بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي، أدرك القياصرة الروس أن أحلام الإمبراطوريات انتهت إلى غير رجعة، وأن أقصى ما يمكنهم فعله فيما هو قادم من تحركات، هو الاصطفاف في محاور متناقضة، تضمن التوازن على الساحة السياسية الدولية، وعدم انفراد أحد بزعامة العالم، حسب ما تقتضيه الحالة السياسية للعالم، خصوصًا في ظل عدم وجود حروب عالمية بالمعنى الذي كانت عليه في مرتيها الأولتين.
تحالف عسكري سياسي
الخطة الروسية دعمتها تحركات روسيا لتكوين تحالف عسكري وسياسي، يضم روسيا والصين وسوريا وكوريا الشمالية ودول أخرى خلال الفترة الأخيرة، لإظهار زيف الادعاء الأمريكي بقيادة العالم لا سيما أن مثل هذه الدول تمتلك القدرة على تحقيق التوازن.
التحالف الجديد اعتمد في البداية على التاريخ الطويل لروسيا من التدخل والحروب في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يفسر عدم تردد بوتين في اتخاذ قراره بالتدخل في الأزمة السورية إلى جانب الرئيس بشار الأسد، ضد المعارضة المسلحة وبعض التنظيمات الإرهابية، والمشاركة في الحرب الأهلية السورية، وهي الخطوة التي عدها المحللون بمثابة المغامرة، ضمن تطلعات بوتين الجيوسياسية الراغبة في استعادة العهد السوفييتي، ما يعد رسالة للجميع بأن الغياب الروسي عن المشهد الدولي قد انتهى، بالإضافة إلى رسائل أخرى من دعمها الحكومة العراقية، أهمها أن الروس أكثر جدية في تسوية مشكلات المنطقة من الأمريكيين.
أحلام القيصر
لم تكتف روسيا بوتين بفكرة “الاصطفاف” التي بدأتها بعد “الطلاق السياسي” لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وبدا أن أحلام القيصر الروسي لن تتوقف عن محاولته شبه المستحيلة لإحياء فكرة الاتحاد السوفيتي، وهي الأحلام التي تفسر قيام روسيا بضم منطقة القرم في 2014، وهجوم الموالين لموسكو شرق أوكرانيا على الحكومة المنتخبة، والقيام بمناورات عسكرية واسعة النطاق قرب الحدود مع أوكرانيا، وغيرها.
الشيشان .. نقطة البداية
لم تقف أحلام بوتين عند هذا الحد، بل سعى إلى دعم مناصرين له، أو على الأقل غير الرافضين لسياساته، للوصول إلى سدة الحكم في دول التماس الحدودي من “قطع” الاتحاد السوفيتي السابق، وبدأها بأهم نقطة تماس وهي الشيشان، حينما دعمت فوز رمضان قديروف، برئاسة ثاني أكبر جمهوريات الاتحاد الروسي الـ22 ، وظل قديروف البالغ من العمر 39 عامًا، يحكم الشيشان منذ عام 2007، قبل أن تنتهي ولايته الرئاسية للجمهورية في أبريل من العام الجاري، ليتم تعيينه من جديد رئيسًا مؤقتًا للشيشان حتى يتم عقد الانتخابات، مما يعني أن قيادة قديروف للجمهورية تعني تحقيق قدر كبير من الاستقرار في منطقة، كان يمكن أن تصبح “قنبلة موقوتة” بالنسبة لروسيا.
دعم عسكري
إلى جانب الشيشان، لجأت موسكو إلى تزويد جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق بالطائرات الحربية، حيث سلّمت جمهورية بيلاروسيا 4 طائرات من طراز (ياك-130)، وسلّمت كازاخستان 4 طائرات من طراز (سو-30إس إم)، وفي أكتوبر الماضي، توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى كازاخستان لبحث التعاون ضمن إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وغيرها من الخطوات التي تخطت الواقع الجغرافي الحدودي للطموح الروسي، ليمتد إلى شرق أوروبا، مما أسفر عن فوز معارضين للتوجهات الأوروبية، ومؤيدين للتقارب مع روسيا بمنصب الرئاسة، في كل من بلغاريا ومولدوفا.
زعماء مقربون
وجاءت نتائج الانتخابات الأخيرة في مولدوفيا بفوز زعيم الاشتراكيين إيغور دودون، المؤيد للتقارب مع روسيا على حساب العلاقات مع أوروبا، لتؤكد أن أهمية مولدوفيا لا تنبع فقط من كونها دولة سوفيتية سابقة فحسب، بل لأنها تحتوي على انقسامات داخلية بين التقارب مع روسيا، وأخرى تنادي للتقارب مع الغرب، الأمر الذي منع البرلمانيين من الإجماع على نهج أو مسار يوحدهم ويخرج البلاد من أزمة السلطة المزمنة فيها، وجاء فوز دودون على منافسته مايا ساندو اقتصادية البنك الدولي السابقة والمؤيدة للغرب، بمعنى فقدان الثقة بالزعماء الموالين لأوروبا في الجمهورية السوفيتية السابقة.
الوعود التي تعهد بها الرئيس الجديد تنبئ بعهد جديد في العلاقات المولدوفية الروسية، بعد أن كانت البلاد قد وقعت على اتفاقية سياسية وتجارية مع الاتحاد الأوروبي في 2014، أضرت بعلاقاتها مع موسكو، ويريد الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه دودون إلغاءها، والانضمام إلى الاتحاد الجمركي الأوراسي، وهو استتباعًا لتصريحات دودون التي قال فيها: “دون إنشاء علاقات جيدة وصداقة واستراتيجية مع روسيا الاتحادية، فإن جمهورية مولدوفيا ليس لديها مستقبل، كانت لدينا علاقات صداقة طيبة على مدى مئات السنوات”، واعدًا بتغيير الجزء الاقتصادي من اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي وقعتها السلطات المولدافية الموالية لأوروبا في عام 2014.
بلغاريا وراديف
وفي بلغاريا، فاز رومين راديف القائد السابق للقوات الجوية، المبتدئ في السياسة، والمناهض للهجرة نتيجة خيبة أمل البلغاريين من عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي، والمقرب جدًا من موسكو بمنصب الرئيس، بعد منافسة شرسة مع مرشحة الحزب الحاكم ورئيسة البرلمان تسيسكا تساتشيفا.
واستغل راديف السخط على حكومة يمين الوسط برئاسة رئيس الوزراء بويكو بوريسوف، بسبب عدم تحقيق تقدم في القضاء على الفساد، إضافة إلى بطء إصلاح القطاع العام.
وقال عشية الانتخابات التي واجه فيها مرشحة الحزب الحاكم ورئيسة البرلمان تسيسكا تساتشيفا: “حتى وقت قريب كنت أقود مقاتلة سوفيتية، تخرجت من أكاديمية أمريكية، لكنني جنرال بلغاري، قضيتي هي بلغاريا، وبلغاريا تعتمد إلى حد كبير على الغاز الروسي، لذا أؤيد تمامًا دعوات رفع العقوبات الأوروبية عن روسيا”.
وعلى الرغم من أن الرئاسة منصب شرفي في بلغاريا، ومعظم قرارات البلاد تتخذها الحكومة، إلا أن الرئيس الذي يقود القوات المسلحة، يمكن أن يوجه الرأي العام كما يملك سلطة إعادة القوانين إلى البرلمان.
أفضلية سياسية
النقطة المهمة في هذا الفوز أنه يمنح روسيا الأفضلية في بلغاريا على حساب الغرب، فرئيس الحكومة البلغارية المحافظ بويكو بوريسوف، كان أعلن، في وقت سابق، عزمه الاستقالة في حال هزيمة مرشحته المؤيدة للاتحاد الأوروبي، وقال: “لن نشارك بأي شكل في الحكومة إذا خسرنا”، ما يخلي الساحة السياسة في بلغاريا أمام الدعوات السياسية المطالبة بالتقارب مع الروس، بمعنى أن فوز راديف قد يشكل دفعًا إضافيًا لبلغاريا، الشيوعية سابقًا، إلى فلك روسيا.
تصويت أممي صادم
بعيدًا عن الانتخابات التي تشهد يومًا بعد الآخر هروب للدول الشيوعية بأوروبا الشرقية سابقًا من التجربة الأوروبية، والالتفات للتجربة الروسية، برز للدبلوماسية الروسية دورًا أكبر خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يمكن قراءته من نتائج التصويت الأخير بالأمم المتحدة على قرار أممي يعتبر الوجود الروسي بشبه جزيرة القرم احتلال، وهو القرار الذي لم يحظ سوى بموافقة 73 دولة من أصل 172، وهو ليس الأمر الوحيد اللافت، والذي يدل على نجاح الدبلوماسية الروسية، بل إن ثلاث دول سوفيتية صوتت ضد المشروع الأوكراني، وهي بيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا، ما يعني أن تلك الدول الثلاثة، تحيزت ضد الولايات المتحدة الداعمة لأوكرانيا، وفضلت التقارب مع موسكو، الأمر الذي بدا صادمًا للأوكرانيين.
الخلاصة
الخطوات الأخيرة تدل على أن روسيا القيصرية بدأت في تجنيد قوتها العسكرية، ودعمها المخابراتي، وسياستها الناعمة، وكل ما يمكن تجنيده لإعادة الاصطفاف لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، بعد “طلاقها السياسي” غير البائن على ما يبدو، وفي انتظار ما ستسفر عنه قادم الأيام.