكبح الاستهلاك المحلي المتزايد وخفض فاتورة الاستيراد.
الجزائر تتقشف
وكان بابا عمي قد عرض أمام البرلمان مشروع الميزانية الذي يتضمن زيادة في الضرائب وترشيد النفقات لمواجهة الحالة الاقتصادية بالبلاد، وتضمن مشروع قانون المالية لسنة 2017 زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 17% إلى 19%، وكذلك رفع الرسوم على العقارات والوقود والتبغ واستحداث رسم على الأجهزة الكهربائية التي تستهلك الكثير من الطاقة، كما أعلن عنه وزير المالية.
برر نواب الغالبية البرلمانية من حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي إجراءات التقشف، بينما اعتبر نواب المعارضة أن الحكومة تفضل منح الامتيازات لأرباب العمل على حساب الشعب.
واعتبر النائب صالح الدين دخيلي عن التجمع الوطني الديمقراطي أنه لا خيار أمام الحكومة إلا برفع الضرائب أو اللجوء إلى الاستدانة لمواجهة الأزمة المالية الناجمة عن انهيار أسعار النفط، من جانبه، انتقد النائب المستقل حبيب زقاد في تصريحات لصحيفة “العرب” اللندنية، قانون المالية وفشل الحكومة في مواجهة الأزمة لكونها “لم تجد حلاً سوى تجويع الفقير بفرض المزيد من الضرائب ما ينعكس مباشرة على الأسعار”.
وتحاشت الحكـومة فـرض ضرائب إضـافية أو رفع أسعار الوقود خلال السنوات التي أعقبت حركة الاحتجاجات في العالم العربي، لكنها لجأت إلى ذلك في ميزانية 2016 و2017، وأنجزت الميزانية مع احتساب سعر 50 دولارًا لبرميل النفط على اعتبار أن تصدير المحروقات يوفر 95% من عائدات البلاد، ويمثل النفط والغاز 94% من صادرات البلد العضو في منظمة أوبك، و60% من ميزانية الدولة.
وكانت الجزائر تعتمد سعرًا مرجعيًا للبرميل بنحو 37 دولارًا حتى عندما فاق سعره مئة دولار لتقوم بتحويل الفارق إلى صندوق ضبط الإيرادات، الذي بلغ حجمه 51 مليار دولار العام الماضي، والذي يمول العجز في الميزانية.
ويتضمن مشروع الميزانية إيرادات مقدرة بحوالي 51 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة تناهز 13% مقارنة بالسنة المالية الحاليّة التي تنتهي في ديسمبر، وبالنسبة إلى النفقات فقد تم تحديدها بنحو 62 مليار دولار، منها 14 مليار دولار لدعم أسعار المواد الاستهلاكية والسكن والصحة.
الصدمة النفطية
وتعقيبًا على ما تم ذكره أعلاه، دعا صندوق النقد الدولي، في وقت سابق، الجزائر إلى مواصلة ترشيد الإنفاق العام للدولة، والبدء في إصلاحات كبرى لمواجهة ما وصفها بـ”الصدمة النفطية” والمتمثلة في تهاوي أسعار النفط منذ 2014.
وقال رئيس بعثة الصندوق جان فرنسوا دوفان: “لمواجهة الصدمة النفطية الكبيرة، يجب الرد على صعيدين: الأول ترشيد النفقات العامة، حيث أضعفت الصدمة النفطية قدرة الدولة على مواصلة التمويل بنفس المستوى الذي كان عليه في السابق”، ويتمثل الإجراء الثاني، وفقًا لرئيس بعثة الصندوق، في القيام بإجراء إصلاحات كبرى ضرورية ليكون النمو مدفوعًا من طرف القطاع الخاص وأن يكون أقل تبعية لعائدات النفط، وتوقع صندوق النقد، في تقريره السنوي مطلع أكتوبر الماضي، أن تحقق الجزائر نسبة نمو 3.6% في العام الحالي.
ومن جانبه أعلن عبد المالك سلال رئيس الوزراء الجزائري، أن بلاده تراهن على تحقيق نسبة نمو 3.9% العام المقبل، رغم تراجع أسعار النفط، وقال سلال، خلال اجتماع الحكومة مع محافظي الولايات في العاصمة الجزائرية مؤخرًا: “رغم تقلص عائدات النفط منذ 3 سنوات، تواصل الجزائر المقاومة وبعث جهودها للمحافظة على استقرار مؤشراتها الاقتصادية، ما سمح لنا بتحقيق نسبة نمو قدرها 3.9%، ورغم أن العام 2017 سيكون صعبًا، إلا أننا نراهن على نفس نسبة النمو”.
ودعا رئيس الوزراء الجزائري، محافظي الولايات إلى تغليب الحوار لحل المشكلات والأزمات المحلية، بخاصة مع تزايد موجة الاحتجاجات العمالية، قائلاً: “أطلب منكم العمل دومًا في إطار القانون مع تغليب الحوار في كل الظروف”.
وتتخوف الحكومة الجزائرية من وقوع أزمات على خلفية ارتفاع معدلات البطالة وأزمة السكن ونقص بعض السلع التموينية.
من جانبه، استنكر نورالدين بدوي وزير الداخلية الجزائري، ما يتردد عن أن بلاده على حافة الإفلاس، على خلفية انهيار أسعار النفط وتراجع الموارد”، بقوله: “البلاد ليست في حالة إفلاس كما يحلو للبعض التغني بذلك، نحن نعيش في نعمة الأمن والاستقرار التي تتمتع بها الجزائر، لأن الأمن والاستقرار ركيزة أساسية، ساهمت وتساهم في بعث التنمية والاستثمار”.
وأضاف بدوي أن الاجتماع يأتي في ظروف اقتصادية صعبة، ووضع أمني دقيق، يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، سواء في دول الجوار أو في العالم، وهو مشهد يستدعي الحيطة والحذر أكثر من أي وقت مضى.
النفط يخنق الصحف
طالت الأزمة النفطية التي تمر بها الجزائر قطاع الصحافة وأثرت تداعياتها بشكل واضح على الإعلانات التي تمثل مصدر تمويل مهم بالنسبة للصحافة المكتوبة التي تعاني أيضًا من تضييق سياسي خاصة على الصحف المستقلة وغير الموالية للنظام القائم، ونتيجة لذلك حذرت منظمات مستقلة من أن الأزمة النفطية في الجزائر باتت تهدد وجود العشرات من الصحف، بسبب تراجع سوق الإعلانات.
وأكدت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان (مستقلة) أن “أغلب المؤسسات الإعلامية أصبحت تعيش في الآونة الأخيرة وضعية مالية صعبة، جراء الأزمة المالية التي تعيشها الجزائر بسبب تراجع عائدات النفط”، وتابعت في بيان لها “هذا الوضع حتّم على ملاك ومدراء المؤسسات الإعلامية إجراءات للتكيف من خلال تسريح الصحافيين والصحفيات، أو مراجعة أجورهم في أحسن الأحوال”، وتابعت “بعض الصحف لم تستطع الصمود، وقررت التوقف عن الصدور بشكل نهائي، وتستعد العشرات من الصحف لغلق مقراتها في الأسابيع القادمة” دون تقديم أرقام عن ذلك.
وسبق أن أكد وزير الاتصال الجزائري حميد قرين، أن سوق الإعلانات التي تأتي من مؤسسات الدولة تراجعت بنسبة 65% خلال سنتي 2015 و2016، بسبب تراجع مداخيل النفط.
وتبلغ سوق الإعلانات في الجزائر بين الدولة والخاص قرابة 200 مليون دولار سنويًا، وفق أرقام لوزارة الإعلام نشرت سنة 2015.
وترى رابطة حقوق الإنسان أن تراجع الإعلانات “هو استهداف من السلطة الحاكمة للصحف المستقلة للتحكم في الساحة، والضغط على الخط الافتتاحي للصحف وابتزاز الناشرين، مقابل تغيير الخط الافتتاحي لهم”.
ودعم رياض بوخدشة، المنسق العام للمبادرة من أجل كرامة الصحافي (تنظيم نقابي مستقل) هذه التحذيرات التي أطلقتها رابطة حقوق الإنسان، حيث قال في تصريحات صحافية: “في عام 2016 فقط، أغلقت 6 صحف أبوابها بسبب الأزمة المالية، وتم تسريح 150 عاملاً في قطاع الإعلام بين صحافيين وتقنيين”.
ويوجد في الجزائر أكثر من 100 صحيفة يومية، أغلبها خاصة، إلى جانب 3000 صحافي حسب أرقام لوزارة الإعلام.
وأضاف بوخدشة “نصف هذه الصحف رغم أنها يومية فهي تصدر بشكل متقطع أي بين مرة ومرتين في الأسبوع لأن طباعتها مرتبطة بوجود إعلانات ولكم أن تتصوروا وضعية من يشتغلون بها من صحافيين وعمال آخرين”.
وجدير بالذكر أن الجزائر حلت في المرتبة الـ119 عالميًا في مؤشر حرية التعبير لسنة 2015 (من بين 180 بلدًا) الذي نشرته منظمة “مراسلون بلا حدود“، مؤكدة أن هناك مناخ صعب لممارسة مهنة الصحافة في الجزائر بفعل التهديدات.
انهيار الجزائر
ونحو هذا الصدد، حذر مدير ديوان الرئاسة الجزائرية والأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي أحمد أويحيى من انهيار الجزائر إذا استمرت الحكومة في سياسة الإنفاق الاجتماعي المفرط، ملمحًا في الوقت ذاته إلى أن الدولة عاجزة عن سداد رواتب موظفيها.
وبحسب ما نقلت عنه صحف جزائرية خلال إشرافه على لقاء أعضاء حزبه بمدينة تبسة، حذّر أويحيى من أن تصبح الجزائر رهينة لصندوق النقد الدولي، مشيرًا إلى الأوضاع المالية الصعبة التي تعاني منها البلاد بعد الانخفاض الحاد في الإيرادات النفطية من نحو 67 مليار دولار إلى 27 مليار دولار.
وقال أويحيى إن الجزائريين أمام خيارين فإما القبول بضرائب ورسوم وصفها بـ”البسيطة” أو ارتهان سيادة الجزائر لدى صندوق النقد الدولي واقتراض 5 مليارات دولار للعام الواحد، مضيفًا “قد نقع في كارثة حقيقية اليوم بعجز الدولة عن دفع أجور الموظفين”.
ويطلق المسؤولون الجزائريون تصريحات متناقضة فيما يتعلق بالوضع المالي للبلاد، إلا أن تأثير تراجع العائدات النفطية وتداعياته على موازنة الدولة وعلى مشاريعها الكبرى لم يعد خافيًا على أحد.
وسبق للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أن هيأ الجزائريين لمرحلة صعبة، إلا أنه أبدى ثقته في أن الأزمة الحالية عابرة، مراهنًا على تفهم الشعب الجزائري وتفويته الفرصة على أي محاولات تهدف للمس باستقرار الجزائر والسلم الأهلي فيها.
واللافت في تصريحات مدير ديوان الرئاسة الجزائرية أنه ربط انهيار الجزائر المحتمل بالإنفاق الاجتماعي، وهو من الخطوط الحمراء التي تحاشت السلطة عبورها منذ منتصف 2014 حين بدأت موجة انهيار أسعار النفط من نحو 115 دولارًا للبرميل إلى أدنى من 50 دولارًا للبرميل.
ومن جانبه قال محمد لوكال محافظ بنك الجزائر المركزي إن احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي انخفضت بنحو 7.1 مليار دولار إلى 121.9 مليار في الربع الثالث من 2016 بسبب هبوط أسعار النفط الذي ألحق ضررًا بالمالية العامة.
وتراجعت عائدات النفط والغاز التي تشكل 94% من إجمالي الصادرات و60% من ميزانية الدولة إلى 18.8 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2016 بانخفاض قدره 26.3% عن الفترة نفسها من 2015.
وتخطط الجزائر (العضو بمنظمة أوبك) لتقليص الإنفاق بنسبة 14% في 2017 بعد خفض قدره 9% هذا العام في مسعى للحد من تأثير هبوط سعر النفط.
وشكلت الصادرات النفطية نحو 93.7% من عائدات الجزائر الخارجية حتى أكتوبر وقد بلغت قيمة الصادرات 18.7 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2016 مقابل 25.4 مليار دولار خلال الفترة نفسها من 2015 بتراجع قدره 26.3%، بينما بلغت قيمة الواردات الإجمالية 35.08 مليار دولار خلال الفترة المرجعية بعجز تجاري بلغ 15 مليار دولار.
وحذر خبراء اقتصاد أيضًا من أن استمرار استنزاف الجزائر لاحتياطاتها النقدية يهدد بانهيار الاقتصاد الجزائري.
ويأخذ محللون على النظام الجزائري استثماره لمخصصات من فوائض الإيرادات النفطية زمن طفرة الأسعار، في شراء السلم الاجتماعي بدلاً من استثمار تلك الفوائض في تنويع مصادر الدخل من خارج القطاع النفطي.
وتضررت المالية العامة في الجزائر بشدّة تحت وطأة انهيار أسعار النفط، مما أربك مخططات الحكومة التنموية ودفعها لتجميد العديد من المشاريع الكبرى.
وعلق الكاتب الجزائري أزراج عمر على هذه النقطة بمقال له في صحيفة “العرب” اللندنية تحت عنوان “لماذا تتدهور التنمية في الجزائر“، وقال: “قرار تجميد ما يسمى بالمشاريع الكبرى، الذي اتخذه النظام الجزائري في الأشهر الماضية بدعوى تدني أسعار النفط والغاز في السوق العالمية، يعني إلصاق التهمة بالذهب الأسود بدلاً من النظام الجزائري الذي لا يملك ثقافة تسيير الدولة العصرية”.
ويرى محللون أن غموض المشهد السياسي في الجزائر في ظل مرض الرئيس بوتفليقة والصراع على خلافته، يزيد الوضع تعقيدًا، وأشاروا إلى أن الحكومة ربما لا تملك حلولاً لتجاوز الأزمة أو مواجهة ارتدادات الصدمة النفطية خاصة في هذا الظرف الذي يتسم بالغموض سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.