ترجمة وتحرير: محمد سماحة
يظن كثيرون أن مواقع التواصل الاجتماعي هي النعمة المسبغة والعامل الرئيس لنماء العديد من الحركات السياسية والاجتماعية خلال العقد المنصرم وهو ما يمكننا فهمه بسهولة، وتضخم مؤسسات فيسبوك وتويتر وغيرها من نماذج التكنولوچيا منذ منتصف الألفية الجديدة قد صحبه العديد من الانتفاضات الشعبية والقلاقل في أنحاء متفرقة من العالم في نفس المدة.
فبين الحشد للثورة وتنظيم صفوفها بمصر وإيران، وتعقب مسارات جنود الجيش الروسي المحتل بأوكرانيا، أو إمداد المحتجين بمعلومات ميدانية لحظة بلحظة كما الحال في السودان، فمن المفترض بهذه المقتضيات أن مواقع التواصل الاجتماعي قد منحت مستخدميها ميزات أهمها أنها كفلت لهم مساحة من اللامحدودية في آفاق الفكر ونواتجه المتمثلة في الفعل.
وهذه فرضيةٌ في محلها نظرًا للاستخدامات العديدة لمواقع التواصل وتنوع الخدمات التي تقدمها وتتيحها عبر الإنترنت ويظل الأكثر وضوحًا بين تلك الاستخدامات أن مواقع التواصل بإمكانها تقليل كلفة الاتصال بين عدد كبير جدًا من الناس إلى جانب سرعة وسهولة هذا الاتصال، فمثلًا في حالة المحتجين أمكن لمواقع التواصل الحشد الفعّال للبشر بالإجابة عن الأسئلة الجوهرية “من، ماذا، أين، لم” مما ساهم بتوجيه المظاهرات مثلما حدث في أوكرانيا إبان الثورة اليوروميدانية عام 2014.
منصات أخرى كــ”يوتيوب” في وسعها نشر المعلومات والتوجيهات الخاصة بالتظاهر المؤثر لأكبر عدد من الناس مما ساعد الحركات على بناء سعات تنظيمية، فمتى منع التجمهر خلقت مواقع التواصل كفيس بوك أو “Reddit” ميادين رقمية ومساحات تعبيرية صعب على الأنظمة إغلاقها أو كتم أصواتها.
يشير المتحمسون للإنترنت أن الميادين الرقمية أيضًا تفتح الباب للحوارات البنّاءة وسط الصراعات والفتن بطرحها لمختلف الخيارات السياسية المتاحة للخروج من الأزمة على العامة والصفوة على السواء بالرغم من التعتيم الحكومي.
بالطبع أيضًا، يبيح الإنترنت للنشطاء أن يسردوا آرائهم ومعتقداتهم الشخصية وأن ينشروا أفكارهم وهو أمرٌ بالغ الأهمية أينما كانت وسائل الإعلام العامة تقع تحت رقابة الحكومة وسيطرتها.
إلا أنه ومع هذا التفاؤل الشديد، فإن ما يشار إليه أحيانًا بـ”تكنولوچيا التحرير” لا يزيد من فعالية الحركات الديمقراطية، مما لا يدع مجالًا للشك أننا شهدنا فصولًا جديدة ومتعاقبة من الحشد الجماهيري منذ صعود نجم الاتصالات الرقمية وتطور وسائلها، غير أنه يجب أن نضع في حسباننا أن ظهور ونماء جماعات المقاومة السلمية حول العالم يرجع إلى عهد ما قبل ذلك، تحديدًا فيما يعقب الربع قرن الأول بالقرن العشرين على يد غاندي الذي روّج للنظرية وأشاعها.
وفي الواقع، حاليًا باتت حركات المقاومة السلمية أقل نجاحًا مما كانت عليه في الماضي قبل ظهور الإنترنت، وبالضبط فإن 70% من حركات المقاومة السلمية قد أتمت تحقيق أهدافها في تسعينيات القرن الماضي بينما فقط 30% منها ربما نجح منذ 2010 فماذا حدث؟
وفقًا لتوثيق عالمة السياسة “أنيتا جودز” فإن لهذه النتيجة العديد من الأسباب التي أدت إليها منها أولًا أن الحكومات أكثر مقدرة على التلاعب بمواقع التواصل عن النشطاء وبالرغم من الوعود القاضية بإخفاء الهوية أونلاين فإن الرقابة الحكومية والتجارية قد جعلت منها شيئًا من قصص الماضي، فعلى سبيل المثال تمكنت حكومة موسكو من التجسس على النشطاء وتتبعهم لاعتراض أي احتجاج صغير وسحقه وهذا الفعل شائعٌ أيضًا في الديمقراطيات!
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يعد استراق وكالة الأمن العام السمع بحق المواطنين بموجب برنامج يمنحها حق التجسس عند الاشتباه دون الحاجة لمذكرة قانونية، والتعاون المثمر بين شركة “ياهو” والحكومة الذي يقضى بتسليم الأولى كافة بيانات وسجلات مستخدميها للثانية هو فقط البداية.
في ذات السياق، تشير تقارير حديثة أن رجال الشرطة المحلية يراقبون مواقع التواصل الاجتماعي باستمرار لجمع البيانات الخاصة بمناطق خدمتهم بينما في الماضي كان على الحكومات أن تبذل مجهودات كبيرة وتوفر موارد مخصوصة للكشف عن المنشقّين، أما الآن يحفز المناخ الرقمي الواسع الناس ويشجعهم على التصريح بـآرائهم السياسية وقيمهم الاجتماعية ومعتقداتهم الدينية والإفصاح عن هوياتهم وهي بيانات تسهل من عملية ملاحقة أجهزة الدولة لهم متى رأت في ذلك ضرورة.
بالتأكيد، توجد سبل عديدة تمكن الناس من حماية خصوصيتهم لكن القليل منها فقط في قوته أن يغدو صامدًا إثر دخوله في نزاع موجه مع الحكومة.
ثانيًا، حدّ التوجه لمواقع التواصل من نشاطات النشطاء على أرض الواقع ليظهر إلينا نوعٌ جديدٌ من “نشطاء الماوس” الذين لا ينفكون أن يصرفوا اهتمامهم عن أي حادثة بعد وقتٍ قصير ويفشلون أيضًا بناءً على ذلك من البقاء في نزاع طويل المدى.
إن بناء الثقة في الجماعات والتنظيمات المهمشة اجتماعيًا أو المقموعة يحتاج إلى الوقت والجهد والاتصال الثابت الروتيني وجهًا لوجه لفترات طويلة.
عندما تتحرك التنظيمات وهي لم تحز هذا القدر من الثقة المطلوبة والوحدة الداخلية المرجوة فإنها عادةً ما تخضع للضغوط وترضخ لممارسات القوة.
إن الإنخراط في الحراك الرقمي يعطى إيحاءً للمرء بقوة تأثيره وصناعته للفرق ولكن وفقًا لـ”إفجينى موروزوف” فإن ذلك وحده لا يكفي، فصناعة الفرق يلزمها التزام أكبر وبذل أكثر وتضحيات أعظم من مجرد الجلوس أمام جهازٍ وشاشة.
ثالثًا، مواقع التواصل سلاح ذو حدين وعليه فإنه بمقدورها فتّ التجمعات وتسريح التجمهر وذلك بإتاحتها للجان الإلكترونية بتهديد النشطاء أو توجيه رسائل عنيفة لهم وللحظةٍ في أثناء ثورة ليبيا قام نظام القذافي بتوظيف شبكات المحمول لصالحه وذلك ببعث رسائل غرضها طمأنة الناس ودعوتهم لصرف النظر عن الاحتجاج والعودة لأشغالهم وممارسات حياتهم الطبيعية، هذا كان إنذارًا طفيفًا أن الحكومة ترقب تحركات شعبها وأن ضعف استجابة الناس لمثل هذا التهديد سيكون له عواقب وخيمة وهو ما قد كان فعلًا.
وقد لاحظ عالما السياسة “فلوريان هولنباخ” و”جان بيريسكالا” ارتباط الهواتف المحمولة في إفريقيا تحديدًا بتنامي العنف وزيادة معدلاته، وعلى العكس، لو استخدم النشطاء مواقع التواصل الاجتماعي لتوثيق العنف الحاصل بحقهم ونشر حيثياته لتردد العديد من الناس في المشاركة في الفعالية الكبرى التي تلحقه بعد ذلك مخافة أن تمتهن كرامتهم وأن يساء معاملتهم بنفس الشكل، ولهذا فإن هذه التقارير لها نتائج غير مقصودة فبدلًا من استنهاض الغاضبين وشحنهم بإمكانها بتأثير عكسي أن تدفع كثيرٌ من أنصار السلامة أن يتوخوا الحذر وأن يراجعوا حساباتهم ومشاركتهم ما يترك فقط المقدامين والمغامرين المنتمين لأي حراك وجهًا لوجه أمام فوهات المدافع وآلات الموت.
استكمالًا لما سبق، هناك عيب آخر شديد الخطورة يتمثل في كون المعلومات المغلوطة أسرع انتشارًا على مواقع التواصل عكس قرينتها الصحيحة، وتظل قضية تلاعب الروس بنتائج استقتاءات الناخبين في انتخابات الرئاسة الأمريكية أكثر الدلائل حضورًا في الذهن على ذلك، ويغذي ميل الناس دومًا لانتقاء مصادر المعلومات التي تتوافق مع أفكارهم وتساير مبادئهم انتشار المعلومات المغلوطة على أوسع نطاق في أضيق وقت.
وبالتبعية فإن غرف أصداء الأصوات والتجمعات المغلقة على مواقع التواصل تروج لانقسام أفراد المجتمع عند تناول إشكالية بعينها وبهذا لا يمكن أن يتحد الناس جميعًا على قضية بعينها حتى هؤلاء الذين يتحرون بصدق مصادر المعلومات السليمة والموثوقة من الممكن أن يتسببوا بالمشكلات سهوًا.
على صعيدٍ آخر، فإن توثيق سقوط طاغية وانهيار دعائم حكمه من الجائز أن يشجع المنشقين في دولٍ مجاورة ويحفزهم على التحرك بنفس السبيل لذات الهدف كما حدث في تونس ومصر، في الحقيقة بإمكانهم أن يحاولوا استيراد التكتيكات والطرق التي شهدوا نجاحها في الدول الأخرى لحالتهم الأمر الذى يخلف نتائج كارثية (لاختلاف الظروف الاجتماعية والتاريخية للدول وتباين أخلاق الشعوب وطبائع الأعراق) ويكفى للمرء أن يمد بصره لليبيا وسوريا لنرى مخاطر تلك الحركة.
لقد كان من السهل لنشطاء هذين البلدين أن يتابعوا نشوء الربيع العربي بمصر وتونس واستنتجوا جراء ذلك أن احتشاد الناس بالميادين كفيلٌ بإسقاط الطاغية وزبانية الظلم في أيامٍ معدوداتٍ وهذا الاستنتاج على بساطته أغفل السنين الطوال من تراكم مجهودات الحراك الاجتماعى بمصر وتونس والتى أدت أخيرًا إلى نزول الناس للشارع كحلٍ أخيرٍ للأزمة المتفاقمة، فظن أهل سوريا وليبيا أن الأمر سواء ورأوا في السلمية منفذًا لخلاصهم وهو ما يمكن للاختلاف بين ظروف المجتمعات.
توصلت دراسة “كورت وايلاند” للثورات المنشورة عام 1848 إلى أن نشطاء العصور الحديثة ظلوا يستوعبون دروس الماضي وعِبره بشكل غير سليم وأخطأوا في قراءة مواقفه وأحداث ثوراته لقرون وساهمت مواقع التواصل بدورها في تعزيز هذه الإشكالية بتحليل مستخدميها الأحداث لا تحليل صحيح يعتمد على التجربة والربط بل بكتابة 140 كلمة بشكل سطحي يتنافى مع دقة الأحداث وعمق أبعادها وتعقد نتائجها.
استكمالًا لما سبق، كتب “مالكولم جلادويل” عام 2010 يقول: “قديمًا كان النشطاء تعرفهم من قضيتهم بينما باتوا اليوم مصنفين بحسب أدواتهم”، وهذا أمرٌ شديد السوء حال أردت بناء حملات دعائية للعوام والحفاظ عليها لوقتٍ طويل.
وبدلًا من قراءة المشهد بإلقاء تبعات فشل الحراك الاجتماعي في العديد من البلدان على فكرة التغيير السلمي للسلطة ينبغي علينا تبني فهم واقعي للأحداث يمكننا من الوقوف على أسباب فشل الحشد الجماهيري بالرغم من تزايد الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائله، فليس من الضرورة أن يكون العيب في الفكرة ذاتها فربما تكون الوسائل معطوبة.
المصدر: فورين بولسي