تيار الواقعية السحرية أو ما يُعرف بـ”EL Boom”، هو تقنية روائية، غلبت على كثير من الأعمال الروائية في أدب أمريكا اللاتينية، ثم وجدت طريقها إلى بعض الأعمال الروائية في آداب اللغات الأخرى.
وتعتمد هذه التقنية، التي تجمع بين دلالتين متناقضتين تمامًا: (الواقع) و(السحر)، على أساس مزج عناصر متقابلة في سياق العمل الأدبي، حيث تختلط الأوهام والمحاولات والتصورات الغريبة، بسياق السرد الذي يظل محتفظًا بنبرة حيادية موضوعية كتلك التي تميز التقرير الواقعي.
وتغلب على هذه التقنية، نصيب كبير من التلوين الأسطوري كقدرة الشخصية الواقعية مثلاً على السباحة في الفضاء أو التحليق في الهواء أو تحريك الأجسام الساكنة بمجرد التفكير فيها أو بقوى خفية بغرض احتواء الأحداث السياسية الواقعية المتلاحقة وتصويرها بشكل يذهل القارئ ويربك حواسه، فلا يستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خيالي.
ألف ليلة وليلة تحوي قصصًا توظف الواقعية السحرية
وتعتبر حكايات “ألف ليلة وليلة” من أوائل الأعمال الأدبية التي تم فيها توظيف الواقعية السحرية بصورة فطرية وعفوية، مثل ما قرأناه عن قصص الجان والبساط السحري ومصباح علاء الدين.
وفي هذا المقال، نستعرض معك عزيزي القارئ، بعض الروايات التي غلب عليها تيار الواقعية السحرية والتلوين الأسطوري المذهل في الأدب اللاتيني والصيني والعربي.
بيدرو بارّامو: “كومالا” تضج بالموتى!
غلاف النسخة الإنجليزية من رواية “بيدرو بارّامو” لـ خوان رولفو
ظلّ القراء المهتمون والمتتبعون للأدب اللاتيني، يعتقدون لفترة طويلة جدًا، أن ماركيز هو أبو الواقعية السحرية، بسبب روايته العجائبية “مئة عام من العزلة”، لكن الحقيقة غير ذلك، فالأب الشرعي لما يُعرف بتيار الواقعية السحرية هو الأديب المكسيكي “خوان رولفو” الذي استحق هذا اللقب عن جدارة بسبب روايته الوحيدة الأعجوبة “بيدرو بارّامو”، على الرغم من أن هذه الرواية لم تُحقق أي رواج وقت صدروها في مارس عام 1955، واستغرق بيع ألف نسخة من ألفي نسخة، هي عدد نسخ الطبعة الأولى، أربع سنوات كاملة، ونفدت الألف الأخرى عن طريق الإهداءات.
لتعود الرواية بعد سنوات، للبزوغ مرة أخرى، وتُترجم إلى الألمانية والهولندية والفرنسية والإنجليزية، بعدما كتب عنها كلا من “كارلوس بلانكو أجيناجا” و”كارلوس فوينتس” و”أكتافيو باث”.
في هذه الرواية، يذهب خوان بريثيادو إلى كومالا للوفاء بعهد سبق وأن قطعه لأمه وهي تحتضر، “جئت إلى كومالا لأنهم قالوا لي إن والدي يعيش هنا، إنه شخص يدعى بيدرو بارَّامو، أمي قالت لي ذلك، وقد وعدتها بأن أحضر لمقابلته عندما تموت، لقد ضغطت على يديها مؤكدًا أني سأفعل، فقد كانت تحتضر وكنت مستعدًا لتقديم كل الوعود إليها، أوصتني قائلة: “لا تتخلف عن الذهاب لزيارته، اسمه كذا وكذا”، لم أستطع عندئذ عمل شيء آخر سوى القول لها إني سأفعل ذلك ولكثرة ما رددت هذا الوعد فقد واصلت ترديده حتى بعد الجهد الذي تكلفته لأفلت يديّ من بين يديها الميتتين.
قبل ذلك كانت قد قالت لي: لا تستعطه شيئًا، طالبه بحقنا، بما كان مجبرًا على تقديمه إليّ ولم يعطني إياه قط، خذ منه غاليًا ثمن النسيان الذي خلّفنا فيه يا بني”.
هذه الرواية، شبكة معقدة مربكة، لا تكشف عن نفسها للقارئ من المرة الأولى وتُخبره أن كل شخصيات الرواية، تعيش في قبورها/ بيوتها محكومة بقوانين أخرى لا يعرفها الباقون على قيد الحياة، ليجد القارئ نفسه مُجبرًا على استراق السمع إلى هسيس الموتى، إلى قصص حبهم وأحقداهم، أحلامهم وآمالهم، لنكتشف أن الناس عندما يموتون، يصبح لديهم الكثير ليقولوه، لتتساقط في هذه الرواية، الحدود الفاصلة تمامًا بين الأزمنة والأمكنة، بين الأموات والأحياء.
الحلم والأوباش: التداخل بين الحلم والحقيقة!
غلاف رواية “الحلم والأوباش” للأديب الصيني “مو يان”
عرّفت لجنة نوبل، الأديب الصيني “مو يَان” الذي حصل على جائزة نوبل عام 2012، بأنه: “الأديب الذي يدمج الهلوسة الواقعية بالحكايات الشعبية، والتاريخ المعاصر”، وبقراءة أعماله القليلة التي تُرجمت للعربية، نكتشف أن منبع إلهام مو يَان لم يكن أحد نماذج الواقعية السحرية، غربية الطابع، فالكتابة الروائية الصينية لم تحتل مكانتها المعتبرة في الأدب العالمي إلا بما اعتمدت عليه من مصادر أسطورية قديمة وحكايات غرائبية وتراث كونفوشيوسي وفولكلوريات شعبية موجودة في التراث الصيني القديم.
وفي روايته “الحلم والأوباش” – ترجمة محسن فرجاني، دار العين، 2013 – ينقلنا مو يَان إلى عمق الريف الصيني، حيث قرية نائية يعيش فيها الفتى ضئيل البنية، ضخم الرأس، شوكن، والذي يملك قدرة مدهشة على الحلم بالكثير من الأمور الفظيعة التي تتحقّق لاحقًا بالتطابق مع حلمه، وكأن الحلم هو ما يقود الواقع، فينذر أحيانًا، ويبشّر في أحايين أخرى، ويُجسّد له ما سيحدث.
وعلى أساس الحلم، يبني شوكن عالمه، فبعد كل حلم يبدأ في التخطيط لما سيقوم به، تفجعه الأحلام التي تتعلق بذويه فيحاول أحيانًا أن يتحداها على أمل ألا تتحقق، ويتمنّى كثيرًا أن تكذب أحلامه ويفقد قدرته الخارقة.
تتقاطع حياة شوكن مع شويا – ابنة المعلم مورويا – التي نشأت معه في نفس المنزل، بعد أن أخذتها أمه لتربيها بعد وفاة والديها، والتي تشارك شوكن تنبؤاته وكوابيسه، وتصير مسؤولة في زمن المجاعة عن إطعام العائلة، عن طريق سرقة الحبوب وابتلاعها كعصفور، ومن ثم اجترارها وإخراجها من معدتها بواسطة غصن صغير، ليتم غسلها وطحنها وخبزها.
لتنتهي مسيرة الرواية بالحلم الأكثر فجيعة، والذي يفشل شوكن في تحويل مساره والوقوف دون تحققه، لتتجلى عبقرية مو يان وغلبة تيار الواقعية السحرية، في التداخل بين الحلم والواقع أو بين الأموات والأحياء.
سيد عجوز بأجنحة هائلة: ملاك ضلّ الطريق أم ملعون آخر!
صورة مُتخيلة للسيد العجوز بأجنحة هائلة من النسخة الإسبانية للمجموعة القصصية
يلاحظ قراء ماركيز المخلصين أنه يتعامل مع شخصيات قصصه كما لو أنهم أناس حقيقيون من لحم ودم، يستحضرهم وقتما يشاء من قصص قديمة مروا فيها مرور الكرام كضيوف شرف، أو يخلقهم في قصة ثم يستدعيهم لاحقًا بعد أعوام طويلة في رواية.
ففي قصة “يوم بعد السبت” من مجموعته القصصية “جنازة الأم الكبيرة”، خلق ماركيز مسقط رأس عزلته الشهيرة بلدة “ماكوندو”، وبث الروح في خوسيه أركاديو بوينديا والكولونيل أوريليانو بوينديا والجدة أورسولا، والكاهن الـمُعمِّر أنطونيو إيسابيل، الذين صاروا لاحقًا أبطال روايته الملحمية “مئة عام من العزلة”.
الأمر الذي نراه وقد تكرر، في القصة الأولى من مجموعته القصصية “القصة العجيبة والحزينة لإيرنديرا الساذجة، وجدتها القاسية La increíble y triste historia de la cándida Eréndira y de su abuela desalmada”، والتي نُشرت عام 1972، وكأن ظهور الشخصيات على مدار كتابات ماركيز أمر طبيعي وعادي، يجب أن يعتاد عليه القارئ.
غابريل غارسيا ماركيز
في هذه القصة المعروفة باسم “سيد عجوز بأجنحة هائلة”، يحكي ماركيز عن اليوم الذي استيقظ فيه بيلايو وزوجته إليسيندا، ليجدا في فناء دارهما عجوزًا مجنّحًا، فظنّا أنه ملاك جاء من أجل طفلهما المريض، لكن الأمطار العاصفة طرحته أرضًا.
ليصبح الملاك المحبوس في حظيرة الدجاج الشبكية، مزارًا للمتفرجين، يدفعون النقود من أجل رؤيته واختبار قدراته ونتف ريشه، إلى أن تظهر المرأة العنكبوت التي لُعنت بالمسخ بسبب عصيانها لأبويها، فتسرق منه الأضواء.
أثنت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي على قصة العجوز المجنح – الذي لم يُخبرنا ماركيز عن حقيقته وإن كان حقًا ملاكًا ضلّ الطريق أم مجرد ملعون آخر- في الجزء الأول من سيرتها الذاتية والمعنونة باسم “باولا”، وقالت إنها أفضل القصص التي كتبها ماركيز، وهي بالفعل واحدة من أفضل القصص القصيرة على الإطلاق، حيث أسلوب الكتابة المبهر القائم على تداخل الواقع العجائبي مع الخيال دون شُبهة فانتازيا أو لا معقول.
“مع بدايات شهر كانون الأول، بدأ ينبت على جناحيه بعض الرياش الكبيرة والقاسية، رياش طائر ضخم عجوز، بدت أقرب إلى عارض جديد من أعراض الشيخوخة، أما هو فكان يعرف دون شك سبب تلك التغيرات، لأنه كان يحرص تمامًا على ألا يلحظها أحد، وألا يسمع أحد أغاني البحارة التي يُغنيها أحيانًا تحت النجوم”.
بغلة العرش: الواقع يلامس تخوم الأسطورة!
غلاف رواية بغلة العرش لـ “خيري شلبي”
يُعد الروائي المصري “خيري شلبي” واحدًا، ممن انتهجوا تيار الواقعية السحرية في أعمالهم، بعدما ضفّر التراث الشعبي والأساطير بالواقع، ففى أعماله الأدبية تتشخص المادة وتتحول إلى كائنات حية، تعيش وتخضع لتغيرات وتؤثر وتتأثر، فتتحدث الطيور والأشجار والحيوانات والحشرات وكل ما يدب على الأرض، حتى يصل الواقع إلى مستوى الأسطورة، وتنزل الأسطورة إلى مستوى الواقع، ويتماهى القارئ مع ما يقرأ ويصدقه.
نسج شلبي روايته “بغلة العرش”، والتي يصل فيها الواقع إلى تخوم الأسطورة، وتصل الأسطورة إلى التحقق الواقعى الصرف، من أسطورة شعبية كانت تحكيها له أمه كلما سألها لماذا هم فقراء برغم أنهم من أصل عريق، وآخرون أثرياء مع أنهم من أصل وضيع، حيث افتتن بالقصة أو الأسطورة وهو طفل، وظلت هذه الفتنة تلاحقه وهو شاب، حتى تخلّص منها في رواية، وردّ كل شيء في الأسطورة للواقع، دون أن يُفقد الرواية سحرها الحقيقي.
حيث تدور أحداث الرواية فى بلدة “بني سالم” فى منتصف السبعينيات، حيث ينتظر أهل البلدة مجيء بغلة العرش وهي محملة بالذهب والمال الكثير في كل ليلة قدر، لتختار الموعود منهم وتثريه ثراءً مفاجئًا، لكن البغلة تأتي ومعها أيضًا رأس لقتيل يئن، وعلى من يقبل المال أن يقبل دفن رأس القتيل في بيته.