أغلب النقاشات المعرفية السياسية، عادة ما ينتج عنها مثل هذا التساؤل المرتبط بعلاقة الإسلام بالدولة: أيهما أحق بالغلبة.. المسلم الذي يعتقد أن الغلبة للإسلام والتمكين له كمسلم، أم الذي يأخذ بسنن الكون لامتلاك قوة الأرض؟
في عالم السياسية الدولية، وهو ما يشير إليه القرآن بالاستخلاف في الأرض، منطق التنازع بشأن هذا العالم، هو بين الإنسان وأخيه الإنسان، بمطلق الإنسانية، وفي المواضيع المتعلقة بالكون وفهمه، والأرض وعلومها، والاستخلاف وإدارته، سنجد أن خطاب القرآن، موجه للإنسان بصفته إنسان مطلق، وبغض النظر عن كونه منتمٍ لدين ما، ولذا نجد أن القرآن نظر لقاعدة متداولة، مفادها أن الذي يأخذ بالسنن الكونية في إدارة العالم أو جزء منه، هو من يفوز.
مطالب الشعوب: عيش.. حرية.. عدال إجتماعية.. كرامة إنسانية
لكن القرآن في سياق آخر يتحدث عن الأديان وعن الإسلام خصوصًا، في إطار “الوسائل التنافسية” لضبط حركة الجماهير والشعوب، بمعنى آخر للمساهمة في استقرار تلك الشعوب نفسيًا ووجدانيًا، لم تكن مهمة الأديان التنافس على إدارة الدول، بل المساهمة في تهدئة روح الإنسان الذي يجب أن يستقر روحيًا، لينطلق في تلك المهمة التي خلق من أجلها وهي الاستخلاف في الأرض، ومن هنا أيضًا كان الدين في القرآن، اختياريًا للإنسان، بينما كان الاستخلاف واجبًا.
ولذا سيبقى الدين الإسلامي في ظل تحوير وظيفته الأساسية، عاملاً من عوامل إعاقة نهوض الإنسان الساكن في المناطق التي تتحدث باسمه، إلى حين يعود لمهمته الأساسية، وإلى أن يصبح كأي دين اعتناقه اختياريًا، كما قرر من خلق الكون والأرض والإنسان والدين، وعلينا التذكر أن الاستقرار النفسي والمجتمعي، الذي خلقه الإسلام في الماضي، ساهم بقوة في قيام الحضارة الإسلامية التي كانت فيما قبل العصر الحديث، في قلب العوامل التي أدت لقيام النهضة الأوربية.
إذا ما عدنا للتساؤل السابق: أي الفريقين أحق بالغلبة؟
الذي اعتقد أن التمكين سيأتي لكونه مسلم، أم الذي اعتقد أن امتلاك القوة يأتي عن طرق “ثقافة السُنن وتسخير القوانين الإلهية المبثوثة في الكون والحياة”؟
بشكل مختصر فإن غياب العقل السياسي لدى الفقهاء في عهدهم الماضي، أدى إلى تبريرهم وجود السلطة المتغلبة بالقوة، ويمكن أن تكون هذه إجابة موجزة لهذا التساؤل.
إذا ما أردنا التوضيح، فإن العقل السياسي الغائب هو الذي قدم تفسيرًا فقهيًا “راديكاليًا” لطبيعة علاقة الإسلام بإدارة الدولة، الدولة حاجة إنسانية اخترعها الإنسان بهدف إدارة اختلافاته المتعددة، ومع تطور الإنسان العلمي تطورت معه فكرة الدولة إلى أن وصلت للمعنى الحديث.
لكن التطور الذي حصل للتفسير الفقهي للدولة، وهو تفسير مبني على مذاهب تاريخية، اعترف بالمبدأ النظري لجوهر الدولة (المساواة)، لكنه لم يستطع أن يحسم موقفه من المبدأ العملي لها (المواطنة المتساوية للمواطنين داخل الدولة).
يعتمد التفسير الفقهي المعاصر للدولة على فكرة “التمكين” وأنصار هذا التفسير يعتقدون أن مجرد وعد الله لهم بالتمكين، يجعلهم يستحقون انتظاره، وعمليًا هم يمارسون “فقه الانتظار” بدل “فقه التمكين”، بينما تجاوزهم الآخرون، لأن لديهم فهم لإدارة الدولة، بل قد تجاوزوا هذا الفهم، إلى فهم إدارة السياسة الدولية.
الدول لا تقوم على فقه التمكين، لأن التمكين رؤية عقدية مغلقة تخدم رؤية أحادية لجماعة ما، أما الدولة فتقوم على فكرة عملية، تستطيع بموجبها إدارة الاختلافات الطبيعية داخل حدودها، وهذه الفكرة العملية هي “المواطنة”، وتتعارض الأخيرة مع فقه “التمكين”، والمواطنة فكرة قائمة على احتواء التعدد داخل وحدة الجغرافيا، وتستطيع الدولة عبر مرجعية المواطنة إدارة الاختلافات مع الحفاظ عليها، لكن التمكين طريق أحادي لتمكين فئة محددة من السيطرة الديكتاتورية.
العقدة الرئيسية في فكرة التمكين هو تقديمها من قبل أنصارها كفلسفة تهدف لإقامة الدين، (الإسلام هنا) وليس لإقامة الدولة، ومن هنا تم تقديم تفسير متعسف لفكرة أن “الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف، عقيدة وشريعة”، وتصبح الدولة، وسيلة لتحقيق غاية الإسلام.
لقد استطاعت هذه الرؤية قلب الأمور فيما يتعلق بطبيعة وظائف (الدين والدولة والإنسان)، في السياق الطبيعي، الدين والدولة هما وسيلتان لغاية واحدة هي الإنسان، الدولة وسيلة مادية جمعية توافقية يستخدمها الإنسان لإدارة شؤونه الدنيوية بطريقة تضمن وجود البيئة الآمنة لتعايش اختلافاته الفكرية وصراعاته الاقتصادية، أما الدين فوسيلة روحية لهدايته وتحقيق انسجامه الروحي مع الحياة، الدولة تستطيع بأشكال متعددة أن تحقق للإنسان استقراره السياسي وأمانه الاقتصادي لكنها لا تستطيع منحه استقراره الروحي، لأن هذا منوط بقناعاته أولاً وباختياره أو عدم اختياره لنوع اعتقاده ثانيًا.
من هنا فإن العلاقة بين ثلاثية (الدين والإنسان والدولة)، وفقًا للرؤية الحداثية للدولة، تسير بشكل واقعي، لأن هناك توازن بين التنظير وبين التطبيق العملي للوظائف وللعلاقات بين تلك الثلاثية، فالدولة تستطيع تأمين حرية الاعتقاد للأديان أو المذاهب داخل الدين الواحد، لكنها لا تغدو دولة تعبر عن جميع مواطنيها، في حالة فرضها لرؤية دينية معينة، وستفقد وظيفتها الأساسية (إدارة الاختلافات)، لأنها ستتحول إلى أداة صراع.
تبدو مشكلة الرؤية “التمكينية” في كونها تتعامل مع الدين (الإسلام هنا) في كونه غاية، ومع الإنسان في كونه وسيلة للدين، وهذا الوضع المقلوب والمنافي حتى لطبيعة النظرة القرآنية للإنسان، يجعل من الإنسان مستباح الدم والعرض والعقل، لأن هذه الرؤية وهي بطبيعتها انشطارية أي متعددة الجماعات، تعتقد أن السعي لبناء دولة وسيلة لغاية تمكين الدين وليس لغرض رعاية مصالح الإنسان.
يبقى التساؤل: هل الدين (الإسلام هنا) يمنع قيام الدولة؟ وهل يمكن الاستغناء عنه من قبل الدولة؟
الدين ظل تاريخيًا، عاملاً من عوامل استقرار الدول، لكنه لم يكن شرطًا لوجودها، بمعنى أن الدولة تحتاج للدين لمساعدتها في استقرار المجتمع لكي تمارس أدوارها المنوطة بها، والدين يحتاج للدولة كبيئة آمنة وحرة لانتشاره، وإذا ما تحدثنا عن الإسلام، فإن مشكلة الدولة المعاصرة ليست مع الإسلام ذاته، بل مع الرؤى التدينية التي تحاول فرض نفسها على الإسلام، قبل فرض نفسها على الدولة.
طول تاريخه، ظل الإسلام أحد العوامل الديمقراطية التي منحت البيئة العربية الصحراوية فرصتين: الأولى في بناء الدول، والثانية في بناء الحضارات، ومن المفارقة أن هذه البيئة العربية نجحت بشكل منقطع النظير في الفرصة الثانية، لكنها لم توفق في الأولى، بمعنى آخر نجح الإسلام في تحويل العرب من بيئة منغلقة على الذات ومنسدة الأفق تجاه الآخر، إلى مجتمع تجاوز في انفتاحه جغرافيا الصحراء إلى ما بعد البحار، لقد نشأت مجتمعات حضارية مدنية، عندما كان الإسلام هوية حضارية تعبر عن جميع ساكني جغرافيا العالم الاسلامي، لكن الإسلام ذاته لم يسطع أن يساعد العرب والمسلمين في بناء الدولة التي تليق بحضارتهم، لقد نشأت دول كثيرة سادها التناحر السياسي واتسمت بالتوريث، لكنها لم تتحول إلى دولة ذات بنية قانونية وصبغة مؤسسية، بمعنى آخر أقام المنتمون للإسلام حضارة لكنهم لم يبنوا “دولة حضارية”.
مرة أخرى هل كان ذلك بسبب الاسلام؟ في تقديري لا أعتقد أن الدين الذي ساهم بقيام الحضارة، يمكن أن يكون مانعًا لقيام “الدولة الحضارية”، وبالمقارنة مع بقية الأديان فإن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تتسم بنيته الفلسفية بقيم الديمقراطية ويحمل طابعًا علمانيًا في نظرته لطبيعة الدولة، وعليه فإن النتيجة النهائية من قصة نجاح المسلمين ببناء حضارة وفشلهم في بناء “الدولة الحضارية”، له علاقة بفكرة حيادية الدولة وعدم تدينها، لقد فشل المسلمون في التقاط هذه الفكرة، فكرة بشرية الدولة التي أكدها القرآن، وطبقها النبي في مدينته المنورة، نعم، لا يمكن للدول أن تصبح مؤسسية ومدنية، طالما أضحت دينية، وهذا ما أفصحت عنه قصة الدول في التاريخ الإسلامي.
سينتج عن هذا النقاش تساؤل مرتبط بمرجعية الدولة، وبالطبيعي فإن مرجعية الدولة التشريعية، هي مرجعية وضعية، ومعنى وضعية، نصوص يكتبها البشر بعقولهم، تستمد هذه المرجعية روحها من المبدأ الجوهري لفكرة الدولة “المواطنة”، وتستند هذه المرجعية إلى مبادئ كلية جامعة (المساواة والعدل والحرية)، تسمى هذه المرجعية “الدستور”، ونصوص الدستور يجب أن تكون واضحة المعنى ودقيقة اللفظ، ويصبح هذا الدستور مرجعية عملية لصياغة كل قوانين الدولة.
ميزة هذه المرجعية أنها لا تجعل المواطنين عرضة للصراع الذي سينتج عن التخندق حول التفسيرات المتناقضة للمرجعيات الدينية أو الإيدلوجية غير الدينية كونها مرجعية وضعية وطنية، قائمة على مبادئ كلية، لا تتعارض والروح العامة للدين، ولا القيم العامة للأيدلوجيات، ولكنها ترفض أن تكون مطية لتفسيرات وضعية خاصة.
عندما نقول تفسيرات وضعية خاصة، فيمكن توضيح ذلك، التفسيرات المذهبية للإسلام كمثال، هي تفسيرات وضعية، بمعنى صاغتها فهوم بشرية، ولكن أصحابها المتدينون يرفضون الاعتراف بوضعيتها، مع أن من أنشأ تلك المذاهب لم يقل إنها ليست وضعية، وتحتكر كل رؤية دينية، فرضية التعبير الحقيقي عن الإسلام، ويسري الأمر على بقية الرؤى الأيدلوجية غير الدينية.
بالنسبة لوضع الشريعة الإسلامية في الدستور، ووفقًا لما سبق، من المفترض أن يتم صياغتها صياغة وضعية عامة، معبرة عن القيم الكلية للإسلام، وليس عن التفسيرات التاريخية الخاصة والمتناقضة، لكون تلك القيم لا تتعارض مع المبادئ الكلية للدولة.
من الناحية العملية، فإن الحزب الإسلامي الوحيد الذي أكد حتى الآن أهمية صياغة الشريعة صياغة وضعية، هو حزب العدالة المغربي.